مسألة: في أن الوعد يأتي بمعنى الوعيد:
قال الدكتور نذير العطاونة في كتابه: ( القواعد اللغوية المبتدَعة):
المسألة السادسة عشرة :
الوعد تأتي بمعنى الوعيد
والرد على ما نُسب إلى أبي عمرو بن العلاء
إن الله تعالى وعد المؤمنين المطيعين بالثواب في قوله جل وعلا : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم }(التوبة/72) ، وكذلك توعد العصاة بالعذاب كما في قوله : { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مُقيم }(التوبة/68) ، فإن ثبت الطائع على طاعته دون تبديل أو تغيير ، وبقي العاصي على معصيته دون توبة وإنابة ، فما هو مصير كل من الفريقين ؟
هل ينجز الله وعده للمؤمنين ويثيبهم كما أخبرهم ؟
وهل يعذب العصاة كما توعدهم ؟ أم من الممكن أن يغفر لهم ويسامحهم دون توبة ؟
لقد ذهب البعض إلى أن الله قد لا ينفذ وعيده لمن عصاه ، ويخلف ما توعدهم به، قال ابن القيم في (( حادي الأرواح )) ( ص 271 ) : [ وقد صرح سبحانه و تعالى في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده، وقد روى أبو يعلى الموصلي : ثنا هدبة بن خالد حدثنا سهيل بن أبي حزم ثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : (( من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه و من واعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار )) ، وقال أبو الشيخ الأصبهاني : ثنا محمد بن حمزة ثنا أحمد بن الخليل ثنا الأصمعي قال : (( جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال : يا أبا عمرو يخلف الله ما وعده ؟ قال : لا ، قال : أفرأيت من أوعده الله على عمله عقاباً أيخلف الله وعده عليه ؟ فقال أبو عمرو بن العلاء : من العجمة أتيت يا أبا عثمان ، إن الوعد غير الوعيد ، إن العرب لا تعد عاراً و لا خلفاً إن تعد شراً ثم لا تفعله ترى ذلك كرماً و فضلاً و إنما الخلف إن تعد خيراً ثم لا تفعله ، قال : فأوجدني هذا في كلام العرب قال : نعم ، أما سمعت إلى قول الأول :
ولا يرهب ابن العم ما عشت سطوتي
و إني وإن أوعدته أو وعدته
و لا أختشي من صولة المتهدد
لمخلف إيعادي و منجز موعدي
قال أبو الشيخ : و قال يحيى بن معاذ : (( الوعد و الوعيد حق ، فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا ، ومن أولى بالوفاء من الله ؟ و الوعيد حقه على العباد ، قال : لا تفعلوا كذا فأعذبكم ، ففعلوا فإن شاء عفا و إن شاء أخذ لأنه حقه ، وأولاهما بربنا تبارك و تعالى العفو و الكرم ، إنه غفور رحيم )) .
و مما يدل على ذلك و يؤيده خبر كعب بن زهير حين أوعده رسول الله فقال :
نُبِّئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
فإذا كان هذا في وعيد مطلق فكيف بوعيد مقرون باستثناء معقب بقوله : { إن ربك فعال لما يريد } ، و هذا إخبار منه أنه يفعل ما يريد عقيب قوله : { إلا ما شاء ربك } (1) ... ] .
قلت : مدار الكلام على التفريق بين الوعد والوعيد ، وادعاء أن الوعد للخير ومنه يقال : وعدته ، وأن الوعيد للشر ومنه يقال : أوعدته .
وقد هذب هذه القاعدة الأزهري فقال في (( تهذيب اللغة )) (1/353) : [ وكلام العرب : وعدت الرجل خيراً ووعدته شرّا وأوعدته خيراً وأوعدته شراً ، فإذا لم يذكروا الخير قالوا : وعدته فلم يدخلوا ألفاً ، وإذا لم يذكروا الشرَّ قالوا : أوعدته فلم يسقطوا الألف ] .
أي أنه أجاز أن يقال : وعدته خيراً وشراً ، وأوعدته خيراً وشراً ، فإن كانت الألفاظ ( وعد وأوعد ) بلا تقييد فلا يُقال في الخير إلا وعدته ، وفي الشر إلا أوعدته .
وما يقصد به القوم من ذلك أن يجعلوا قول الله تعالى : { وعد الله لا يخلف الله وعده }(الروم/6) ، مختصاً بما وعد الله المؤمنين وجواز خلف وعيد أهل النار !!!
وفي كتاب الله الكثير من الآيات التي ترد هذه القاعدة وتبطلها ومنها :
1) قول الله تعالى : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً }(الأعراف/44) .
فوعد الله للمؤمنين هو جنان الخلد ، ووعده للكافرين هو نار جهنم ، ولم يقل تبارك وتعالى : أوعدكم !! مما يعني جواز استخدام ( الوعد ) دون تقييد ويراد به الشر .
2) وقال تعالى : { إن ما توعدون لآت وما أنتم بِمُعجِزين } (الأنعام/134) ، وقد جوّز القرطبي في تفسير هذه الآية أن يكون الوعد للخير والشر فقال في (( تفسيره )) (7/88) : [ يحتمل أن يكون من أوعدت في النشر والمصدر الإيعاد والمراد عذاب الآخرة ، ويحتمل أن يكون من وعدت على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلب الخير ] .
3) وقال تعالى : { إنما توعدون لواقع }(المرسلات/7) ، قال الطبري في (( تفسيره )) (29/233) لهذه الآية : [ إن الذي توعدون أيها الناس من الأمور لواقع ، وهو كائن لا محالة ، يعني بذلك يوم القيامة ، وما ذكر الله أنه أعدّ لخلقه يومئذ من الثواب والعذاب ] .
4) وقال تعالى : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } (يونس/48) . قال القرطبي في (( تفسيره )) (8/349) : [ يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب ، أي متى العقاب ] .
فثبت من هذا كله أن قول الله تعالى : { وعد الله لا يخلف الله وعده } (الروم/6) ، شامل لجزاء المؤمنين وعقاب العاصين ، والله تعالى لا يبدل قوله : { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد }(ق/29).
[ فرع ]
ولقد ذكر الزمخشري في كتابه (( ربيع الأبرار ونصوص الأخبار )) في باب ( الجوابات المسكتة ) نص المناظرة بين عمرو بن عبيد وأبي عمرو بن العلاء وفيه زيادة واختلاف عما ذكره ابن القيم ، فأحببنا أن ننقله هنا ، وهذا هو :
[ تناظر أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد في الوعيد ، فأنشد أبو عمرو :
ولا يرهب ابن العم ما عشت سطوتي
وإني وإن أوعدته أو وعدته
ولا أختشي من صولة المتهدد
لمخلف إيعادي و منجز موعدي
فقال له عمرو: صدقت ، تمدح العرب بالوعد دون الإيعاد وتمدح بالوفاء بهما لِتَصرِف المعاني ، وأنشد :
إن أبا خالد لمجتمع الرأ
لا يخلف الوعد والوعيد ولا
ي شريف الأفعال والبيت
يبيت من ثأره على فوت
وأنشد السيرافي لأبي وجزة السعدي في نحو ذلك :
صُدقٌ إِذا وَعَد الرِجالُ وَأَوعَدوا بِأَحبِّ بادِرَةٍ وَأَوفى مَوعِدِ
ولبعض الأسديين وهو جاهلي :
أنا الصاب أن شورست يوما وأنني
بسيط يد بالعرف والنكر أن أقل
صؤول على الصعب المنوع وممسك
جنى النحل أن سومحت إلا لآكل
بوعد وإيعاد أقل قول عامل
عرامي على الواهي القوى المتضاءل
الحواشي السفلية:
( 1 ) الكلام هنا على قول الله تعالى : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ، خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد }(هود/106-107) ووجه استدلال ابن القيم أن الله تعالى علّق خلود أهل النار بدوام السماوات والأرض ، والسماء والأرض مصيرهما الفناء ، وما تعلق وجوده على الفاني فهو فانٍ ، وعليه فعذاب أهل النار منقطع ! ومن وجه آخر تعلّق بقائهم في النار بمشيئة الله والتعقيب بأن الله يفعل ما يريد !
فنقول : لا بد من العلم أولاً أن هذا القول من ابن القيم سرى له من شيخه ابن تيميه الذي قال بفناء النار حتى رد عليه الإمام تقي الدين السبكي في رسالته المشهورة (( الاعتبار ببقاء الجنة والنار )) ، وسار ابن القيم على هذه المقولة مما دفع الصنعاني إلى الرد عليهما برسالة (( رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار )) .
وأما الاستثناء بمشيئة الله في الآية الكريمة فلا يدل على الانقطاع ، فهو يَرِدُ في كلام الله للدلالة على وقوع الأمر بتدبير من الله وعنايته كما في قول تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله }(الأعلى/6-7) ، ونحن نقطع يقيناً أن سيدنا رسول الله لم ينس شيئاً مما أوحاه الله إليه ، قال القرطبي في (( تفسيره )) (20/18) : [ ووجه الاستثناء على هذا ما قاله الفراء : { إلا ما شاء الله } وهو لم يشأ أن تنسى شيئاً ، كقوله تعالى : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } ولا يشاء ، ويقال في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت وإلا أن أشاء أن أمنعك والنية على ألا يمنعه شيئاً ، فعلى هذا مجاري الأيمان يستثنى فيها ونية الحالف التمام ] .
وتعليق الخلود بدوام السماء والأرض أجاب عنه القرطبي في (( تفسيره )) (9/99) بقوله : [ ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما ، والسماء كل ما علاك فأظلك ، والأرض ما استقر عليه قدمك ، وفي التنزيل : { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } ، وقيل : أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء
وتأبيده ، كقولهم : لا آتيك ماجن ليل أو سال سيل ومار اختلف الليل والنهار وما ناح الحمام ومادامت السماوات والأرض ونحو هذا مما يريدون به طولاً من غير نهاية ، فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض ] .
مسألة: في أن الوعد يأتي بمعنى الوعيد:
قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm
العودة إلى ”قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد“
الانتقال إلى
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↲ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↲ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↲ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↲ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↲ شرح الحديث
- ↲ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↲ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↲ القواعد والأصول العقائدية
- ↲ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↲ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↲ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↲ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↲ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↲ السيرة النبوية
- ↲ قضايا تاريخية
- ↲ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↲ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↲ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↲ الردود على المخالفين
- ↲ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↲ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↲ القواعد الأصولية الفقهية
- ↲ مسائل فقهية عامة
- ↲ المذهب الحنفي
- ↲ المذهب المالكي
- ↲ المذهب الشافعي
- ↲ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↲ النحو والصرف
- ↲ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↲ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↲ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↲ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↲ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↲ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد