تكملة الكلام على عقيدة الماتريدية وعدم ثبوت الكتب المنسوبة للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى العقائدية عنه وتأثير المعتزلة:
فأما الفقه الأكبر الذي من رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه ففي إسناده مجاهيل وفيه: أبو مقاتل حفص بن سلم السمرقندي:
قال الأصبهاني في كتابه الضعفاء برقم (52):
[حفص بن سلم بن مقاتل السمرقندي حدَّث عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عم ومسعر بالمناكير تركه وكيع وكذبه].
وفي الإسناد ضعفاء بل مجهولون عند أهل الجرح والتعديل.
وأما الفقه الأبسط فهو من رواية بعض المجاهيل عن أبي مطيع البلخي:
الحكم بن عبدالله بن مسلم أبو مطيع البلخي كان وضاعاً أيضاً، جاء في ترجمته في ((لسان الميزان)) (2/407) أنَّ أحمد بن حنبل قال: لا ينبغي أن يروى عنه شيء، وقال أبو داود: تركوا حديثه، وقال ابن عدي: هو بيّن الضعف عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم الرازي: كان مرجئاً كذاباً، وقال الحافظ في آخر ترجمته هناك: ((وقد جزم الذهبي بأنه وضع حديثاً فلينظر في ترجمة عثمان بن عبدالله الأموي)).
نموذج مما ينكر في كتاب الفقه الأكبر:
جاء في كتاب الفقه الأكبر كما في شرح ملا علي القاري ص (58):
[وله ـ سبحانه ـ يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته، لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر الاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف..].
وهذا الكلام مخالف لما قرره إمام المذهب المنزه أبو منصور الماتريدي الذي لا يعوّل على هذه الترهات، فقد قال أبو منصور الماتريدي في كتابه "تأويلات أهل السنة" (2/52طبعة 6 مجلدات) و (3/551طبعة 10 مجلدات):
[{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، أي: نعمه مبسوطة: يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء].
وقال الماتريدي في "تأويلات أهل السنة" (4/323) و (8/705):
[فعلى ذلك ما ذكر من قبضته ويده ويمينه إنما هو الوصف له بالقوة، والسلطان، والقدرة على ذلك].
وقال الإمام الماتريدي في "تأويلات أهل السنة" (7/36):
[وقال أبو بكر الأصم: دل قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أن قول اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: أنهم لم يريدوا حقيقة اليد، ولكن التضييق والتقتير، وكذلك لم يرد بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} حقيقة بسط اليد، ولكن أراد التوسيع في الرزق والتكثير؛ ألا ترى أنه قال: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}].
أقول: وأبو بكر الأصم من شيوخ المعتزلة المشهورين فهنا يعتمد الماتريدي في النقل على أحد أئمة الاعتزال وهذا ليس عيبا كما يتصوره البعض وخاصة المتعصبون بل هو من باب استفادة أهل العلم بعضهم من بعض.
تأمل جيدا في هذا التخالف ما بين النصوص المثبتة في كتاب (الفقه الأكبر) وما يقوله أبو منصور الماتريدي صاحب المذهب العقائدي في مذهب الأحناف وهو الأعلم والأفهم لعقيدة إمامه أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
رد الإمام الماتريدي حديث (يضع قدمه في النار) واعتماده على البلخي المعتزلي:
قال الماتريدي في "تأويلات أهل السنة" (4/566) و (9/361):
[والثاني: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أي: فيَّ سعة عظيمة، فهل من زيادة خلق أمتلئ بها؟ لأن اللَّه تعالى وعد أن يملأ جهنم، كما قال: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، فتسأل المزيد من ربها لتمتلئ، واللَّه أعلم بذلك.
وقال بعض أهل التأويل بأنها تسأل الزيادة حتى يضع الرحمن قدمه فيها فتضيق بأهلها حتى لا يبقى فيها مدخل رجل واحد، وروي خبر عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في ذلك، وأنه فاسد، وقول بالتشبيه، وقد قامت الدلائل العقلية على إبطال التشبيه، فكل خبر ورد مخالفًا للدلائل العقلية يجب رده، ومخالف لنص التنزيل، وهو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم هذا القول على قول الشبهة على ما توهموا مخالف للكتاب؛ لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قال: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، وعندهم لا تمتلئ بهم ما لم يضع الرحمن قدمه فيها.
ثم ذكر البلخي أن مدار ما ذكروا من الحديث على حماد بن سلمة، وكان خرفًا مفندًا في ذلك الوقت لم يجز أن يؤخذ منه، مع ما روي في خبر أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (يأتي اللَّه تعالى ببشر فيضع في النار حتى تمتلئ) فهذا يحتمل، لا ما رووا، واللَّه الموفق].
والبلخي هو أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي المتوفى سنة (319هـ). قال عنه الإمام الماتريدي في كتاب التوحيد ص (78): البلخي يعرف عند المعتزلة بإمام أهل الأرض في ذلك الزمان.
وهذا كله مما يقطع وشيجة المتنطعين من المتعصبين الذين ينظرون إلى المعتزلة بأنهم من أهل الضلال المنحرفين الذين يجب ذمهم واجتناب عقيدتهم ومذهبهم كما يلهج بذلك أبو منصور البغدادي صاحب (الفرق بين الفرق) وغيره!
وقد رأينا كيف أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى استفاد وروى عن الإمام إبراهيم بن أبي يحيى ووثقه، وغير ذلك، وكله هذه الأمور تدحض أفكار المشنعين المتعصبين، والتائهين المتقربين من الفكر الوهابي وترهاته.
...... والله يهدينا إلى سواء السبيل
....... يتبع