لقد ردَّ الفخر الرازي على المشبهة والمجسمة بأدلة هي نفسها وعينها الأدلة التي ردَّ بها على أبي الحسن الأشعري والباقلاني، بل بالأحرى أنكر عليهما، وإن زعم من زعم أنهما يثبتان هذه الصفات معاني لا أعياناً.
فلم يلتفت الفخر الرازي (وكثير من أئمة أهل السنة الذين يطلق عليهم أشاعرة) إلى هذا، بل التفتَ إلى خطورة مآل التساهل في ذلك الكلام (الهوائي) ورد عليه بنفس الأدلة التي يُردُّ بها على من يثبت الصفات المزعومة (أعياناً) لا معاني.
قال الفخر الرازي رحمه الله تعالى في كتابه "الإشارة" ص (268) وفي نسخة أخرى ص (245) وما بعدها (منكراً) على الأشعري والباقلاني إثباتهما (اليد) صفة مع علمه بأنهما ينفيان عنها معنى الجارحة:
[1- فإن قيل: فبم تنكرون على شيخكم أبي الحسن والقاضي حيث أثبتا اليدين صفتين – لا تدركان إلا سمعا ـ زائدتين على الذات وما عداهما من الصفات؟ واحتجا عليه بأن قالا:
صرّحت الآية بإثبات اليدين متعلقتين بخلق آدم عليه السلام تشريفا له وتمييزا عن سائر المخلوقات في قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} وقد وضح أنه (لا يجوز حمله على الجارحتين)، (ولا يجوز أيضاً حمله على النعمة) لأن اليدين تنبئان عن شيئين، ونعمة الله تعالى لا تنحصر ولا تحصى على آدم بضربين ولأن الآية تقتضي إيجاد آدم بيدين، ولا يصح إيجاد الشيء بالنعمة، ولا يصح أيضا حملهما على القدرة لأنه حينئذ تبطل فائدة التخصيص، فإن آدم وكافة المخلوقات في حكم تعلق القدرة سواء، ولأن الله تعالى ذكر اليدين على صيغة التثنية وقدرته واحدة، فلم يبق إلا حمله على صفتين زائدتين على القدرة.
2- قلنا: الأصح حمل اليدين على القدرة، وقولهما: (إن فيه إبطال فائدة التخصيص) فنقول: التشريف يتحقق بتخصيص الله تعالى آدم بالذكر، كما شرّف عباده المخلَصين بإضافتهم إلى نفسه، وإن كانت الكفرة أيضا عباد الله تعالى، وهذا سبيل تخصيص البيت والناقة وغيرهما من المشرفات بالإضافات، نحققه: وهو أنه تعالى ذكر قريبا من هذه الآية في قوله تعالى {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما} والمراد به القدرة إجماعاً.
والتمسك بصيغة التثنية باطل، لأنه كما يُعبَّر باليد عن الاقتدار يعبر باليدين عن كمال الاقتدار، بدليل قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} والمراد به القدرة إجماعا، فبطل ما ذكروه.
فثبت أنه لا دليل على صفة وراء ما ذكرناه، وما لا دليل عليه وجب نفيه، لأنه لا ينفصل وجوده عن عدمه، ولا يكون عدد أولى من عدد، وذلك يؤدي إلى إثبات ما لا نهاية له من الصفات المجهولة، ولأنا مكلفون بمعرفة وحدانية الله تعالى بإجماع المسلمين ولقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} والعلم بكون الشيء واحدا فرع عن العلم بحقيقته، إذ ما لم نعلم الشيء لم نعلم أنه واحد، وإنما نعلم الإله إذا علمنا جميع ما له من الصفات إذ الإله هو الذات الموصوف بجميع الصفات القائمة به، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون عليها دليل، وإلا لكنا مكلفين بمعرفة ما لا يُعلم بالدليل مع عدم الدليل، وذلك باطل بالإجماع، والدليل لم يدل إلا على هذه الصفات فيلزم أن لا يكون للباري تعالى صفة وراء ما علمناه].
أفاده الأستاذ عبد الله المالكي الأشعري جزاه الله خيرا
والقصد من هذا كله ومما ذكرناه سابقا هو بيان الاختلاف عند من يُسَمون الأشاعرة، وأنهم مذاهب، ونحن نحض طلبة العلم على دراسة المتون والشروح ليتعلموا العقيدة ويطلبوا الدليل ولا يظنوا أن فلانا أو فلانا من أصحاب المتون أو الشروح أو الحواشي معصومين، وأن يطلعوا على أقوال الفرق والمذاهب، وأنه يجب اتباع الدليل لا ما يتوهمونه من أنه قول الجمهور، ويصححوا الأقوال، ويبدلوا الأحاديث التي لم تثبت بالأحاديث الثابتة، وأن ينهضوا بهذا المذهب وينقحوه.
وينبذوا التعصب والدفاع عن المخطئين والأخطاء بالباطل.
وهذا كله لمصلحة المذهب
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.