نقل ابن عبد البر عن السلف الإجماع على اعتقاد الصفات على حقيقتها وظاهرها وهو أمر مردود وباطل: بقلم حسن السقاف -
مرسل: الأحد نوفمبر 12, 2023 12:04 pm
العبد الفقير لله تعالى يعمل على تصحيح المفاهيم المخطئة والدفاع عن عقيدة التنزيه ومكافحة عقيدة التشبيه والتجسيم وإنقاذ الأمة منها وخاصة الشباب الذين ينزلقون إلى هاوية الوهابية السلفية، والعبد الفقير على هذا منذ نحو أربعين سنة، ولم أبالي بتفريط المفرطين، أو تثبيط المثبطين، وهناك من يظن خطأ بأننا نتتبع أخطاء العلماء وزلاتهم.
وزلة العالم أمر خطير يضل أقوام بسببها كما هو معلوم ومشهور في شريعة الإسلام، وقد قال زياد بن حُدير التابعي: (قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين). رواه الدارمي (214) وإسناده صحيح.
وقال معاذ رضي الله عنه للحارث بن عميرة: (وأحذرك زلة العالم وجدال المنافق). قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (3/48): (رواه البزار وروى أحمد بعضه وفي إسناد البزار شهر بن حوشب وفيه كلام وقد وثقه غير واحد). ورواه الحاكم في المستدرك (4/466) وصححه.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/114):
(قال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله).
وقال المناوي في فيض القدير (1/183): (وفي منثور الحِكَم: زلة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير).
وفي فيض القدير (1/242) أيضاً: (ولهذا قال بعض الصوفية: إذا زل عالِم زلَّ بزلته عالَم).
ومن أبدع ما رأيته هنا لأخينا الحبيب وتلميذنا الفاضل الأستاذ عبد الفتاح مطير حيث قال في مقالة يرد بها إشكال بعض الإخوة:
(إن هناك من الطامات مما وقع في زماننا هو بسبب الأخذ بالكلية عن ساداتنا العلماء..وأنه لا يخلو منهج أو مذهب أو عالم من راي يجب التنبه له خوفاً من الوقوع فيه أو العمل به... فلا أرى الأمر تتبع للزلات بقدر ما هو تبيان وتوسيع لمداركنا حتى نعلم أصل البلاء... وما كان من خير فهو على العين والراس معا.. وما كان غير ذلك عرفناه واجتنبناه.. وليس أكثر... فإن من يدرس كتب التراجم يجد أنهم يتتبعون حياة الرواة وفيهم الصلحاء والأولياء... حتى يقول لك إنه قد اختلط قبل وفاته..وليس الأمر نفياً له بالكلية...وإنما هو الحفاظ على إرث الحبيب الأعظم... الذي شوهه بنو جلدتنا.. وسكت عنهم الأغلب خوفاً من تتبع زلات المسلمين).
إذا علم هذا فإنني أوضح حول ما كنت قد قلته في مقالتي السابقة حول الحافظ ابن عبد البر مكملاً بعض ما لم أنبه عليه ورداً على بعض إخواننا المستشكلين فأقول:
لقد حذر الحافظ العراقي من أقوال ابن عبد البر في هذه القضية ونص على أنه من القائلين بعقيدة الجهة نسأل الله تعالى السلامة وذلك في كتابه (طرح التثريب في شرح التقريب) (2/382) إذ قال هناك عند شرح حديث (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى):
[وقال ابن عبد البر: وهذا كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة وإكرامها، قال وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة إلى أن الله تعالى في كل مكان وليس على العرش، قال: وهذا جهل من قائله لأن قوله في الحديث يبصق تحت قدمه وعن يساره ينقض ما أصلوه في أنه في كل مكان. هذا كلام ابن عبد البر وهو أحد القائلين بالجهة فاحذره وإنما ذكرته لأنبه عليه لئلا يغتر به].
لاحظ هنا كيف يقول الحافظ العراقي:
(ابن عبد البر أحد القائلين بالجهة فاحذره وإنما ذكرته لأنبه عليه لئلا يغتر به).
فهل هذا من تتبع زلات العلماء ؟!
أم أنه من النصح الواجب والتحذير من العقائد الفاسدة والغيرة الخالصة لله تعالى وعدم الالتفات إلى تعظيم ما سواه سبحانه وخاصة من وصفه تعالى بغير ما ينبغي له ؟
ثم لاحظ كيف أنه لم يعول على طعن ابن عبد البر في المعتزلة واتهامه لهم بما هم برءاء منه، لأنهم لا يقولون بأن (الله في كل مكان) كما يدّعي ابن عبد البر!
ابن عبد البر يقول بأن المعتزلة يقولون: (إن الله في كل مكان)!
والمعتزلة ينزهون الله تعالى عن ذلك كما سأنقله الآن لكم من كتبهم، وقد اعترف الأشعري أيضاً في (مقالات الإسلاميين) بأن المعتزلة ينزهون الله عن المكان والأماكن!
هذا واعلموا أن الألباني أيضاً يوافق ابن عبد البر في رمي المعتزلة بأنهم يقولون بأن الله في كل مكان، فهو يقول في مقدمته الجديدة للمجلد الأول من سلسلته الصحيحة ص 2-3:
[ومن ثمَّ فقد اختلفوا: فمنهم ـ كالإباضية والمعتزلة ـ من قال: إنه في كل مكان! ولازمه القول بالحلول أو وحدة الوجود كما هو عقيدة غلاة الصوفية!]!!!!
وكنت قلت في الرد على الألباني الموافق لابن عبد البر في كتابي (تناقضات الألباني الواضحات) :
[المعتزلة ينزهون الله تعالى عن المكان! فأمّا المعتزلة: فقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين ص 155 طبعة دار إحياء التراث العربي / بيروت الطبعة الثالثة:
(شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره: أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم... ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن...).
وقال إمام المعتزلة وشيخهم واصل بن عطاء في خطبته المشهورة منزوعة الراء: (الحمد لله القديم بلا غاية والباقي بلا نهاية...... فلا يحويه زمان ولا يحيط به مكان ولا يؤوده حفظ من خلق ولم يخلقه على مثال سبق).
وفي شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار جمل كثيرة تفيد ذلك فليرجع إليها من شاء الاستزادة.
وأما الإباضية: فقال الإمام أبو محمد عبد الله بن حميد السالمي في كتابه ((مشارق أنوار العقول)) (1/322) وهو من الكتب القيمة المهمة في علم التوحيد والكلام عند الإباضية ما نصه:
((لو كان سبحانه في مكان فإما في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطل))]. انتهى ما كنت قلته رداً على الألباني، وما نرد به على الألباني نرد به على ابن عبد البر في اتهامهما للمعتزلة بإثبات المكان لله جل وعز.
وبعد هذا أقول: لاحظ كيف أن ابن عبد البر رمى من يحتج بهذا الحديث على أن الله تعالى ليس على العرش بذاته كما تقول المجسمة أنه نزع إلى الاعتزال، وهذه عادة هؤلاء الذين يقولون (بإثبات الصفات على الحقيقة لا على المجاز) يرمون مخالفيهم بالتجهم والاعتزال والتعطيل، وممن احتج بحديث (النهي عن بزاق المصلي قبل وجهه): الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي يقول في الفتح (2/123) في شرح الحديث:
[وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته ومهما تؤول به هذا جاز أن يتأول به ذاك والله أعلم].
فعند القائلين بالعلو الحسي والجهة كابن عبد البر وغيره القائل بما يقول بمثل ما يقوله الحافظ ابن حجر به هنا معتزلي قائل بأن الله تعالى في كل مكان!
وهذا افتراء وتشويه لعقائد مخالفيهم المنزهين من أهل السنة!
فهذا الأمر لا تغفلوا عنه!
كما لا ينبغي أن تغفلوا عما قاله الحافظ ابن الجوزي الحنبلي المنزه في (صيد الخاطر) ص (61):
[عجبتُ من أقوامٍ يدَّعون العلمَ! ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها،.... ولقد عجبتُ لرجلٍ أندلسيٍّ يُقال له ابن عبد البر صنَّف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: (هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى)، وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل، لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام فقاس صفة الحق عليه! فأين هؤلاء واتِّباع الأثر ؟ ولقد تكلَّموا بأقبح ما يتكلَّم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين].
