بطلان أثر ابن عباس الذي جاء فيه:( الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قـدره):
قال الذهبي في كتابه " العلو":
[حديث سفيان الثوري، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابـن عبـاس قال: ((الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قـدره)) رواته ثقات].
أقول في بيان بطلان هذا الأثر:
هذا قول تجسيمي إسرائيلي مروي عن ابن عباس ولا يصح عنه. وقوله عقبه (رواته ثقات) لا قيمة له! لأن الأمر ليس كذلك بل هذا هُرَاء باطل لا يصح وهو تجسيم صريح تعالى الله الذي ليس كمثله شيء عنه علواً كبيراً، وقد صح عن ابن عباس ما يخالفه إذ قال: (كرسيه علمه)! وهذا الهُرَاء (الذي هو الكرسي موضع القدمين) لم يصحَّ وكنت قلت سابقاً بأن إسناده عن ابن عباس موقوف صحيح وأنه من جملة المنقول من الإسرائيليات، ثم تبين لي أنه غير صحيح، وأن في إسناده خللاً وأنه معلل، وأنه مروي عن مسلم البطين فحسب. أي هو قولٌ لمسلم البطين. ولا تصح روايته عن ابن عباس رضي الله عنه ولا عن تلميذه سعيد بن جبير، بل المنقول عن سعيد بن جبير في صحيح البخاري (8/199فتح) أن كرسيَّه عِلْمُه. وهو الثابت عن ابن عباس كذلك، وهو ما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره، وكل ذلك حققته في رسالة خاصة لي سميتها (إعلام الثقلين بخرافة الكرسي موضع القدمين). إذا اتضح هذا أقول: هذا الأثر المستشنع المروي عن ابن عباس رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" ص (108) والحاكم (2/282) والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/196برقم758) والخطيب البغدادي في تاريخه (9/251) وابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) (1/22) وقد رفعه بعض الرواة من باب القاعدة الفاسدة الباطلة (أن هذا لا يقال من قِبَلِ الرأي)!! وأقول: نعم لا يقال من قِبَل الرأي وإنما من قِبَل كعب الأحبار والكتب المحرفة. وقد بين الحافظ ابن الجوزي في "العلل" أن رفعه خطأ ولذلك جزمت بأنه موضوع مرفوعاً في التعليق على ((دفع شبه التشبيه)) ص (258) في تخريج الحديث السابع والأربعين هناك. قال ابن جرير في تفسيره (3/10): [حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين قال: الكرسي موضع القدمين]. وقد تم إقحام - أي زيادة - مسلم البطين في السند المروي عن ابن عباس، فقد رواه الطبراني في "الكبير" (12/39) من طريق سفيان الثوري، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس .. وعمار الدهني لم يسمع من سعيد بن جبير كما في "تهذيب الكمال" (21/210) و"جامع التحصيل" الترجمة (550). قال أحمد بن حنبل: (لم يسمع – الدهني- من سعيد بن جبير شيئاً). ولذلك قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (3/11): [وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن: فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه أنه قال: هو علمه..] أي: تفسير كرسيه.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أيضاً أن هذا الأثر المستشنع (الكرسي موضع القدمين) الذي أورده الذهبي هنا عن ابن عباس رويَ أيضاً عن أبي موسى الأشعري! فروى ابن جرير في "تفسيره" (3/9-10) والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (404) من طريق سلمة بن كهيل، عن عُمَارة بن عُمَير، عن أبي موسى الأشعري قال: (الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرَّحْل). وعُمَارة بن عُمَير لم يُدرك أبا موسى الأشعري ، وإنما روى عن ولده إبراهيم بن أبي موسى كما في ترجمته في "تهذيب الكمال" (21/256) و "تهذيب التهذيب" (7/369) وأولاد أبو موسى الأشعري رووا الإسرائيليات لأن أباهم أرسلهم ليتعلموا من عبد الله بن سلام الإسرائيلي! وأبو موسى صاحب هذا الأثر له علاقة بالإسرائيليات فقد كان يرسل أولاده ليتعلموا من عبد الله بن سلام الإسرائيلي، فقد روى عبد الرزاق في "المصنف" (8/144) وابن سعد في الطبقات (6/268) بسند صحيح: [عن سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة قال: أرسلني أبي إلى عبد الله بن سلام أتعلم منه، فجئته فسألني من أنت؟ فأخبرته، فرحَّبَ بي، فقلت: إن أبي أرسلني إليك لأسألك وأتعلم منك..]. وورد في ترجمة أبي بُرْدة ابن أبي موسى الأشعري أنه يروي عن عبدالله بن سلام الإسرائيلي كما في ((تهذيب الكمال)) (33/66) وروايته عنه في البخاري (3814و7342). وفي ((سير أعلام النبلاء)) (5/6): ((روى سعيد ابن أبي بردة عن أبيه قال: بعثني أبي أبو موسى إلى عبد الله ابن سلام لأتعلَّم منه))].
فخلاصة الأمر أن أثر أبي موسى لا يثبت أيضاً وهو منكر منقطع الإسناد. والألباني تناقض في الحكم على هذا الأثر المروي عن أبي موسى حيث صححه في "مختصر العلو" ص (124)، وقال في ضعيفته (2/307): [وإسناده صحيح إن كان عمارة بن عمير سمع من أبي موسى فإنه يروي عنه بواسطة ابنه إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، ولكنه موقوف، ولا يصح في الأطيط حديث مرفوع كما تقدم تحت رقم (866)]. وقد تكلَّمت على ذلك كله في رسالتي السالف ذكرها (إعلام الثقلين بخرافة الكرسي موضع القدمين) والجزء الثاني من "تناقضات الألباني الواضحات" ص (289-291).
تنبيه مهم جداً: إن مثل هذه الأمور التي تروى على صورتين متناقضتين عن مثل ابن عباس لها جانبان أو وِجْهتان، الأولى: مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن سيدنا علي رضي الله عنه بالأخص وهي جانب التنزيه، والثانية: مأخوذة عن كعب الأحبار وأمثاله والكتب المحرفة القديمة وهي جانب التشبيه، ونحن نجزم أنه لم يكن يعتقد الجانب الثاني قطعاً ولا كونه حقاً، ثمَّ إنَّ بعض ما يتعلق بالجانب الثاني نسب إليه وَلُفِّقَ عليه بعد ذلك بجهود أصحاب ذلك الفكر الخبيث، وكذلك يقال عن غيره من الصحابة الذين رويت عنهم مثل تلك الإسرائيليات والذين جالسوا كعب الأحبار وأمثاله. وحُكَّام الدولة الأموية كانوا يروِّجون لعقائد التجسيم مما ساعد على انتشارها!! ومن ذلك ما روى ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" ص (108) فقال: حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: [قدمت على عبد الملك فذكرت عنده الصخرة التي ببيت المقدس فقال عبد الملك: هذه صخرة الرحمن التي وضع عليها رجله …] فأنكر عليه عروة. فتأمل جيداً!!
بطلان أثر ابن عباس الذي جاء فيه:( الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قـدره):
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm