تحريم تَتَبُّع رخص العلماء وإفتاء الناس بالأسهل الأهون

توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
أضف رد جديد
الباحث المفكر
مشاركات: 82
اشترك في: الأربعاء سبتمبر 03, 2025 8:02 pm

تحريم تَتَبُّع رخص العلماء وإفتاء الناس بالأسهل الأهون

مشاركة بواسطة الباحث المفكر »

.
تحريم تَتَبُّع رخص العلماء وإفتاء الناس بالأسهل الأهون

من كتاب (صحيح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)
  • واعلم يرحمك الله تعالى أنه يحرم على الإنسان المسلم أن يُلَفِّقَ بين الأقوال ويتتبَّع رخص العلماء، ويبحث عن الأسهل والأهون الذي يُلَبّي له شهواته وأغراضه حيث يختار لنفسه الأسهل والأهون من غير دليل مُعْتَبَر شرعاً يُرَجِّحُ أو يصحح تلك المسألة وإنما هو هوى النفس المجرَّد الذي يغطيه ويستره بِحُجَّة أنَّ في (المسألة قولان) واختلفوا فيها..
    والإنسان الذي يتظاهر باتِّباع أقوال العلماء فينتقل من مذهب إلى مذهب ويقفز من قول إلى قول لتلبية شهوات نفسه وإن تَغَطَّى وتستَّر أمام الناس بالشريعة والاقتداء بالعلماء، فإنه في الحقيقة عند الله تعالى مُتَّبِعٌ لهواه يركض وراه شهوات نفسه، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} الفرقان: 43-44، وقال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} البقرة:87، وقال تعالى {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} المائدة: 70، وقال تعالى {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} النساء: 135، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} سورة ص: 26، وذم الله رجلاً في كتابه العزيز كان عالماً في قومه فقال: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } الأعراف: 17، وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف: 28، وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} القصص:50، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الجاثية: 18، وقال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} المائدة: 77.
    فمن هذه الآيات الكريمة نعلم علماً مؤكداً بأَنَّ من أصول الدِّين عدم اتِّباع الهوى، وتَتَبُّعِ رخص العلماء نوع من أنواع اتِّباع الهوى فهو محظور لذلك ومحرّم كما سيتبين لك من كلام العلماء الذي سيأتي إن شاء الله تعالى.
    وعن سيدنا أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات)). رواه البخاري (6487) مسلم (2823) وتقاربا في اللفظ.
    ومُتَتَبِّعُ رخص العلماء وأقوال الناس راكض وراء شهواته، وقد أجمع العلماء الذين يُعتَدُّ بهم على تحريم التساهل في الفتوى والحيد عن القول الصحيح الراجح، فيجب على مَنْ كان مجتهداً أن يتَّبع الدليل وعلى مَنْ كان مُقَلِّداً أن يَتَّبعَ الصحيح الراجح في مذهب إمامه، وإليك نصوص العلماء في هذا المعنى:
    1- قال الحافظ ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/112) بعد أَن روى قولَ سليمان التيمي ((لو أَخذتَ برخصة كُلِّ عالِمٍ اجتمع فيك الشر كله)) ما نصه: ((هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً)).
    2- وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((شرح المهذب)) (1/55):
    ((لو جاز اتِّباع أيِّ مذهبٍ شاء لأفضى إلى أن يَلْتَقِطَ رُخَصِ المذاهب مُتَّبِعاً هواه، ويتخيَّرَ بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدّي إلى الانحلال من رَبْقَةِ التكليف)) انتهى.
    وقد نص على ذلك أيضاً الحافظ ابن الصلاح رحمه الله تعالى في كتابه "أدب المفتي والمستفتي" (1/46).
    3- وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى أيضاً في ((شرح المهذب)) (1/46):
    ((يحرم التساهل في الفتوى، ومَنْ عُرِفَ به حَرُمَ استفتاؤه)) انتهى.
    4- وقال العلامة الشاطبي في ((الموافقات)) (4/134):
    ((...فإنَّه يُفضي إلى تَتَبُّع رُخَصِ المذاهب من غير استنادٍ إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أَنَّ ذلك فسق لا يَحِلُّ)) انتهى.
    وقوله (من غير استنادٍ إلى دليل شرعي) أي مُعْتَبَرٍ، وإلا فتارك الصلاة قد يَحْتَجُّ بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} الماعون:5.
    5- وقال الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (8/90):
    [ومَنْ تتبَّعَ رُخَص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رقَّ دينه كما قال الأوزاعي وغيره: ((مَنْ أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر)) وكذا مَنْ أخذ في البيوع الربوية بمن يتحيَّلُ عليه، وفي الطلاق ونكاح التحليل بمن توسَّع فيه، وشبه ذلك، فقد تعرّض للانحلال، فنسأل الله العافية والتوفيق] انتهى بنصه.
    6- وقال الإمام الحافظ تقي الدين السبكي في ((فتاواه)) (1/147) فيمن يتتبَّع رُخَصَ المذاهب: ((يَمْتَنعُ لأنَّه حينئذٍ مُتَّبِعٌ لهواه لا للدِّين)).
    ويدخل في ذلك مَنْ ينتَقي الأقوال ويتتبعها في المذهب الواحد حسب مزاجه.
    [تنبيه]: استدلَّ بعض الناس اليوم على جواز تتبّع الرخص والأخذ بالأسهل بقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ((ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما))، وهذا الاستدلال خطأ محض، قال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (6/575) في شرحه:
    [بين أمرين: أي من أمور الدنيا، يدلُّ عليه قوله ((ما لم يكن إثماً)) لأنَّ أمور الدِّين لا إثم فيها..] انتهى فتدبّر!!
    وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن أمَامَهُ مذاهبٌ وأقوال فينتقي منها إنما كان ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم الوحي فيقول له: إن الله يأمرك بكذا وينهاك عن كذا ولم يقل له قط في هذه المسألة قولان أو ثلاثة أقوال!! أو أختلف فيها أهل العلم فَخُذْ بالأسهل والأهون!! فتدبر!!
    وإنما كان صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً إذا نزل ضيفاً على رجل فقال له: هل آتيك يا رسول الله بخلٍّ أو لحمٍ فكان يقول له صلى الله عليه وآله وسلم: إيتني بالأيسر عليك، وبذلك يتبين أن المحتج بقول السيدة عائشة ((ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ))، لا يعرف الاستدلال أو يريد أن يوهم العامة - تلبيساً - أنَّ ما جاء به يصلح أن يكون دليلاً لما يريد!! والله المستعان.
    ومن هذا الباب أيضاً استدلال بعض المعاصرين بسماحة الشريعة الإسلامية!! ونحن نقول: لا يُنْكِرُ عاقلٌ سماحة الشريعة، إنما ننكر كما يُنكر الأئمة من أهل العلم التوصل بمثل هذه العبارات إلى استحلال ما هو محرم أو تَتَبُّع الرخص والتأويلات الباطلة!! ومعنى سماحة الشريعة الإسلامية أن الله تعالى خفَّفَ على المريض فأجاز له أن يصلي قاعداً ونائماً مضطجعاً، ورخَّصَ لمن لم يجد الماء للوضوء أو للغسل أو خاف من استعماله ضرراً أن يتيمم وهكذا وليس معنى ذلك أن يُلَفِّق ويتَتبَّع رُخَصَ العلماء والأقوال الضعيفة أو الباطلة!!
    نقل الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (13/465) عن الإمام الحافظ إسماعيل القاضي رحمه الله تعالى أنه حدّث بأنه دخل على الخليفة المعتضد يوماً حيث قال:
    ((ودخلت مرة، فدفع إليَّ كتاباً، فنظرت فيه، فإذا قد جُمِعَ له فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنّفُ هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟! قلت: بلى، ولكن من أباح المُسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر بالكتاب فأحرق))اهـ. ولنا رسالة خاصة في المنع من تتبع رخص العلماء وأخذ الأقوال بالتشهي، فلتنظر، والله الهادي.
    [فائدة]: وأما حديث ((اختلاف أمتي رحمة))(1) فحديث موضوع، وحديث ((إنَّ الله يُحبُّ أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه))(2) لا دلالة فيه على تتبع رُخَص العلماء وإنما فيه أن صح - ولا أراه كذلك - الأخذ بالرخصة التي رخّصها الله تعالى في كتابه لعباده، كالتيمم عند فقد الماء، والإفطار للمسافر والمريض في رمضان ونحو ذلك مما هو معلوم ومشهور، وفَرْقٌ بين هذه الأمور وبين مَنْ يركض وراء التلفيق وتتبع رخص العلماء وأقوالهم التي يصيبون في بعضها ويخطئون في بعضها، فافهم هداك الله تعالى.
    [تنبيه مهم]: وينبغي أن نُنَبِّه هنا إلى أنَّه بعدما تقرر بأنَّ تتبُّع رخص العلماء والتأويلات الباطلة وتلفيق الأقوال وكذلك الإفتاء بالأسهل والأهون فسق بالإجماع، وهو منهي عنه في القرآن والسنة، فلا يُلتَفَتُ إلى قول الذاهب إليه ولا يقام له وزن.
    ومع ذلك فإننا نحترم كل قول أو مَذْهبٍ بعيد عن الهوى والعصبية المجرّدة ولو خَالَفَنَا طالما أن صاحبه يبتغي به وجه الله تعالى فيما يَظْهَرُ لنا، ويَبْذُلُ وُسعَهُ في الاجتهاد للوصول إلى الحق وقد توفَّرت فيه أهلية النظر وآلة الاجتهاد، ما دام بعيداً عن الشذوذ وعن مخالفة إجماع الأمة.
    أما مَنْ اجتهد في غير مواضع الاجتهاد كمن اجتهد في مورد النص بعد ثبوته المطلوب في مثل بابه، أو خالف إجماع المسلمين ونصوص الكتاب والسنة زاعماً أنه مجتهد وأن له أجراً إن أخطأ وأجرين إن أصاب!! محاولاً أن يَظهَرَ بمظهر فحول العلماء وهو يحكي بانتفاخه صولة الأسد! ويدّعي أنه مُجَدِّدٌ ومُبْتكر صاحب فكر ناضجٍ! مع كونه مفلساً في الحقيقة فهذا مما لا يقام له وزن مع كونه آثماً فيما أقدم عليه مُضَلِّلاً لغيره فيما هو فيه! فلا يُلْتَفَتُ إلى كلامه بل يُرمى في كل حزن ووعر ولله الأمر من قبل ومن بعد.
    [تنبيهان مهمان]:
    • كل حديثٍ عزوته للبخاري فالمقصود موضعه في ((فتح الباري)) طبعة دار المعرفة، وليس طبعة الرّيّان لأنّ طبعة المعرفة هي التي عليها العزو، فتنبه لذلك جيداً وانظر إلى ثبت المراجع آخر الكتاب.
    • ربما أعزو الحديث لغير الصحيحين مع كونه فيهما أحياناً وذلك لأنني أختار لفظه الذي ليس في الصحيحين أو في أحدهما فتنبّه لذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية والمراجع:
(1) أورده الحافظ المحدّث السيد أحمد ابن الصدّيق الغماري رحمه الله تعالى في كتابه ((المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير)) ص (16-17) ونَصَّ على وضعه.
(2) رواه أحمد (2/108) وابن حبان في صحيحه (6/451) والبيهقي (3/140) وغيرهم من حديث ابن عمر وابن عباس وابن مسعود، والصحيح عندنا أنه موقوف، وقد أخطأ من صححه مرفوعاً، ورواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (11/291) من قول الشعبي.
أضف رد جديد

العودة إلى ”توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ“