تأثير السياسة الأموية والعباسية على رواية الأحاديث والعقائد
قلت في كتابي (عقد الزبرجد النضيد بشرح جوهرة التوحيد):
التدليل على قضية التأثر بالاتجاه السياسي في التفويض أو القول بالظاهر:
قد ذكرنا أن من أهم أسباب نشوء مذهب التفويض التأثر بالاتجاه السياسي أي أهواء الخلفاء والسلاطين في زمن الأمويين والعباسيين، ومن الأدلة على انسياقهم وراء هوى السلطان المجسم في هذه القضايا وضد أئمة آل البيت عليهم سلام الله تعالى: ما ذكره الذهبي في ((سير النبلاء)) (12/24) حيث قال:
[وفي سنة 234 أظهر المتوكل السُّنَّة وزجر عن القول بخلق القرآن وكتب بذلك إلى الأمصار واستقدم المحدِّثين إلى سامراء وأجزل صلاتهم ورووا أحاديث الرؤية والصفات].
ويقول الحافظ السيوطي في ((تاريخ الخلفاء)) (1/346):
[فأظهر ـ أي المتوكل ـ الميل إلى السُّنَّة ونصر أهلها ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق وذلك في سنة أربع وثلاثين واستقدم المحدثين إلى سامرا وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور فاجتمع إليه أيضاً نحو من ثلاثين ألف نفس وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم
له].
قول السيوطي (فأظهر المتوكل الميل إلى السنة) يثبت أنه كذاب دجال ظالم عسوف وهو لم يهتم إلا بسنة الأمويين لتحقيق مصالحه ومآربه لأنه مشغول بالسكر والعربدة بين الجواري والغلمان.
لاحظ كيف يُخْضِعُ أولئك المحدِّثون ـ المأجورون الذين يحدِّثون بأحاديث الرؤية والصفات بأمر السلطان ـ عامةَ الناس لأولئك الحكام الطغاة المنحرفين من النواصب بشهادة الذهبي الذي يقول في ((سير أعلام النبلاء)) (12/35):
[وفي سنة ستٍ وثلاثين ـ أي سنة 236هـ ـ هدم المتوكل قبر الحسين رضي الله عنه، فقال البساميُّ أبياتاً منها:
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتلــه فتتبعـــوه رميمــــــاً
وكان المتوكل فيه نصب وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور، وأمر أن يُزْرَعَ ومنع الناس من انتيابه].
فهذه أفاعيل ناصر الأحاديث والداعي لها والآمر بها! الذي كان يسكر سكراً شديداً (كما في السير للذهبي 12/39) ويسفك دماء المؤمنين ظلماً وعدواناً! ويفعل الأعاجيب!
فكان فعل المتوكل المجسم الناصبي هذا في أحاديث الصفات والرؤية منعطفاً خطيراً في فكر أهل السنة وتحريضاً لهدم التنزيه ونبذ حب آل البيت عليهم سلام الله تعالى ومعاداة معتقدي التنزيه من أهل الحق سواء من أهل السنة أو من المعتزلة أو من غيرهم ونشراً للتفويض الذي هو الإيمان بظواهر الآيات المتشابهة وأحاديث الصفات التالفة!
وبقي هذا الذي فعله المتوكل في تيار الحنابلة ومن يتسمون بأهل الحديث ـ مع أن في أهل الحديث مَنْ يخالفهم في هذه الأفكار المرفوضة ـ إلى زمن ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ، ولا أدل على ذلك من محاربة الحنابلة لابن جرير الطبري وكان على رأس أعدائه الذين يحاربونه من أئمة الحنابلة أبو بكر بن أبي داود الحنبلي الناصبي المجسم المتوفى سنة (316هـ)!
(وهو ابن أبي داود صاحب السنن وقد شهد عليه أبوه بأنه كذاب، وترجمته في
((سير أعلام النبلاء)) (13/221-237) وفيها ما جرى بينه وبين الحافظ ابن جرير).
وإنما بدأت بذكر المتوكل الذي فعل ما فعل سنة (234-236هـ) لأنه كان له أثر كبير في كتب السنن والصحاح التي أُلِّفَت في القرن الثالث الهجري. مع أن الأمر ابتدأ قبل ذلك التاريخ وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإننا نرى معاوية بعد الخلافة الراشدة وفي عصر الصحابة يقول عن كعب الأحبار اليهودي: ((ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمــار وإن كنا فيه لمفرطين)) (!!)
[رواه ابن سعد (2/357)، وذكره الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/335)، وفي ((تهذيب التهذيب)) (8/393)، وفي ((الإصابة)) (5/650)، والمزي في ((تهذيب الكمال)) (24/192) وغيرهم. وهذا مع اعتراف معاوية بأنه كان يبلو على كعب الكذب كما في البخاري، انظر الفتح (13/334)].
وقد حصلت هذه الحملة ضد آل البيت والمنزهين ومن يقف في صفهم أيضاً مرة أخرى على يد القادر بالله العباسي سنة 408هـ كما يجد ذلك من ينظر في التواريخ والسير والتراجم، ويكفي الآن أن أقول لإثبات هذا بأن الحافظ ابن الجوزي قال في ((المنتظم)) (15/125) في حوادث سنة (408هـ): [عن هبة الله بن الحسن الطبري قال: وفي سنة ثمانٍ وأربعمائة استتاب القادر بالله أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال..].
وقال ابن كثير في تاريخه ((البداية والنهاية)) (12/6): [وفي سنة ثمانٍ وأربعمائة استتاب القادر بالله فقهاء المعتزلة فأظهروا الرجوع وتبرؤا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام] لاحظ التعبير [وأُخذت خطوطهم بذلك وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنَّ بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة] والقرامطة والمشبهة زيادة لا علاقة لها بالموضوع [وصلبهم وحبسهم ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام]. انتهى من تاريخ ابن كثير. وقال ابن الأثير في ((الكامل)) (9/305) قريباً من ذلك مختصراً.
ما شاء الله تأملوا كيف يعالجون ويعاملون المسلم المخالف لهم في الفكر بالقتل وبالصلب والحبس واللعن على المنابر كما يفعل المتمسلفون الوهابيون الدواعش اليوم! لأنه نفس الفكر والمذهب!
وبعد ذلك أقول: قبل المتوكل نجد عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي المجسم يقول عن صخرة بيت المقدس: ((هذه صخرة الرحمن التي وضع عليها رجله..)).
يعني الله هو الذي وضع رجله عليها وليس رسول الله تعالى الله عن ذلك! تأملوا في هذه الوقاحة!
[كما روى ذلك ابن خزيمة في ((التوحيد)) ص (108) بإسناد صحيح. وعروة بن الزبير ينكر عليه هذه العقيدة الوثنية. فقد روى ابن خزيمة هناك فقال: ((حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قدمت على عبد الملك فذكرت عنده الصخرة التي ببيت المقدس فقال عبد الملك: هذه صخرة الرحمن التي وضع عليها رجله …)). فأنكر عليه عروة].
ونجد الأمويين يروون أحاديث جلوس الرب على العرش عن كعب الأحبار بلا حياء ولا استحياء! ومن ذلك ما ذكره الذهبي في كتاب ((العلو)) ص (364) حيث قال:
[قال أبو صفوان الأموي عبدالله بن سعيد بن عبدالملك بن مروان، ثنا يونس بن يزيد، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن كعب الأحبار قال: قال الله في التوراة: أنا الله فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي ولا يخفى عليَّ شيء في السماء ولا في الأرض. رواتــه ثقات.
وهذا الهراء الباطل ثابت عن كعب الأحبار، فالحمد لله تعالى على ظهور هذه الحقائق لنعرف مصدر تلك العقائد التجسيمية الزائغة، التي هي من وضع اليهود المشبهة!! وانظر التعليقات السابقة لهذا التعليق!! وقد أخرج هذا الهراء بهذا الإسناد بنحو هذه الألفاظ أبو الشيخ في ((كتاب العظمة)) ص (59-96) برقم (246).
أبو صفوان هذا الذي في إسناده أحد رجالات بني أمية وكان له أربعة عمومة خلفاء وهم: الوليد بن عبدالملك، وسليمان بن عبد الملك، وهشام بن عبدالملك، ويزيد بن عبد الملك. كما في ((تهذيب الكمال)) (15/37) ومن هذا يعلم أنَّ هذه الأفكار كانت تروَّج في دولــة بني أمية (!!) وأنهم كانوا يقومون بأنفسهم على ترويج التجسيم وبث الإسرائيليات (!!)
ويا قوم: إذا كان كعب الأحبار قد أسلم حقاً فلماذا يستمر في النقل من التوراة التي هـي (دينه القديم) لهذه الأمة؟! ولماذا لا ينقل من أفكار الدين الجديد دين الإسلام الذي تظاهر أنه دخل فيه ؟! وكانت التوراة كتاباً محرفاً تلاعبت به أيدي اليهود الخبيثة!! ولماذا لا ينصرف كعب الأحبار إلى القرآن الكريم ويترك تلك الكتب التجسيمية التالفة ؟! حتى أنَّ الذهبي نفسه استشنع النص التالي عقب هذا الذي قاله كعب كما سيأتي وحذف منه لفظ الثقل (!!) أي ثقل الله تعالى على العرش (!!) تغطية منه على باطله واستدلالاً بقوله الفاسد المخالف لعقيدة الإسلام لينصر قضية العلو الحسي التي هي فكرة يهودية نقضتها وهدمتها نصوص الكتاب والسنة الصحيحة التي لم تطلها أيدي هؤلاء العابثين (!!) وبهذا يتَّضح من أين جاءت تلك الأفكار والأحاديث التي تنضح بالتشبيه والتجسيم والنزعات اليهودية (!!) وانظر تمام هذه الحاشية في كتاب ((العلو)) ص (365) بتحقيقنا.
ولهذا نجد العلماء المنزهين كمالك ينكر هذه الأحاديث وينهى الناس عن روايتها ويربط ذلك بالسياسة الأموية وبكون من يرويها إما جاهلاً وإما عاملاً عند الأمويين وتابعاً لهم، يقول الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (8/103):
[قال ابن القاسم: سألتُ مالكاً عمَّن حدَّث بالحديث، الذين قالوا: ((إنَّ الله خلق آدم على صورته)) والحديث الذي جاء: ((إنَّ الله يكشف عن ساقه))
((وأنه يُدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد)) فأنكر مالك ذلك إنكاراً شديداً، ونهى أن يحدث بها أحد، فقيل له: إنَّ ناساً من أهل العلم يتحدّثون
به، فقال: من هو ؟ قيل: ابن عجلان عن أبي الزناد، قال: لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء، ولم يكن عالماً. وذكر أبا الزناد فقال: لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات] انتهى. وزاد العقيلي على هـــذه العبارة في
((الضعفاء)) (2/251): ((وكان صاحب عمَّال يتبعهم)) أي أنَّ أبا الزناد كان صاحب عامل بني أمية على المدينة وكان تابعاً لهم!! وقد توفي أبو الزناد سنة (130هـ) من الهجرة أي في أيام الدولة الأموية كما نجد ذلك في ترجمته.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (1/225) أن مالكاً كرَّه رواية أحاديث الصفات والتحديث بها.
فخلاصة الأمر أن التفويض إنما حَدَث قبل القرن الخامس وبعد عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم لتلك الأسباب الثلاثة التي ذكرناها، أما بعد القرن الخامس وبعد زمن الضغوطات السياسية على العلماء فهو مظهر من مظاهر التميع في العقيدة، والتدين الكهنوتي، وأصحابه إما جبناء، وإما تائهون، وإما من المقلدة المنغلقين عقلاً وفكراً.
وأعجبني جواب ابن العربي المعافري المالكي الأشعري لأحد العلماء حيث احتج ذلك العالم على ابن العربي بأن مذهب ابن العربي أشعري في الاعتقاد ليلزمه بكل ما قاله الأشعري فقال له: [إذا سمعت أني أشعري كيف حكمت بأني مقلد له في جميع قوله ؟! وهل أنا إلا ناظر من النظار أدين بالاختيار، وأتصرف في الأصول بمقتضى الدليل].
ابن العربي المالكي: ((العواصم من القواصم)) الطبعة الكاملة ص (55). نشر وتوزيع دار الثقافة ـ الدوحة / الطبعة الأولى 1413هـ ـ 1992م، بتحقيق أخينا الدكتور الفاضل عمار طالبي
____________________________
العوامل الأموية في تحريف الأحاديث (الجزء الثالث): - بقلم حسن السقاف -
معاوية والأمويون والعباسيون
Return to “معاوية والأمويون والعباسيون”
Jump to
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↳ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↳ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↳ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↳ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↳ شرح الحديث
- ↳ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↳ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↳ القواعد والأصول العقائدية
- ↳ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↳ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↳ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↳ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↳ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↳ السيرة النبوية
- ↳ قضايا تاريخية
- ↳ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↳ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↳ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↳ الردود على المخالفين
- ↳ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↳ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↳ القواعد الأصولية الفقهية
- ↳ مسائل فقهية عامة
- ↳ المذهب الحنفي
- ↳ المذهب المالكي
- ↳ المذهب الشافعي
- ↳ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↳ النحو والصرف
- ↳ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↳ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↳ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↳ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↳ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↳ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد