جواب وإشكال على من يدعي أن مذهب التفويض هو مذهب الصحابة رضي الله عنهم:
قال سماحة السيد السقاف:
جوابنا لمن مال إلى التفويض وأدعى أنه مذهب الصحابة وأنه الحق أشكلنا عليه بالتالي : هل يعتمد المفوضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم تأويل آيات وأحاديث الصفات التي قالها ولا يعرف معناها ــ إذا قالوا أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله تعالى لظاهر الآية ــ نقول:
وكيف يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة بتعلم التأويل كقوله في الحديث الصحيح لابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )؟! وهو حديث صحيح تخريجه في الحاشية التالية، وكيف يمن الله على عباده الأنبياء بأنه سيكرمهم ويعلمهم تأويل الكتاب كما قال لسيدنا يوسف عليه السلام: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيل الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} والأحاديث هنا ليست المنامات والرؤى وإنما الكتب المنزلة لقوله تعالى :{ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} الزمر : ٢٣. فسيدنا يوسف عليه السلام أكرمه الله سبحانه بتأويل الأحاديث وكذلك بتأويل الرؤى ؛ لذلك قال الله تعالى له : {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} يوسف : ٦ . قال الطبري في التفسير (٧/ ١٥٠): [قوله: ويعلمك من تأويل الأحاديث قال : تأويل الكلام العلم والكلام. وكان يوسف أعبر الناس وقرأ: ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلما] ، وفي معنى (حكمة ) جاء قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} النساء : ١٠٥. {مَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ } آل عمران: ٧٩. وقال القرطبي في تفسيره (۱۱۲/۹): [ وقد قيل في تأويل قوله : ويعلمك من تأويل الأحاديث أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد فهو إشارة إلى النبوة وهو المقصود بقوله :[ويتم نعمته عليك أي بالنبوة ]، وقال الفخر الرازي في تفسير الآية (٤٩٦/٨ ) : [ والثاني: تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله وتأويلالأحاديث المروية عن الرسول الله ].
وقال إمام الحرمين في "الإرشاد" ص (٤٢) من الطبعة المصرية / مكتبة الخانجي : [ والإعراض عن التأويل حذاراً من مواقعة محذور في الاعتقاد يجر إلى اللبس والإيهام، واستزلال العوام، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون]. قال العلامة الزبيدي في شرح القاموس : [ وفي أَمْرِه لُبس بالضم أَي شُبْهَةٌ. وكذا قال الزمخشري في "أسرار البلاغة"، مع أنه في القرآن الكريم: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ق: ١٥ ، قال الحافظ أبو حيان في "البحر المحيط" (٥٣٣/٩): [ أَيْ خَلْطٍ وَشُبْهَةٍ وَحَيْرَةِ. وكأنه يجوز فيها الوجهان. وقال الإمام الغزالي أيضاً في كتابه "روضة الطالبين وعمدة السالكين" ص (۱۳۰) ما نصه: واعلم أن الإعراض عن تأويل المتشابه خوفاً من الوقوع في محظور من الاعتقاد يجر إلى الشك والإيهام، واستزلال العوام، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين، وتعريض بعض آيات كتاب الله العزيز إلى رجم الظنون .... وتأويلات الإمام الغزالي المشهورة في كتبه وشرحه للصفات في كتاب "الإحياء" وغيره يفيد عدم ميله لمذهب التفويض البتة . وأما كتاب الإمام الغزالي "إلجام العوام عن علم الكلام" فليس فيه عدم التأويل أو عدم تفسير الآيات والأحاديث وإنما فيه عدم جواز خوض العامة في ترهات علم الكلام والفلسفة وعدم جواز التخبط في ذات الله تعالى بلا علم ولا قواعد ولا معرفة، فتأمل قوله في ذلك الكتاب : إن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور : التقديس ، ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز ، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة.... يعني الرجوع لأهل العلم الذين يفسرونه ويؤلونه ويبينون معناه. ولا يعني هذا أنه لا يجب عليهم تأويلها وفهم المعاني الصحيحة لها أو تحريم سؤال العلماء عن معانيها، لا سيما والإمام الغزالي والفخر الرازي وغيرهما شرحوا معانيها وبينوا المراد منها.
وإنما المراد أنه ليس للعوام ومَنْ في معناهم من الطلبة المبتدئين أو لغير أهل المعرفة الغوص في الفلسفات المتعلقة بالخوض في ذات الله تعالى. وإذا وقع في مثل كتاب "إلجام العوام" أو في غيره عدد من العبارات والأفكار التي لا نوافق عليها فإنما نردها للدليل عندنا على أحقية التأويل، وللخط العام الذي مشى عليه هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى. وعلى كل حال فالواجب أن نتبع ما هو الصواب عقلاً ونقلاً ، والصواب هو بيان معانيها حسب اللغة والسياق وآيات التنزيه المحكمة .
جواب وإشكال على من يدعي أن مذهب التفويض هو مذهب الصحابة رضي الله عنهم:
-
- مشاركات: 943
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm