تقدم أن الباقلاني قال في كتابه "الإنصاف":
[فنص تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته، وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عز وجل {كل شيء هالك إلا وجهه} وقال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن، في قوله عز وجل: {بل يداه مبسوطتان} وقوله: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} وأنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عز وجل: {ولتصنع على عيني} و {تجري بأعيننا} وأن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس].
وقال في التمهيد ص (299) من المطبوع:
[صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها: وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان].
فجعل كما ترون العينين صفة مغايرة للبصر!!
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
وجاء بعض الناس يدافعون بالباطل عن الباقلاني بأن هذا تفويض.. والتفويض أحد قولي الأشاعرة.. والمفوضة يقطعون باستحالة الظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين!!!
ونقول في الجواب على هذا: التفويض مذهب باطل عاطل يؤدي إلى الحيرة والتوهان والتميع والضياع ويصرف المؤمن عن التنزيه والتقديس!!
وقد نفينا صحة التفويض عن السلف! بل كان السلف مؤولة وقد أثبتنا ذلك عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في رسالة خاصة وفي شرحنا على الجوهرة! وقد امتلأ تفسير الحافظ ابن جرير الطبري بتأويلات السلف في مسائل الصفات!
وأعود للباقلاني فأقول ذكر ابن كثير في ((البدايـــة)) (11/350) في ترجمة الباقلاني ما نصه:
[وقيل إنه كان يكتب على الفتاوى: كتبه محمد بن الطيب الحنبلي، وهذا غريب جداً].
وذكر الذهبي في "السير" (17/193) في ترجمة الباقلاني قال:
[أَمَرَ شيخ الحنابلة أبوالفضل التميمي منادياً يقول بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، والذاب عن الشريعة].
وهذا أمر عجيب مع ما عرف به الحنابلة من معاداتهم للأشعرية!! وشدة بغضهم لهم!!
ومثل هذا قول العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في مقدمة "تبيين كذب المفتري" أن أولى الناس بالأشعري الحنابلة حيث قال هناك ص (16):
[وفقهاء المذاهب يتجاذبون الأشعري إلى مذاهبهم ويترجمونه في طبقاتهم والحنابلة أحق بذلك ؛ حيث يصرِّح الأشعري في مناظراته معهم أنه على مذهب أحمد..].
وهذا تصريح لطيف من العلامة الكوثري رحمه الله تعالى يخبرنا بجلية الأمر.
وأعود لصفتي العينين اللتين أثبتهما الباقلاني والأشعري ونفاهما أصحابنا المنزهون من الأشاعرة فأقول:
لماذا يثبت هؤلاء عينين لله تعالى ولا يثبتون صفة العين الواحدة أو صفة الأعين ؟!
الدفاع عن الحق وعن عقيدة التنزيه أولى من الدفاع عن أشخاص يصيبون ويخطئون!
جاء في تهذيب شرح السنوسية ص (54) من الطبعة الأولى ما يلي:
[وهذا لأن سمعه تعالى صفة من صفاته، وليس عضواً منه كما يتوهم المجسمة، فيقولون إن لله عينين..].
وقال ابن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (2/127): [وقال الأشعري إن المراد بقول الله تعالى أيدينا إنما معناه اليدان وإن ذكر الأعين إنما معناه عينان وهذا باطل مدخل في قول المجسمة]!!
وقال الحافظ أبوحيان رحمه الله تعالى في تفسيره "البحر المحيط" (4/316 طبعة دار الفكر):
[وقال قوم منهم القاضي أبوبكر بن الطيب (الباقلاني): هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تحديد، وقال قوم منهم الشعبي والثوري نؤمن بها ونقرُّ كما نصت ولا نُعَيّن تفسيرها ولا يسبق النظر فيه. وهذان القولان حديث مَنْ لم يمعن النظر في لسان العرب].
والعجب من قول الأشعري في "الإبانة":
[وجب أن يُرْجَع من قوله أيدي إلى يدين ؛ لأن القرآن على ظاهره، ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة، فإن وجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى ظاهر آخر، ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقته لا يزول عنها إلا بحجّة].
ثم من قول الأشعري في الإبانة أيضاً:
[كذلك قوله تعالى: { لما خلقت بيدي } على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة].
وقال بعد ذلك:
[بل واجب أن يكون قوله تعالى: { لما خلقت بيدي } إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة]!!!
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
والحقيقة عنده هو الظاهر كما صرَّح به في عبارته المذكورة آنفاً! وهذه طريقةٌ عرجاء عوجاء تعاكس ما كان عليه السلف الأُوَل من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين الذين أوَّلوا وفسَّروا وبينوا معاني النصوص كما في تفسير ابن جرير الطبري السلفي المتوفى سنة (310هـ).
وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين ص (211):
[وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} ولا نقدم بين يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف وأنه نور كما قال تعالى: {الله نور السموات والأرض} وأن له وجهاً كما قال الله: {ويبقى وجه ربك} وأن له يدين كما قال: {خلقت بيدي} وأن له عينين كما قال: {تجري بأعيننا} وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت المعتزلة أن الله استوى على عرشه بمعنى استولى].
انتهى من مقالات الإسلاميين للأشعري.
وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين ص (153):
[وقال قائلون منهم بالتشبيه فهم ثلاث فرق: فقالت الفرقة الاولى منهم وهم اصحاب مقاتل بن سليمان: ان الله جسم وان له جمة وانه على صورة الانسان لحم ودم شعر وعظم له جوارح واعضاء من يد ورجل ورأس وعينين مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه...].
فقول هؤلاء المجسمة المشبهة إنه لا يشبه غيره لم ينجهم عند الأشعري من وصفهم بالتشبيه.
والأنكى من هذا والأدهى ما نقله ابن فورك (ت406هـ) في "مجرد مقالات الأشعري" ص (40) من إثبات الجنب لله تعالى، تعالى الله عن ذلك وتقدس! فقد جاء في الكتاب المذكور:
[فأما صفات الله تبارك وتعالى.... فأما ما يثبت من طريق الخبر فلا ينكر أن يرد الخبر بإثبات صفات له تعتقد خبراً وتطلق ألفاظها سمعاً وتحقق معانيها على حسب ما يليق بالموصوف بها، كاليدين، والوجه، والجنب، والعين، لأنها فينا جوارح وأدوات، وفي وصفه نعوت وصفات..]!
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
ففي هذا كله عبرة لمن يعتبر ويريد أن يأخذ من القول أحسنه! وينبذ التشبيه والتجسيم وطريق التفويض المؤدية إليهما!
قال الإمام الغزالي في "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" ص (39):
[فإن زعم ـ صاحبك ـ أن حدَّ الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أو الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غر بليد، قد قيَّده التقليد، فهو أعمى من العميان، فلا تضيِّع بإصلاحه الزمان...].
وقال السبكي في "الطبقات" (5/192) في ترجمة إمام الحرمين:
[والإمام لا يتقيد لا بالأشعري ولا بالشافعي، لا سيما في البرهان، وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده، وربما خالف الأشعري وأتى بعبارة عالية على عادة فصاحته، تأدية نظره واجتهاده، فلا تحتمل المغاربة أن يقال مثلها في حق الأشعري، وقد حكينا كثيراً من ذلك في شرحنا على مختصر ابن الحاجب].
فهذه نصوص صريحة تعطيك صورة واضحة عن جلية الأمر وحقيقة هذه القضية، فالأشعري لا يعول على مقولاته عندنا والأشاعرة على خلاف قوله والمذهب لا يقبل التقليد للعلماء وطلبة العلم!
فاترك التفويض والتقليد إن كنت عاقلاً وتوجه إلى التأويل والفهم والنظر ودعك من شقشقات المتحذلقين.
نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.