صفحة 1 من 1

بيان أن ( لن ) تفيد التأبيد فيما وردت به من نصوص:

مرسل: الجمعة نوفمبر 29, 2024 1:55 pm
بواسطة عود الخيزران
بيان أن ( لن ) تفيد التأبيد فيما وردت به من نصوص:

قال الدكتور نذير العطاونة في كتابه: ( القواعد اللغوية المبتدَعة):
المسألة السادسة :
هل (لن) تفيد التأبيد أم لا ؟؟


الخلاف في هذه المسألة جاء خلال النقاش في مسألة رؤية الله في الآخرة ، فذهب النافون لها إلى أن في قوله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام عندما طلب الرؤية : { لن تراني } دليل واضح على نفي الرؤية على اعتبار أن ( لن ) حرف لنفي الاستقبال وبما أنه لم يُقيد بزمان فالأمر على إطلاقه في المستقبل إلى الأبد وخالف في ذلك القائلون برؤية الله في الآخرة ، فقال ابن أبي العز الحنفي في (( شرح العقيدة الطحاوية )) ص (192) : [ وأما دعواهم تأبيد النفي بـ (( لن )) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ففاسد ، فإنها لو قيّدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة ، فكيف إذا أطلقت ؟ قال تعالى : { ولن يتمنوه أبداً } ، مع قوله : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } . ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها ، وقد جاء ذلك ، قال تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } فثبت أن (( لن )) لا تقتضي النفي المؤبد ] .
وما نقول به في هذا الباب أن (( لن )) حرف نفي للاستقبال كما نص على ذلك أئمة اللغة ونقل ابن هشام في (( شرح قطر الندى )) أن ذلك محل اتفاق فقال ص (58) : [ لن حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق ] ، والأصل في الاستقبال هو الدوام ويجوز أن يدخله التخصيص بتحديد المدة أو بيان أجلها فالقول بالتأبيد لا يتعدّى ذلك ولا يعني إطلاقاً عدم جواز الانقطاع والتحديد وهذا ما أُشكل على البعض ففهموا منه نفي التأبيد .
فالنفي المجرد غير المقيد بـ (( لن )) يُفهم منه استقبال النفي وهو على إطلاقه ما لم تأت قرينة دالة على حد ونهاية لهذا النفي .

في شواهد قرآنية تشير إلى أنه لا يجوز أن تكون " لن " إلا للتأبيد

1) قال تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له }(الحج/73) ، فالله عز وجل تحدّى المشركين بخلق الذباب ، وبَيَّن عجزهم وقصورهم عن ذلك بالنفي المطلق المؤكد بلفظ ( لن ) ، ولا يقول عاقل هنا أن هذا النفي مقيد بوقت دون موقت ، وإنما هو على إطلاقه في كل وقت وحين.
2) قال تعالى : { قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده } (البقرة/80) ،{ ولن يخلف الله وعده }(الحج/47) ، وخُلف الله لوعده وعهده مما لا يجوز بحقه تعالى ، فأفاد ذلك تأبيد النفي.
3) قال تعالى : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين }(البقرة/24) . وهذا كما هو ظاهر محمول على التأبيد .
4) قال تعالى : { قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين }(القصص/17) ، فهل يجوّز عاقل أن يصير النبي المعصوم عوناً للمجرمين ؟!! وإلا لزم اتباع الحق في هذه المسألة والقول بتأبيد النفي الذي أفادته ( لن ) .
5) قال تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً }(النساء/172) ، فسيدنا عيسى عليه السلام لا يأنف ولا يستكبر عن عبادته تعالى ولا يجوز بحال أن نجوز عليه الاستنكاف والاستكبار لأن ذلك نقص في حقه وإنزال عن مرتبة النبوة والعصمة ، وهذا يعني المصير إلى القول بنفي التأبيد المستفاد من ( لن ) .
ولنبدأ الآن بتفنيد كلام ابن أبي العز السابق وبيان ما أشكل في هذه المسألة فنقول :
1) قال تعالى مبيناً حال اليهود وموبخاً لهم : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم }(البقرة/94-95) ، فالله تبارك كذّبهم بدعواهم التي زعموا فيها أن لهم الدار الآخرة من دون الناس وأقام عليهم الحجة بطلبه منهم تمنّي الموت والمسارعة إلى الدار الآخرة التي يدّعونها لأنفسهم ، فالله تعالى تحدّاهم أن يتعجّلوا في طلب موتهم وانقضاء حياتهم الدنيا ( فالموت هنا هو الموت الدنيوي والانتقال من الحياة الدنيا إلى الآخرة ) وهذا ما تحدّاهم الله أن يطلبوه ويتمنوه رغبة منهم وطواعية !
وأما ما يقوله المجرمون في الآخرة : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك }(الزخرف/77) ، فهم يتمنون فيه الخلاص من العذاب والهوان يدفعهم إليه الذل والصغار الذي هم فيه وهذا تمن لموت في الحياة الآخرة يُكرههم عليه ما يلاقونه من العذاب المهين .
فشتان ما بين الموتين في الآية الأولى وفي الثانية !! ومن المغالطة اعتباره نفسه واتحاد معناه ! ومن يصر على ذلك يخرج عن سياق الآيات ويبتعد كل البعد عن الفهم الصحيح للآيات الكريمة.
2) ودليل القائلين بأنها لا تفيد التأبيد قد لخصه ابن هشام في (( مغني اللبيب )) (1/313) قائلاً : [ ولو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم في { فلن أكلم اليوم إنسياً } ولكان ذِكرُ الأبد في { ولن يتمنوه أبداً } تكراراً ، والأصل عدمه ] .
وأقول : قد ورد التقييد حتى في ألفاظ التأبيد ، كما في قوله تعالى : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها }(المائدة/24) ، وكقوله تعالى : { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده }(الممتحنة/4) . وهذا يُبطل قول القائل أنها لو كانت للتأبيد لم يُقيد منفيها !!
وجواز دخول التقييد على ( لن ) يُشير إلى أن أصلها للاستمرار في نفي المستقبل ، فيدخل التقييد لئلا يُتوهم التأبيد عندما لا يُراد .
وأما مسألة التكرار فهو من باب تأكيد الشيء بمرادفه ، قال ابن مالك في ألفيته :
وَمَا مِنَ التَّوكِيْدِ لَفْظِيُّ يَجِي مُكَرَّرَاً كَقَولِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي
قال الأشموني في شرحه المسمى (( منهج السالك إلى ألفية ابن مالك )) : [ النوع الثاني من نوعي التوكيد ، وهو التوكيد اللفظي هو إعادة اللفظ أو تقويته بموافقه معنى ، كذا عرفه في (( التسهيل )) ، فالأول يكون في الاسم والفعل والحرف ... والثاني كقوله :
أَنْتَ بِالخَيرِ حَقِيقٌ قَمِنٌ
وقوله :
وقُلن على الفِردَوسِ أوَّلُ مُشرَبٍ أجل جَيْرِ إن كانت أُبيحَت دَعاثِرُه] .
وقال أبو علي القالي في (( الأمالي )) :
[ كواكبها زواحف لاغباتٌ كأنّ سماءها بيدي مدير
الزّواحف : المعييات التي لا تقدر على النّهوض ، واللّواغب : مثلها ، كرّره توكيداً لمّا اختلف اللفظ ] .
فرع :
موافقة ابن كثير وابن عطية لما نُسب إلى الزمخشري في إفادة ( لن ) للتأبيد

وافق جماعة من أهل العلم لما نُسب إلى الزمخشري من القول بأن ( لن ) تفيد التأبيد . قال الإمام السيوطي في (( هَمْع الهَوَامع )) (4/95) : [ وقد وافقه على إفادة التأبيد ابن عطية ] .
وقال ابن كثير في تفسيره (1/61) : [ { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } ولن تفيد التأبيد في المستقبل ، أي ولن تفعلوا أبداً ، وهذه أيضاً معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين ] .

[ فائدة ]
زعم ابن الخطيب الزّمَلْكاني أن النفي بـ ( لن ) منقطع ، والنفي بـ ( لا ) دائم مستمر ، واستدل على ذلك بأداء النطق للكلمتين ، فزعم أن ( لا ) يمتد نطق الصوت بحرف الألف في آخرها ، فيمتد النفي فيها ، وانقطاع الصوت بنطق حرف النون في آخر كلمة ( لن ) يفيد انقطاع النفي!!
وقد ردّ عليه أهل العلم ، واعتبروا وجه استدلاله هذا توهماً وخيالاً لا يقوم على أساس ، قال أبو حيان في (( ارتشاف الضَّرَب من لسان العرب )) (4/1644) : [ ودعوى بعض أهل البيان أن ( لن ) لنفي ما قَرُب ، ولا يمتدُّ نفي الفعل فيها كما يمتد في النطق بـ ( لا ) من باب الخيالات التي لأهل علم البيان ] .
قلت : وقد رأيت لأحد ( الدكاترة ) تفسيراً للقرآن الكريم بناه على خصائص الحروف وصفاتها ومخارجها ، فاستغربت وعجبت !! إذ يدخل ذلك في باب تفسير القرآن بالرأي الذي أتى الشرع بذمه ، ولمّا جالست هذا ( الدكتور ) وجدته مغرماً بعمله هذا معتزاً به ظاناً أنه أتى بما لم يسبقه به أحد !!! وهكذا يكون حال الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً !!!


[ كلام كان لا بد له أن يتقدم ]
هل قال الزمخشري بالتأبيد ؟

لقد شاع واشتهر عند بعضهم أن الذي قال بإفادة ( لن ) للتأبيد هو الزمخشري ، وكثيراً ما قالوا : [ خلافاً له في أنموذجه ] .
وبعد انتهائي من كتابة هذا المبحث ، خطر لي أن أقف على هذا الكلام الذي يُنسب للزمخشري ، كي أنظر فيه وأرى نص عبارته ، فرجعت لكتابه (( الأنموذج )) ، وفوجئت أني لم أجد عند كلامه على ( لن ) شيئاً من هذا الكلام ، فقرأت (( الأنموذج )) من أوله إلى آخره ، لأتأكد وأتيقن بعد ذلك أن نسبة هذا القول للزمخشري محل شك !!! ولو نفاه نافٍ وادعى أن الزمخشري لم يقله ، لم يكن كلامه ببعيد !!!
فقد قال الزمخشري في (( الأنموذج )) : [ و ( لَنْ ) نظيرة ( لا ) في نفي
المستقبل ، ولكن على التأكيد ] ، هذا نص عبارته ، فأين القول بالتأبيد ، وكيف سرى هذا الوهم إلى بعضهم ؟؟
قلت : إن عدم اطلاع الأقدمين على أصل الكلام والرجوع إليه من كتب خصومهم أوقعهم بمثل هذا ، فيأتي أحدهم ويدّعي دعوى ، فيتابعه عليه من بعده تقليداً ، وهذا ما حدث هنا تماماً ، وإلا لو اطلعوا على كتاب (( الأنموذج )) لما نسبوا للزمخشري مثل هذا الكلام !!
أضف إلى ذلك كون الزمخشري معتزلياً ، والمعتزلة ينفون رؤية الله ويستدلون على ذلك بقوله تعالى : { لن تراني } ، فالظاهر أنهم استنبطوا من ذلك أن الزمخشري يقول بالتأبيد !!!
وقد جاء في بعض نسخ (( الأنموذج )) قول الزمخشري : [ التأييد ] – بالياء - بدل قوله : [ التأكيد ] ، فالظاهر أن ( التأييد ) تصحّفت إلى ( التأبيد ) ، فكان هذا السبب في نسبة القول للزمخشري بالتأبيد !!!!
ولذلك وعليه فقد أحسن الإمام الرازي عندما نَسب القول بالتأبيد لأهل اللغة عموماً ولم يخصصه بالإمام الزمخشري ، قال الرازي في تفسيره (( مفاتيح الغيب )) : [ نُقل عن أهل اللغة أن كلمة ( لن ) للتأبيد ].
ومع أنه لا يهمّنا إِنْ قال الزمخشري بذلك أم لم يقل ، لأن العبرة بالدليل لا بأقوال الرجال ، إلا أن الأمر لشهرته وذيوعه اقتضى التنبيه .