واعلموا أيضاً أن ابن عبد البر قال في الكلام على حديث النزول في الاستذكار (2/526):
[وفي هذا الحديث دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات وعلمه في كل مكان كما قالت الجماعة أهل السنة أهل الفقه والأثر
وحجتهم ظواهر القرآن في قوله (الرحمن على العرش استوى)
كما قال (لتستوا على ظهوره)
وقوله (واستوت على الجودي)
و (استويت أنت ومن معك على الفلك)
قال الله عز وجل (ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي)
وقال (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)
(فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة... وقد حلق النجم اليماني فاستوى)
وقال عز وجل (ءأمنتم من في السماء) على السماء
كما قال (في جذوع النخل) أي عليها
وقال (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه)
وقال (ذي المعارج) والعروج الصعود
وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة وقد أوضحنا فساد ما ادعوه من المجاز فيها في التمهيد وذكرنا الحجة عليهم بما حضرنا من الأثر من وجوه النظر هناك بباب فيه كتاب مفرد والحمد لله.
ومحال أن يكون من قال عن الله ما هو في كتابه منصوص مشبها إذا لم يكيف شيئا وأقر أنه ليس كمثله شيء
ومن الحجة فيما ذهبت إليه الجماعة أن الموحدين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو دهمهم غمر أو نزلت بهم شدة رفعوا أيديهم إلى السماء يستغيثون ربهم ليكشف ما نزل بهم ولا يشيرون بشيء من ذلك إلى الأرض
ولولا أن موسى (عليه السلام) قال لهم إلهي في السماء ما قال فرعون (يهمن بن لى صرحا لعلى أبلغ الأسبب أسبب السموت فأطلع إلى إله موسى)
وهذا أمية بن أبي الصلت وهو ممن قرأ الكتب التوراة والإنجيل والزبور
وكان من وجوه العرب يقول في شعره
(فسبحان من لا يقدر الخلق قدره... ومن هو فوق العرش فرد موحد)
(ملك على عرش السماء مهيمن... لعزته تعنو الوجوه وتسجد) وفيه يقول في وصف الملائكة
(وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه... يعظم ربا فوقه ويمجده)].
انتهى كلام ابن عبد البر من الأستذكار فتأملوه!
وقال ابن عبد البر ناقلاً قول ابن خويز منداد معتمداً عليه في أن الأشاعرة من أهل الأهواء والبدع! في كتاب جامع بيان العلم وفضله ص (3/177):
[حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن ثنا إبراهيم بن بكر، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خواز منداد المصري المالكي في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف قال مالك: « لا تجوز الإجارة في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم، وذكر كتباً ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك، وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك » وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادة في الإسلام ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها.... على أني أقول: لا خير في شيء من مذاهب أهل الكلام كلهم وبالله التوفيق].
ففي هذا النص كما هو واضح ترى أن الأشعرية من أهل الأهواء والبدع!
فهل نحن ندافع عن الأشاعرة أم نحن ضدهم فيما نبينه عن ابن عبد البر ؟!
وهل أنتم مع القائلين بالجهة وحمل ما يسمى بآيات الصفات على حقيقتها أو ظاهرها أم أنتم مع منزهة الأشاعرة الفضلاء ؟!
وهل العاقل من يقف من القائل بالجهة وحقيقة وظواهر النصوص ويعتبر الأشاعرة من أهل الأهواء والبدع أم من يقف ضد هذا التيار ؟!
إنسان يقول بالجهة وحقيقة وظواهر النصوص ويرميك بأنم من أهل البدع والأهواء كيف تدافع وتنافح عنه وتقف في صفه ضد من يرشدك إلى التنزيه ويحذرك من القائلين بالجهة ؟
أيها الناس تعقّلوا وتدبروا!
وقد نص أبو عبد الله الوشتاني الأُبّي (المتوفى سنة 827هـ) في شرح صحيح مسلم على أن ابن عبد البر وابن أبي زيد يقولان بالجهة في حق المولى تبارك وتعالى.
وكنت قد قلت قبل (25) سنة تقريباً في شرح الطحاوية ما مختصره:
[قال الإمام الحافظ السُبكي في كتابه (معيد النِّعَم ومبيد النِّقَم) ص (62):
(وبرَّأ الله المالكية فلم نر مالكياً إلا أشعرياً عقيدة..).
وقوله: (وبرّأ الله المالكية فلم نر مالكياً إلا أشعرياً عقيدة) إن عنى الشيخ به أنه لم ير في حياته من الأحياء الذين لقيهم من علماء السادة المالكية إلا أشعري العقيدة فالظاهر أنه مصيب لكن السياق والكلام لا يدلُّ على أنه أراد هذا المعنى، وإن أراد أن المالكية ليس فيهم مجسمة ومشبهة خلافاً لبقية المذاهب فليس هذا بصواب قطعاً، وذلك لأن الطَلَمَنْكيَّ المالكي مشبِّه مجسِّم أثبت عضوَ الجَنْبِ لله تعالى كما نقل ذلك عنه الحافظ الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/569)، ومثله ابن أبي زَمَنين وابن رشد الحفيد الفيلسوف وغيرهم لكنهم قليل في المذهب.
أقول: وابن رشد الحفيد مع كونه فيلسوفاً فإنه مجسم مشبه!! فإن ابن رشد هذا عقد باباً في كتابه مناهج الأدلة ص (171) من طبعة مكتبة الأنجلو المصرية سماه: [القول في صفة الجسمية] قال فيه: (فإن قيل: فما تقول في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرَّح الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من المسكوت عنها ؟ فنقول: إنه من البيِّن من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها.....)].
هذا ما سنح الوقت به الآن من بيان حال ابن عبد البر عندنا وعند بعض السادة العلماء الذين بينوا قضية عقيدته المتعلقة بالصفات والجهة، ولا قصد لنا هنا إلا إزالة الإشكال وكشف جلية الأمر، منافحة عن عقيدة التنزيه للباري سبحانه، وإخراجاً لبعض من احتار في القضية من حيرتهم، خدمة لهذه الشريعة الغراء من دون محاباة أو مجاملة على حساب الشريعة، وغيرة لله تعالى من أن يوصف بما لا يليق بجلاله سبحانه، فلن ينفعنا إلا الإخلاص مع الله وتقديم رضاه ورضى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على رضى الناس.
ونقول أخيراً: ومن إيجابيات ابن عبد البر أنه كان منافحاً ومدافعاً في كتبه التي ألفها كالاستيعاب عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وواقفاً معهم وناصراً لهم على أعدائهم وهذا حق لا مرية فيه وكلامه في ذلك جيد، ولنا فيه كلام في وقت آخر إن شاء الله تعالى.
والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
______________________________
وزلة العالم أمر خطير يضل أقوام بسببها كما هو معلوم ومشهور في شريعة الإسلام، وقد قال زياد بن حُدير التابعي: (قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين). رواه الدارمي (214) وإسناده صحيح.
وقال معاذ رضي الله عنه للحارث بن عميرة: (وأحذرك زلة العالم وجدال المنافق). قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (3/48): (رواه البزار وروى أحمد بعضه وفي إسناد البزار شهر بن حوشب وفيه كلام وقد وثقه غير واحد). ورواه الحاكم في المستدرك (4/466) وصححه.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/114):
(قال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله).
وقال المناوي في فيض القدير (1/183): (وفي منثور الحِكَم: زلة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير).
وفي فيض القدير (1/242) أيضاً: (ولهذا قال بعض الصوفية: إذا زل عالِم زلَّ بزلته عالَم).
ومن أبدع ما رأيته هنا لأخينا الحبيب وتلميذنا الفاضل الأستاذ عبد الفتاح مطير حيث قال في مقالة يرد بها إشكال بعض الإخوة:
(إن هناك من الطامات مما وقع في زماننا هو بسبب الأخذ بالكلية عن ساداتنا العلماء..وأنه لا يخلو منهج أو مذهب أو عالم من راي يجب التنبه له خوفاً من الوقوع فيه أو العمل به... فلا أرى الأمر تتبع للزلات بقدر ما هو تبيان وتوسيع لمداركنا حتى نعلم أصل البلاء... وما كان من خير فهو على العين والراس معا.. وما كان غير ذلك عرفناه واجتنبناه.. وليس أكثر... فإن من يدرس كتب التراجم يجد أنهم يتتبعون حياة الرواة وفيهم الصلحاء والأولياء... حتى يقول لك إنه قد اختلط قبل وفاته..وليس الأمر نفياً له بالكلية...وإنما هو الحفاظ على إرث الحبيب الأعظم... الذي شوهه بنو جلدتنا.. وسكت عنهم الأغلب خوفاً من تتبع زلات المسلمين).
إذا علم هذا فإنني أوضح حول ما كنت قد قلته في مقالتي السابقة حول الحافظ ابن عبد البر مكملاً بعض ما لم أنبه عليه ورداً على بعض إخواننا المستشكلين فأقول:
لقد حذر الحافظ العراقي من أقوال ابن عبد البر في هذه القضية ونص على أنه من القائلين بعقيدة الجهة نسأل الله تعالى السلامة وذلك في كتابه (طرح التثريب في شرح التقريب) (2/382) إذ قال هناك عند شرح حديث (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى):
[وقال ابن عبد البر: وهذا كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة وإكرامها، قال وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة إلى أن الله تعالى في كل مكان وليس على العرش، قال: وهذا جهل من قائله لأن قوله في الحديث يبصق تحت قدمه وعن يساره ينقض ما أصلوه في أنه في كل مكان. هذا كلام ابن عبد البر وهو أحد القائلين بالجهة فاحذره وإنما ذكرته لأنبه عليه لئلا يغتر به].
لاحظ هنا كيف يقول الحافظ العراقي:
(ابن عبد البر أحد القائلين بالجهة فاحذره وإنما ذكرته لأنبه عليه لئلا يغتر به).
فهل هذا من تتبع زلات العلماء ؟!
أم أنه من النصح الواجب والتحذير من العقائد الفاسدة والغيرة الخالصة لله تعالى وعدم الالتفات إلى تعظيم ما سواه سبحانه وخاصة من وصفه تعالى بغير ما ينبغي له ؟
ثم لاحظ كيف أنه لم يعول على طعن ابن عبد البر في المعتزلة واتهامه لهم بما هم برءاء منه، لأنهم لا يقولون بأن (الله في كل مكان) كما يدّعي ابن عبد البر!
ابن عبد البر يقول بأن المعتزلة يقولون: (إن الله في كل مكان)!
والمعتزلة ينزهون الله تعالى عن ذلك كما سأنقله الآن لكم من كتبهم، وقد اعترف الأشعري أيضاً في (مقالات الإسلاميين) بأن المعتزلة ينزهون الله عن المكان والأماكن!
هذا واعلموا أن الألباني أيضاً يوافق ابن عبد البر في رمي المعتزلة بأنهم يقولون بأن الله في كل مكان، فهو يقول في مقدمته الجديدة للمجلد الأول من سلسلته الصحيحة ص 2-3:
[ومن ثمَّ فقد اختلفوا: فمنهم ـ كالإباضية والمعتزلة ـ من قال: إنه في كل مكان! ولازمه القول بالحلول أو وحدة الوجود كما هو عقيدة غلاة الصوفية!]!!!!
وكنت قلت في الرد على الألباني الموافق لابن عبد البر في كتابي (تناقضات الألباني الواضحات) :
[المعتزلة ينزهون الله تعالى عن المكان! فأمّا المعتزلة: فقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين ص 155 طبعة دار إحياء التراث العربي / بيروت الطبعة الثالثة:
(شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره: أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم... ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن...).
وقال إمام المعتزلة وشيخهم واصل بن عطاء في خطبته المشهورة منزوعة الراء: (الحمد لله القديم بلا غاية والباقي بلا نهاية...... فلا يحويه زمان ولا يحيط به مكان ولا يؤوده حفظ من خلق ولم يخلقه على مثال سبق).
وفي شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار جمل كثيرة تفيد ذلك فليرجع إليها من شاء الاستزادة.
وأما الإباضية: فقال الإمام أبو محمد عبد الله بن حميد السالمي في كتابه ((مشارق أنوار العقول)) (1/322) وهو من الكتب القيمة المهمة في علم التوحيد والكلام عند الإباضية ما نصه:
((لو كان سبحانه في مكان فإما في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطل))]. انتهى ما كنت قلته رداً على الألباني، وما نرد به على الألباني نرد به على ابن عبد البر في اتهامهما للمعتزلة بإثبات المكان لله جل وعز.
وبعد هذا أقول: لاحظ كيف أن ابن عبد البر رمى من يحتج بهذا الحديث على أن الله تعالى ليس على العرش بذاته كما تقول المجسمة أنه نزع إلى الاعتزال، وهذه عادة هؤلاء الذين يقولون (بإثبات الصفات على الحقيقة لا على المجاز) يرمون مخالفيهم بالتجهم والاعتزال والتعطيل، وممن احتج بحديث (النهي عن بزاق المصلي قبل وجهه): الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي يقول في الفتح (2/123) في شرح الحديث:
[وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته ومهما تؤول به هذا جاز أن يتأول به ذاك والله أعلم].
فعند القائلين بالعلو الحسي والجهة كابن عبد البر وغيره القائل بما يقول بمثل ما يقوله الحافظ ابن حجر به هنا معتزلي قائل بأن الله تعالى في كل مكان!
وهذا افتراء وتشويه لعقائد مخالفيهم المنزهين من أهل السنة!
فهذا الأمر لا تغفلوا عنه!
كما لا ينبغي أن تغفلوا عما قاله الحافظ ابن الجوزي الحنبلي المنزه في (صيد الخاطر) ص (61):
[عجبتُ من أقوامٍ يدَّعون العلمَ! ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها،.... ولقد عجبتُ لرجلٍ أندلسيٍّ يُقال له ابن عبد البر صنَّف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: (هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى)، وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل، لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام فقاس صفة الحق عليه! فأين هؤلاء واتِّباع الأثر ؟ ولقد تكلَّموا بأقبح ما يتكلَّم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين].
واعلموا أيضاً أن ابن عبد البر قال في الكلام على حديث النزول في الاستذكار (2/526):
[وفي هذا الحديث دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات وعلمه في كل مكان كما قالت الجماعة أهل السنة أهل الفقه والأثر
وحجتهم ظواهر القرآن في قوله (الرحمن على العرش استوى)
كما قال (لتستوا على ظهوره)
وقوله (واستوت على الجودي)
و (استويت أنت ومن معك على الفلك)
قال الله عز وجل (ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي)
وقال (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)
(فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة... وقد حلق النجم اليماني فاستوى)
وقال عز وجل (ءأمنتم من في السماء) على السماء
كما قال (في جذوع النخل) أي عليها
وقال (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه)
وقال (ذي المعارج) والعروج الصعود
وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة وقد أوضحنا فساد ما ادعوه من المجاز فيها في التمهيد وذكرنا الحجة عليهم بما حضرنا من الأثر من وجوه النظر هناك بباب فيه كتاب مفرد والحمد لله.
ومحال أن يكون من قال عن الله ما هو في كتابه منصوص مشبها إذا لم يكيف شيئا وأقر أنه ليس كمثله شيء
ومن الحجة فيما ذهبت إليه الجماعة أن الموحدين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو دهمهم غمر أو نزلت بهم شدة رفعوا أيديهم إلى السماء يستغيثون ربهم ليكشف ما نزل بهم ولا يشيرون بشيء من ذلك إلى الأرض
ولولا أن موسى (عليه السلام) قال لهم إلهي في السماء ما قال فرعون (يهمن بن لى صرحا لعلى أبلغ الأسبب أسبب السموت فأطلع إلى إله موسى)
وهذا أمية بن أبي الصلت وهو ممن قرأ الكتب التوراة والإنجيل والزبور
وكان من وجوه العرب يقول في شعره
(فسبحان من لا يقدر الخلق قدره... ومن هو فوق العرش فرد موحد)
(ملك على عرش السماء مهيمن... لعزته تعنو الوجوه وتسجد) وفيه يقول في وصف الملائكة
(وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه... يعظم ربا فوقه ويمجده)].
انتهى كلام ابن عبد البر من الأستذكار فتأملوه!
وقال ابن عبد البر ناقلاً قول ابن خويز منداد معتمداً عليه في أن الأشاعرة من أهل الأهواء والبدع! في كتاب جامع بيان العلم وفضله ص (3/177):
[حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن ثنا إبراهيم بن بكر، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خواز منداد المصري المالكي في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف قال مالك: « لا تجوز الإجارة في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم، وذكر كتباً ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك، وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك » وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادة في الإسلام ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها.... على أني أقول: لا خير في شيء من مذاهب أهل الكلام كلهم وبالله التوفيق].
ففي هذا النص كما هو واضح ترى أن الأشعرية من أهل الأهواء والبدع!
فهل نحن ندافع عن الأشاعرة أم نحن ضدهم فيما نبينه عن ابن عبد البر ؟!
وهل أنتم مع القائلين بالجهة وحمل ما يسمى بآيات الصفات على حقيقتها أو ظاهرها أم أنتم مع منزهة الأشاعرة الفضلاء ؟!
وهل العاقل من يقف من القائل بالجهة وحقيقة وظواهر النصوص ويعتبر الأشاعرة من أهل الأهواء والبدع أم من يقف ضد هذا التيار ؟!
إنسان يقول بالجهة وحقيقة وظواهر النصوص ويرميك بأنم من أهل البدع والأهواء كيف تدافع وتنافح عنه وتقف في صفه ضد من يرشدك إلى التنزيه ويحذرك من القائلين بالجهة ؟
أيها الناس تعقّلوا وتدبروا!
وقد نص أبو عبد الله الوشتاني الأُبّي (المتوفى سنة 827هـ) في شرح صحيح مسلم على أن ابن عبد البر وابن أبي زيد يقولان بالجهة في حق المولى تبارك وتعالى.
وكنت قد قلت قبل (25) سنة تقريباً في شرح الطحاوية ما مختصره:
[قال الإمام الحافظ السُبكي في كتابه (معيد النِّعَم ومبيد النِّقَم) ص (62):
(وبرَّأ الله المالكية فلم نر مالكياً إلا أشعرياً عقيدة..).
وقوله: (وبرّأ الله المالكية فلم نر مالكياً إلا أشعرياً عقيدة) إن عنى الشيخ به أنه لم ير في حياته من الأحياء الذين لقيهم من علماء السادة المالكية إلا أشعري العقيدة فالظاهر أنه مصيب لكن السياق والكلام لا يدلُّ على أنه أراد هذا المعنى، وإن أراد أن المالكية ليس فيهم مجسمة ومشبهة خلافاً لبقية المذاهب فليس هذا بصواب قطعاً، وذلك لأن الطَلَمَنْكيَّ المالكي مشبِّه مجسِّم أثبت عضوَ الجَنْبِ لله تعالى كما نقل ذلك عنه الحافظ الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/569)، ومثله ابن أبي زَمَنين وابن رشد الحفيد الفيلسوف وغيرهم لكنهم قليل في المذهب.
أقول: وابن رشد الحفيد مع كونه فيلسوفاً فإنه مجسم مشبه!! فإن ابن رشد هذا عقد باباً في كتابه مناهج الأدلة ص (171) من طبعة مكتبة الأنجلو المصرية سماه: [القول في صفة الجسمية] قال فيه: (فإن قيل: فما تقول في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرَّح الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من المسكوت عنها ؟ فنقول: إنه من البيِّن من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها.....)].
هذا ما سنح الوقت به الآن من بيان حال ابن عبد البر عندنا وعند بعض السادة العلماء الذين بينوا قضية عقيدته المتعلقة بالصفات والجهة، ولا قصد لنا هنا إلا إزالة الإشكال وكشف جلية الأمر، منافحة عن عقيدة التنزيه للباري سبحانه، وإخراجاً لبعض من احتار في القضية من حيرتهم، خدمة لهذه الشريعة الغراء من دون محاباة أو مجاملة على حساب الشريعة، وغيرة لله تعالى من أن يوصف بما لا يليق بجلاله سبحانه، فلن ينفعنا إلا الإخلاص مع الله وتقديم رضاه ورضى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على رضى الناس.
ونقول أخيراً: ومن إيجابيات ابن عبد البر أنه كان منافحاً ومدافعاً في كتبه التي ألفها كالاستيعاب عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وواقفاً معهم وناصراً لهم على أعدائهم وهذا حق لا مرية فيه وكلامه في ذلك جيد، ولنا فيه كلام في وقت آخر إن شاء الله تعالى.
والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
______________________________