الحلقة (3) في موضوع العرش:

مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
أضف رد جديد
عود الخيزران
مشاركات: 777
اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm

الحلقة (3) في موضوع العرش:

مشاركة بواسطة عود الخيزران »

الحلقة (3) في موضوع العرش:

معنى: {وكان عرشه على الماء}:

وأما قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} هود: 7، فمعناه: وكان أصل هذا الكون والملك من ماء، فأول ما خلق الله الماء ثم خلق منه السموات والأرض.
وحسب التصور المغلوط للمجسمة وكثير من العامة يكون معنى الآية: أن هناك كرسياً أو (كنباية) فخمة لله تعالى وكانت مثل السفينة العظيمة الكبيرة تطيش على وجه الماء أو تبحر فيه! وهم يقولون: إن العرش أعظم المخلوقات فعلى هذا يكون الماء أعظم وأكبر منه كنسبة السفينة إلى البحر (الماء) الذي يحملها!

وإلا فما معنى الآية إذاً؟!
الله تعالى خاطبنا باللغة العربية وبلسان عربي مبين فيه الاستعارات والمجاز والبلاغة!

نعود فنقول إن المعنى الصحيح للآية الكريمة عندنا هو: أن أصل مادة هذا الكون كانت من ماءٍ خَلَقَهُ الله تعالى وأبرزه من العدم. وحَرْفُ (على) يأتي أحياناً بمعنى (من) كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}. أي: من الناس يستوفون. وكما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}. أي: إلا من أزواجهم.

قال الحافظ ابن الجوزي (510-597هـ) في "زاد المسير" (6/133):
[قوله تعالى: {الذين إذا اكتالوا على الناس} أي: من الناس. ف «على» بمعنى «من» في قول المفسرين واللغويين].
وقال ابن الجوزي أيضاً هناك (4/403): [قوله تعالى: {إِلا على أزواجهم} قال الفَرَّاء: «على» بمعنى «مِنْ»].
والفَّرَاء من السلف (ولد سنة 144هـ وتوفي سنة 207هـ). وكلامه في تفسير {على أزواجهم} في كتابه "معاني القرآن" (3/188)، وكلامه في تفسير {على الناس} في "معاني القرآن" (5/193) أيضاً.

وقد علمنا من محكم التنزيل أن الله تعالى ليس كمثله شيء ولا يشبه شيئاً ولا شيء يشبهه وقد ورد أن إبليس له عرش على الماء ويستحيل أن يكون الله يشبه شيئاً من خلقه! ففي صحيح مسلم (2813) عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة..).

فلم يبق إلا أن للآية الكريمة معنى آخر غير ظاهرها المتبادر للعامة {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} فلا بد لأهل الاستنباط والفهم أن يخرجوا المعنى ولا يبقوا القضية عائمة مشوشة في أذهان بسطاء الناس!

وقد روى بن أبي حاتم في تفسيره (8/127) بعض تفسير ذلك عن مجاهد فقال:
[حدثنا أبي، ثنا هشام بن خالد، ثنا شعيب بن إسحاق، ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وكان عرشه على الماء} ينبئكم تبارك وتعالى: كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض].
إسناده صحيح وهو في تفسير ابن جرير وابن كثير.

وقال السيوطي في الدر المنثور 1/106):
[وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات} قال: إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء فلما أراد أن يخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا ففتقها..].

وقال الإمام أبو منصور الماتريدي (6/100):
[{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} إن كان العرش اسم الملك والسلطان على ما قال بعض أهل التأويل، فتأويله – واللَّه أعلم – كان أظهر ملكه عن الماء {على} بمعنى {عن} وذلك جائز في اللغة؛ لأن بالماء ظهور كل شيء وبدأه؛ كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}..].

وقد تتبعت الأحاديث فلم أجد فيها ما أراه يثبت أن العرش جسم مخصوص دون السموات والأرض، ومن قرأ ما علقته في تحقيق كتاب "العلو" للذهبي يجد أننا لم نرَ لفظ العرش ثابتاً في لفظ هناك يقطع به كما يعلم ذلك مَنْ يتتبع ما علَّقناه هناك على تلك الأحاديث.
فنقول للعاقل الذي لم يتشنج بالتعصب ولم يتقيد بالتقليد: إذا أمكن تأويل الآيات التي ورد فيها ذكر العرش بأن المراد به المُلْك كان معنى العرش هو جميع الخلق ولم يكن جسماً مخصوصاً، وذلك بأنْ تحمل الآيات الأولى (في الحمل أي: يحمل. والحف أي: حافين) على أنّ إدارة الموقف يوم القيامة موكولٌ حَمْلُهُ وسوق الخلق إلى جزائهم لثمانية صفوف من الملائكة. وتحمل الآية الأخيرة على أنَّ جميع الخلق وهــو مُلْكُ الله تعالى ابتدأ الله تعالى خلقه من ماء، فحينئذٍ يكون معنى لفظة (على) في الآية الكريمة هو (مِنْ)، ويستقيم المعنى لغة وشرعاً.

وفائدة التعبير عن ملك الله تعالى وهو جميع المخلوقات وكل ما سواه جلَّ جلاله بالعرش شيئان وهما: الهيمنة من (عرش المَلِك)، والحدّية والانتهاء لأنَّ العرش هو السقف وهو حد من الحدود يدل على انتهاء الجهة.
بقي أن أنبه على أنه من قال بأن العرش جسم عظيم مخصوص لا ضير عليه وله ذلك، ولكن الصحيح في معناه ما بيناه.

أرجو أن أكون قد استطعت أن أبين هذه القضية بكلام واضح سهل مدلل. والتوفيق من الله تعالى.
والله أعلم.

أضف رد جديد

العودة إلى ”مسائل وقضايا التوحيد والإيمان“