مسألة: إبطال زعم ابن القيم عطف (ومن اتبعك) على محل الكاف في (حسبك):
مرسل: الخميس ديسمبر 05, 2024 11:05 am
مسألة: إبطال زعم ابن القيم عطف (ومن اتبعك) على محل الكاف في (حسبك):
قال الدكتور نذير العطاونة في كتابه: ( القواعد اللغوية المبتدَعة):
المسألة التاسعة عشرة :
إبطال زعم ابن القيم عطف (ومن اتبعك) على محل الكاف في (حسبك)
وتُعدّ هذه المسألة من نماذج تأويلات ابن القيم لكتاب الله ليتّفق مع هواه ولينتصر فيه لرأيه ورأي شيخه ابن تيمية في مسائل رَمْي الناس بالبدعة والشرك وعبادة غير الله ، فقد ادعى أنه لا يجوز عطف ( مَنْ ) على لفظ الجلالة (الله) في قول الله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } (الأنفال/64) ، وشبهته في ذلك أن الحسب يختص بالله كالعبادة والتوكل !!
وهذا تمام كلامه ننقله هنا ونعلق عليه لنقشع ظلمات المجازفة والتقوّل بمجرد الرأي ودون تتبع وبحث للمسألة أصولاً وفروعاً .
قال ابن القيم في (( زاد المعاد في هدي خير العباد )) (1/35) : [ وقال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين }(الأنفال/64) ، أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد ، وهنا تقديران :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لِـ ( مَنْ ) على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار(1) ، وشواهده كثيرة (2)، وشبه المنع منه واهية (3).
والثاني : أن تكون الواو ( واو مع ) ، وتكون ( مَنْ ) في محل نصب عطفاً على الموضع ، فإن حسبك في معنى كافيك ، أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب : حسبك وزيداً درهم ، قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاكَ سيف مُهنّد
وهذا أصح التقديرين ، وفيها تقدير ثالث : أن تكون ( مَنْ ) في موضع رفع
بالابتداء ، أي : ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله، وفيها تقدير رابع - وهو خطأ من جهة المعنى – وهو : أن تكون ( مَنْ ) في موضع رفع عطفاً على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك ، وهذا إن قاله بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة ، قال الله تعالى : { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين }(الأنفال/62) ، ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم
الوكيل }(آل عمران/173) ، ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ؟
وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه ، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟ هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ] .
قلت : أما احتجاج ابن القيم باللغة وتمسكه بأذيالها فقد زيّفناه في الحاشية تعليقاً على كل منفذ حاول الركون إليه ولم يتبق له إلا شبهة زعمه أن الحسب مختص بالله تعالى كالتوكل والعبادة ودعواه الاختلاف بين الحسب والتأييد ، وما هذا منه إلا قشة غريق تغري بصاحبها وتمنحه أملاً موهوماً ، فيكون الغرق مآله وقعر البحر مكانه .
والحسب غير مختص إسناده بالله تعالى ، وقد ورد مسنداً إلى غيره ، وذلك كثير في القرآن الكريم ، ومنه قوله جل وعلا : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِير }(المجادلة/8) ، وقال أيضاً : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ }(التوبة/68) ،
فهذا إسناد ( الحسب ) إلى جهنم واضح جلي لا يدع شكاً في بطلان ما ادعاه ابن القيم ، بل وزيادة على هذا فقد أتى الإسناد لغيره تعالى أيضاً في السنة المطهرة كما في حديث : [ مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ] ، وحديث : [ لا تَحَاسَدُوا وَلا تَنَاجَشُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ].
فتبين بهذا أن إسناد الحسب لغير الله تعالى صحيح شرعاً مستقيم المعنى ، ولا مانع منه .
وأما تشبيهه الحسب بالكفاية بقوله : [ فإن الحسب والكفاية لله وحده ] ، فتلبيس وبهرجة لا طائل وراءها ومما يبطلها فضلاً عما تقدم أن الكفاية أيضاً أسندت لغير الله تعالى ، كما في قول المولى : { اقْرَأْ كَتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }(الإسراء/14) ، فهذا إسناد الكفاية لنفس العبد الذي كلفه الله تعالى !!!
وأما ثناء الله ومدحه لمن توكل عليه واقتصر على كفايتة فلا يلزم منه اختصاص الحسب بالله ، وهل ذكر الشيء ينفي غيره ؟!
وهل عدم قولهم : ورسوله ، يعني اختصاص ( الحسب ) بالله ؟؟!
وأما فائدة العطف هنا كما قال ابن عاشور في (( التحرير والتنوير )) : [ وفي عطف المؤمنين على اسم الجلالة هنا تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم ، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة ، وهذا من عموم المشترك لا من إطلاَق المشترك على معنيين ، فهو كقوله : { إن الله وملائكة يصلون على النبي } ] .
ولا يتوهم القاريء من كلام ابن القيم هذا أن عطف الحسب قد يقود إلى الشرك على ما ألمح عندما زعم أن الحسب كالعبادة والتوكل ، وما هذا منه إلا تلبس ليرهب مخالفيه ، فقد جاء التشريك بواو العطف في كتاب الله كما في قوله تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين } (التوبة/62) .
ويكفينا هذا البيان لمن تأمل وتدبر ، ففيه غنية الطالب ليكون على بصيرة من أمره متيقناً بطلان تمويه ابن القيم في مسألة ( الحسب ) ، وأنه بذلك لا حجة له فيها ولا دليل ، ومن ذهب من أهل العلم إلى أن ( ومن اتبعك ) معطوف على لفظ الجلالة فقوله صحيح ولا غبار عليه ، والحمد لله رب العالمين .
الحواشي السفلية:
( 1 ) بل هذا قول ضعيف وليس بمُختار ، وقد ردّه الجمهور ، قال ابن عقيل في (( شرح الألفية )) (2/246) : [ وأما الضمير المجرور فلا يُعطف عليه إلا بإعادة الجار له ، نحو ( مررت بك وبزيد ) ، ولا يجوز ( مررت بك وزيد ) ، هذا مذهب الجمهور ] ، وقال العكبري في (( التبيان في إعراب القرآن )) (2/276) : [ وهو ضعيف ، لأنه عطف على المجرور من غير إعادة الجار ] .
( 2 ) لم يذكر ابن القيم من هذه الشواهد شيئاً ، وليته فعل لنناقشه ونباحثه فيها ، ولذلك سنضطر لنقل أهمها من كتب القوم لنبيّن وهاءها وضعف دلالتها ، فنقول :
الأول : قال ابن مالك في (( شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح )) (ص108) : [ ومن مؤيدات الجواز قوله تعالى : { قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام }(البقرة/217) فجرّ ( المسجد ) بالعطف على الهاء المجرورة بالباء لا بالعطف على ( سبيل ) ، لاستلزامه العطف على الموصول وهو ( الصدّ ) قبل تمام صلته ، لأن ( عن سبيل ) صلة له ، إذ هو متعلق به ، و ( كفر ) معطوف على ( الصد ) ... فيلزم ما ذكرته من العطف على الموصول قبل تمام الصلة ، وهو ممنوع بإجماع ] .
وجوابه : أن يُقال ، بل العطف على (سبيل ) أوجه ، قال الإمام الرازي في (( تفسيره )) : [ إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله : { والمسجد الحرام } وذكروا فيه وجهين ، أحدهما : أنه عطف على الهاء في به . والثاني : وهو قول الأكثرين : أنه عطف على { سَبِيلِ الله } ، قالوا : وهو متأكد بقوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام }(الحج/25) ، ... ، وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا : لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول ، والأصل أنه لا يجوز ، إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين ، الأول : أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى فكأنه لا فصل ، الثاني : أن موضع قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } عقيب قوله : { والمسجد الحرام } إلا أنه قدم عليه لفرط العناية ، كقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدًا }(الإخلاص/4) ، كان من حق الكلام أن يقال : ولم يكن له أحد كفواً ، إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا ] .
وقد عد بعضهم أن الفصل بغير الأجنبي واقع في اللغة ، كما ذكر ابن عصفور في (( شرح الجمل )) (1/295) : [ ويجوز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس بأجنبي ، فتقول : قام زيد اليوم وعمرو ، فتفصل بين زيد وعمرو بالظرف لأنه ليس بأجنبي من الكلام ] .
وقد ذكر الأنباري نكتة أخرى تُقوّي العطف على ( سبيل الله ) فقال في (( الإنصاف )) (2/471) : [ لأن إضافة الصد عنه أكثر في الاستعمال من إضافة الكفر به ، ألا ترى أنهم يقولون : صددته عن المسجد ، ولا يكادون يقولون : كفرت بالمسجد ] .
الثاني : قال ابن مالك أيضاً في (( شواهد التوضيح )) (ص108) : [ ومن مؤيدات الجوار قراءة حمزة : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ }(النساء/1) ، بالخفض ] .
والجواب : قد أنكر بعض أهل العلم هذه القراءة أصلاً ، كما ذكر الحريري في (( درة الغواص في أوهام الخواص )) : [ ولهذا لحنوا حمزة في قراءته : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } ، حتى قال أبو العباس المبرّد : لو أني صليت خلف إمام فقرأ بها لقطعت صلاتي ، ومن تأول فيها لحمزة جعل الواو الداخلة على لفظة الأرحام واو القسم لا واو العطف ] ، وقال المبرد في (( الكامل )) ( باب في التشبيه ) ، (3/38) : [ لأنهم لا يعطفون الظاهر على المضمر المخفوض ، ومن أجازه من غيرهم فعلى قبح ، كالضرورة . والقرآن إنما يحمل على أشرف المذاهب . وقرأ حمزة : { الذي تساءلون به والأرحام } ، وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطر إليه شاعر ] ، وفي (( شرح الرضي على الكافية )) (2/336) إنكار تواتر هذه القراءة بقوله : [ ولا نسلّم تواتر القراءات ] ، وفي (( اللباب في علل البناء والإعراب )) للعكبري ما نصه : [ وأحتج الآخرون بقوله تعالى : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } ، على قراءة الجر وبأبيات أنشدوها ، أما الآية فقراءة الجر فيها ضعيفة ... وأما الأبيات فمنها ما لا يثبت في الرواية ، وما يثبت منها فهو شاذ ، وبعضها يمكن إعادة الجار معه ] ، وقال الزمخشري (ص162) : [ وقراءة حمزة { والأرحامِ } ليست بتلك القوية ] ، وقال القاضي البيضاوي (ت 791 هـ) في تفسيره المسمى (( أنوار التنزيل وأسرار التأويل )) (1/199) : [ وقراءة حمزة عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض كلمة ] .
وأما من قال بثبوت هذا الوجه من القراءة ، فقد اعتذر بتخريج الخفض على غير العطف على المجرور ، فقد قال ابن جني في (( الخصائص )) (1/285) : [ ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس ، بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخف وألطف وذلك أن لحمزة أن يقول لأبي العباس : إنني لم أحمل { الأرحام } على العطف على المجرور المضمر ، بل اعتقدت أن تكون فيه باء ثانية حتى كأني قلت : وبالأرحام ، ثم حذفت الباء لتقدم ذكرها ، كما حذفت لتقدم ذكرها في نحو قولك : بمن تمرر أمرر ، وعلى من تنزل أنزل ، ولم تقل أمرر به ولا أنزل عليه ، لكن حذفت الحرفين لتقدم ذكرهما ] .
الثالث : ثم قال ابن مالك في (( شواهد التوضيح )) (ص109) : [ وأجاز الفراء أن يكون { ومن لستم له برازقين } معطوفاً على { لكم فيها معايش } ] .
والجواب : بما قاله الأنباري في (( الإنصاف )) (2/472) : [ وأما قوله تعالى : {وجعلنا فيها معايش ومَنْ لستم له برازقين }(الحجر/20) ، فلاحجة لكم فيه ، لأن ( من ) في موضع نصب بالعطف على ( معايش ) ، أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء ] .
الرابع : واحتجوا بقول الشاعر :
فاليومَ قرَّبتَ تهجونا وتَشتُمُنا فاذهب فما بكَ والأَيامِ من عَجَبِ
وجوابه : ما قال الأنباري في (( الإنصاف )) (2/472) : [ فلا حجة فيه أيضاً ، لأنه مجرور على القسم ، لا بالعطف على الكاف في ( بِك ) ] ، وقد ذكر هذا البيت سيبويه في (( الكتاب )) (2/383) وجعله ضرورة شعرية ، إذ قال هناك : [ وقد يجوز في الشعر أن تُشرك بين الظاهر والمضمر على المرفوع والمجرور إذا اضطر الشاعر ] ، وأيضاً المبرد في (( الكامل )) قال عند ذكره هذا البيت : [ وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطر إليه الشاعر ] .
وقد ذكروا أشعاراً أخرى لا يسعنا المقام هنا لاستقصائها ، مع أنه يجاب على كل منها ، وليُراجع في ذلك (( الإنصاف )) (2/463-474) .
( 3 ) ما زعم ابن القيم أنها شبه المنع هي أدلة مخالفيه ، وكعادته لم يذكر منها شيئاً بل مرّ عليها صفحاً ، وقد لخّص هذه الأدلة ابن الناظم في (( شرح الألفيه )) (ص387) بقوله : [ ولا يبعد أن يُقال في هذه المسألة : إن العطف على الضمير المجرور ، بدون إعادة الجار غير جائز في القياس ، وما ورد منه في السماع محمول على شذوذ إضمار الجار ، كما أضمر في مواضع أخر ، نحو ( مَا كلّ بَيْضاءَ شَحْمة ، ولا سوداء تمرة ) ، وكقولهم : ( امرُرْ ببني فُلان إلا صَالح
فَطَالح ) ، وقولهم : ( بكمْ درهمٍ اشتريتَ ثوبكَ ) على ما يراه سيبويه رحمه الله من أن الجر فيه بعد ( كم ) بإضمار ( من ) لا بالإضافة . والدليل على أن العطف المذكور لا يجوز في القياس من وجهين :
أحدهما : أن الضمير المجرور شبيه بالتنوين لمعاقبته له ، وكونه على حرف واحد ، فلا يجوز العطف عليه ، كما لم يجز العطف على التنوين .
الثاني : أن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فإذا اجتمع على الضمير الاتصالان أشبه العطف عليه العطف على بعض الكلمة ، فلم يجز ، ووجب إما تكرير الجار ، وإما النصب بإضمار فعل .
فإن قيل : لو كان الشبه بالتنوين أو ببعض الكلمة مانعاً من العطف على الضمير المجرور لمنع من توكيده ، ومن الإبدال منه ، واللازم منتف بالإجماع .
قلنا : لا نُسلّم صدق الملازمة ، والفرق بين التوكيد والعطف ، أن التوكيد مقصود به بيان متبوعه ، فينزل منه منزلة الجزء ، وذلك يقتضي أمرين :
الأول : إن شبه الضمير المجرور بالتنوين حال توكيده أقل من شبهه به حال العطف عليه ، لطلبه حال التوكيد ما لا يطلبه التنوين ، وهو التكميل بما بعده ، فلا يلزم أن يؤثّر شبه التنوين في التوكيد ما أثّره في العطف لاحتمال ترتيب الحكم على أقوى الشيئين .
الثاني : أن شبه الضمير المجرور ببعض الكلمة ، وإن منع من العطف لا يمنع من التوكيد ، لأن بعض الكلمة لا يمتنع عليه تكميله ببقية أجزائه ، فكذا لا يمنع على ما أشبه بعض الكلمة تكميله بما بعده .
وأما البدل فالفرق بينه وبين العطف أن البدل في نِيَّة تكرار العامل ، فإتباعه الضمير المجرور في الحقيقة إتباع له وللجار جميعاً ، لأن البدل في قوة المصرح معه بالعامل ، وليس كذلك المعطوف ، فجاز أن تقول : مررت به المسكين جواز قولك : مررتُ بهِ وبزَيْد ]
قال الدكتور نذير العطاونة في كتابه: ( القواعد اللغوية المبتدَعة):
المسألة التاسعة عشرة :
إبطال زعم ابن القيم عطف (ومن اتبعك) على محل الكاف في (حسبك)
وتُعدّ هذه المسألة من نماذج تأويلات ابن القيم لكتاب الله ليتّفق مع هواه ولينتصر فيه لرأيه ورأي شيخه ابن تيمية في مسائل رَمْي الناس بالبدعة والشرك وعبادة غير الله ، فقد ادعى أنه لا يجوز عطف ( مَنْ ) على لفظ الجلالة (الله) في قول الله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } (الأنفال/64) ، وشبهته في ذلك أن الحسب يختص بالله كالعبادة والتوكل !!
وهذا تمام كلامه ننقله هنا ونعلق عليه لنقشع ظلمات المجازفة والتقوّل بمجرد الرأي ودون تتبع وبحث للمسألة أصولاً وفروعاً .
قال ابن القيم في (( زاد المعاد في هدي خير العباد )) (1/35) : [ وقال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين }(الأنفال/64) ، أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد ، وهنا تقديران :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لِـ ( مَنْ ) على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار(1) ، وشواهده كثيرة (2)، وشبه المنع منه واهية (3).
والثاني : أن تكون الواو ( واو مع ) ، وتكون ( مَنْ ) في محل نصب عطفاً على الموضع ، فإن حسبك في معنى كافيك ، أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب : حسبك وزيداً درهم ، قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاكَ سيف مُهنّد
وهذا أصح التقديرين ، وفيها تقدير ثالث : أن تكون ( مَنْ ) في موضع رفع
بالابتداء ، أي : ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله، وفيها تقدير رابع - وهو خطأ من جهة المعنى – وهو : أن تكون ( مَنْ ) في موضع رفع عطفاً على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك ، وهذا إن قاله بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة ، قال الله تعالى : { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين }(الأنفال/62) ، ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم
الوكيل }(آل عمران/173) ، ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ؟
وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه ، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟ هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ] .
قلت : أما احتجاج ابن القيم باللغة وتمسكه بأذيالها فقد زيّفناه في الحاشية تعليقاً على كل منفذ حاول الركون إليه ولم يتبق له إلا شبهة زعمه أن الحسب مختص بالله تعالى كالتوكل والعبادة ودعواه الاختلاف بين الحسب والتأييد ، وما هذا منه إلا قشة غريق تغري بصاحبها وتمنحه أملاً موهوماً ، فيكون الغرق مآله وقعر البحر مكانه .
والحسب غير مختص إسناده بالله تعالى ، وقد ورد مسنداً إلى غيره ، وذلك كثير في القرآن الكريم ، ومنه قوله جل وعلا : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِير }(المجادلة/8) ، وقال أيضاً : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ }(التوبة/68) ،
فهذا إسناد ( الحسب ) إلى جهنم واضح جلي لا يدع شكاً في بطلان ما ادعاه ابن القيم ، بل وزيادة على هذا فقد أتى الإسناد لغيره تعالى أيضاً في السنة المطهرة كما في حديث : [ مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ] ، وحديث : [ لا تَحَاسَدُوا وَلا تَنَاجَشُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ].
فتبين بهذا أن إسناد الحسب لغير الله تعالى صحيح شرعاً مستقيم المعنى ، ولا مانع منه .
وأما تشبيهه الحسب بالكفاية بقوله : [ فإن الحسب والكفاية لله وحده ] ، فتلبيس وبهرجة لا طائل وراءها ومما يبطلها فضلاً عما تقدم أن الكفاية أيضاً أسندت لغير الله تعالى ، كما في قول المولى : { اقْرَأْ كَتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }(الإسراء/14) ، فهذا إسناد الكفاية لنفس العبد الذي كلفه الله تعالى !!!
وأما ثناء الله ومدحه لمن توكل عليه واقتصر على كفايتة فلا يلزم منه اختصاص الحسب بالله ، وهل ذكر الشيء ينفي غيره ؟!
وهل عدم قولهم : ورسوله ، يعني اختصاص ( الحسب ) بالله ؟؟!
وأما فائدة العطف هنا كما قال ابن عاشور في (( التحرير والتنوير )) : [ وفي عطف المؤمنين على اسم الجلالة هنا تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم ، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة ، وهذا من عموم المشترك لا من إطلاَق المشترك على معنيين ، فهو كقوله : { إن الله وملائكة يصلون على النبي } ] .
ولا يتوهم القاريء من كلام ابن القيم هذا أن عطف الحسب قد يقود إلى الشرك على ما ألمح عندما زعم أن الحسب كالعبادة والتوكل ، وما هذا منه إلا تلبس ليرهب مخالفيه ، فقد جاء التشريك بواو العطف في كتاب الله كما في قوله تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين } (التوبة/62) .
ويكفينا هذا البيان لمن تأمل وتدبر ، ففيه غنية الطالب ليكون على بصيرة من أمره متيقناً بطلان تمويه ابن القيم في مسألة ( الحسب ) ، وأنه بذلك لا حجة له فيها ولا دليل ، ومن ذهب من أهل العلم إلى أن ( ومن اتبعك ) معطوف على لفظ الجلالة فقوله صحيح ولا غبار عليه ، والحمد لله رب العالمين .
الحواشي السفلية:
( 1 ) بل هذا قول ضعيف وليس بمُختار ، وقد ردّه الجمهور ، قال ابن عقيل في (( شرح الألفية )) (2/246) : [ وأما الضمير المجرور فلا يُعطف عليه إلا بإعادة الجار له ، نحو ( مررت بك وبزيد ) ، ولا يجوز ( مررت بك وزيد ) ، هذا مذهب الجمهور ] ، وقال العكبري في (( التبيان في إعراب القرآن )) (2/276) : [ وهو ضعيف ، لأنه عطف على المجرور من غير إعادة الجار ] .
( 2 ) لم يذكر ابن القيم من هذه الشواهد شيئاً ، وليته فعل لنناقشه ونباحثه فيها ، ولذلك سنضطر لنقل أهمها من كتب القوم لنبيّن وهاءها وضعف دلالتها ، فنقول :
الأول : قال ابن مالك في (( شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح )) (ص108) : [ ومن مؤيدات الجواز قوله تعالى : { قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام }(البقرة/217) فجرّ ( المسجد ) بالعطف على الهاء المجرورة بالباء لا بالعطف على ( سبيل ) ، لاستلزامه العطف على الموصول وهو ( الصدّ ) قبل تمام صلته ، لأن ( عن سبيل ) صلة له ، إذ هو متعلق به ، و ( كفر ) معطوف على ( الصد ) ... فيلزم ما ذكرته من العطف على الموصول قبل تمام الصلة ، وهو ممنوع بإجماع ] .
وجوابه : أن يُقال ، بل العطف على (سبيل ) أوجه ، قال الإمام الرازي في (( تفسيره )) : [ إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله : { والمسجد الحرام } وذكروا فيه وجهين ، أحدهما : أنه عطف على الهاء في به . والثاني : وهو قول الأكثرين : أنه عطف على { سَبِيلِ الله } ، قالوا : وهو متأكد بقوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام }(الحج/25) ، ... ، وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا : لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول ، والأصل أنه لا يجوز ، إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين ، الأول : أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى فكأنه لا فصل ، الثاني : أن موضع قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } عقيب قوله : { والمسجد الحرام } إلا أنه قدم عليه لفرط العناية ، كقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدًا }(الإخلاص/4) ، كان من حق الكلام أن يقال : ولم يكن له أحد كفواً ، إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا ] .
وقد عد بعضهم أن الفصل بغير الأجنبي واقع في اللغة ، كما ذكر ابن عصفور في (( شرح الجمل )) (1/295) : [ ويجوز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس بأجنبي ، فتقول : قام زيد اليوم وعمرو ، فتفصل بين زيد وعمرو بالظرف لأنه ليس بأجنبي من الكلام ] .
وقد ذكر الأنباري نكتة أخرى تُقوّي العطف على ( سبيل الله ) فقال في (( الإنصاف )) (2/471) : [ لأن إضافة الصد عنه أكثر في الاستعمال من إضافة الكفر به ، ألا ترى أنهم يقولون : صددته عن المسجد ، ولا يكادون يقولون : كفرت بالمسجد ] .
الثاني : قال ابن مالك أيضاً في (( شواهد التوضيح )) (ص108) : [ ومن مؤيدات الجوار قراءة حمزة : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ }(النساء/1) ، بالخفض ] .
والجواب : قد أنكر بعض أهل العلم هذه القراءة أصلاً ، كما ذكر الحريري في (( درة الغواص في أوهام الخواص )) : [ ولهذا لحنوا حمزة في قراءته : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } ، حتى قال أبو العباس المبرّد : لو أني صليت خلف إمام فقرأ بها لقطعت صلاتي ، ومن تأول فيها لحمزة جعل الواو الداخلة على لفظة الأرحام واو القسم لا واو العطف ] ، وقال المبرد في (( الكامل )) ( باب في التشبيه ) ، (3/38) : [ لأنهم لا يعطفون الظاهر على المضمر المخفوض ، ومن أجازه من غيرهم فعلى قبح ، كالضرورة . والقرآن إنما يحمل على أشرف المذاهب . وقرأ حمزة : { الذي تساءلون به والأرحام } ، وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطر إليه شاعر ] ، وفي (( شرح الرضي على الكافية )) (2/336) إنكار تواتر هذه القراءة بقوله : [ ولا نسلّم تواتر القراءات ] ، وفي (( اللباب في علل البناء والإعراب )) للعكبري ما نصه : [ وأحتج الآخرون بقوله تعالى : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } ، على قراءة الجر وبأبيات أنشدوها ، أما الآية فقراءة الجر فيها ضعيفة ... وأما الأبيات فمنها ما لا يثبت في الرواية ، وما يثبت منها فهو شاذ ، وبعضها يمكن إعادة الجار معه ] ، وقال الزمخشري (ص162) : [ وقراءة حمزة { والأرحامِ } ليست بتلك القوية ] ، وقال القاضي البيضاوي (ت 791 هـ) في تفسيره المسمى (( أنوار التنزيل وأسرار التأويل )) (1/199) : [ وقراءة حمزة عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض كلمة ] .
وأما من قال بثبوت هذا الوجه من القراءة ، فقد اعتذر بتخريج الخفض على غير العطف على المجرور ، فقد قال ابن جني في (( الخصائص )) (1/285) : [ ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس ، بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخف وألطف وذلك أن لحمزة أن يقول لأبي العباس : إنني لم أحمل { الأرحام } على العطف على المجرور المضمر ، بل اعتقدت أن تكون فيه باء ثانية حتى كأني قلت : وبالأرحام ، ثم حذفت الباء لتقدم ذكرها ، كما حذفت لتقدم ذكرها في نحو قولك : بمن تمرر أمرر ، وعلى من تنزل أنزل ، ولم تقل أمرر به ولا أنزل عليه ، لكن حذفت الحرفين لتقدم ذكرهما ] .
الثالث : ثم قال ابن مالك في (( شواهد التوضيح )) (ص109) : [ وأجاز الفراء أن يكون { ومن لستم له برازقين } معطوفاً على { لكم فيها معايش } ] .
والجواب : بما قاله الأنباري في (( الإنصاف )) (2/472) : [ وأما قوله تعالى : {وجعلنا فيها معايش ومَنْ لستم له برازقين }(الحجر/20) ، فلاحجة لكم فيه ، لأن ( من ) في موضع نصب بالعطف على ( معايش ) ، أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء ] .
الرابع : واحتجوا بقول الشاعر :
فاليومَ قرَّبتَ تهجونا وتَشتُمُنا فاذهب فما بكَ والأَيامِ من عَجَبِ
وجوابه : ما قال الأنباري في (( الإنصاف )) (2/472) : [ فلا حجة فيه أيضاً ، لأنه مجرور على القسم ، لا بالعطف على الكاف في ( بِك ) ] ، وقد ذكر هذا البيت سيبويه في (( الكتاب )) (2/383) وجعله ضرورة شعرية ، إذ قال هناك : [ وقد يجوز في الشعر أن تُشرك بين الظاهر والمضمر على المرفوع والمجرور إذا اضطر الشاعر ] ، وأيضاً المبرد في (( الكامل )) قال عند ذكره هذا البيت : [ وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطر إليه الشاعر ] .
وقد ذكروا أشعاراً أخرى لا يسعنا المقام هنا لاستقصائها ، مع أنه يجاب على كل منها ، وليُراجع في ذلك (( الإنصاف )) (2/463-474) .
( 3 ) ما زعم ابن القيم أنها شبه المنع هي أدلة مخالفيه ، وكعادته لم يذكر منها شيئاً بل مرّ عليها صفحاً ، وقد لخّص هذه الأدلة ابن الناظم في (( شرح الألفيه )) (ص387) بقوله : [ ولا يبعد أن يُقال في هذه المسألة : إن العطف على الضمير المجرور ، بدون إعادة الجار غير جائز في القياس ، وما ورد منه في السماع محمول على شذوذ إضمار الجار ، كما أضمر في مواضع أخر ، نحو ( مَا كلّ بَيْضاءَ شَحْمة ، ولا سوداء تمرة ) ، وكقولهم : ( امرُرْ ببني فُلان إلا صَالح
فَطَالح ) ، وقولهم : ( بكمْ درهمٍ اشتريتَ ثوبكَ ) على ما يراه سيبويه رحمه الله من أن الجر فيه بعد ( كم ) بإضمار ( من ) لا بالإضافة . والدليل على أن العطف المذكور لا يجوز في القياس من وجهين :
أحدهما : أن الضمير المجرور شبيه بالتنوين لمعاقبته له ، وكونه على حرف واحد ، فلا يجوز العطف عليه ، كما لم يجز العطف على التنوين .
الثاني : أن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فإذا اجتمع على الضمير الاتصالان أشبه العطف عليه العطف على بعض الكلمة ، فلم يجز ، ووجب إما تكرير الجار ، وإما النصب بإضمار فعل .
فإن قيل : لو كان الشبه بالتنوين أو ببعض الكلمة مانعاً من العطف على الضمير المجرور لمنع من توكيده ، ومن الإبدال منه ، واللازم منتف بالإجماع .
قلنا : لا نُسلّم صدق الملازمة ، والفرق بين التوكيد والعطف ، أن التوكيد مقصود به بيان متبوعه ، فينزل منه منزلة الجزء ، وذلك يقتضي أمرين :
الأول : إن شبه الضمير المجرور بالتنوين حال توكيده أقل من شبهه به حال العطف عليه ، لطلبه حال التوكيد ما لا يطلبه التنوين ، وهو التكميل بما بعده ، فلا يلزم أن يؤثّر شبه التنوين في التوكيد ما أثّره في العطف لاحتمال ترتيب الحكم على أقوى الشيئين .
الثاني : أن شبه الضمير المجرور ببعض الكلمة ، وإن منع من العطف لا يمنع من التوكيد ، لأن بعض الكلمة لا يمتنع عليه تكميله ببقية أجزائه ، فكذا لا يمنع على ما أشبه بعض الكلمة تكميله بما بعده .
وأما البدل فالفرق بينه وبين العطف أن البدل في نِيَّة تكرار العامل ، فإتباعه الضمير المجرور في الحقيقة إتباع له وللجار جميعاً ، لأن البدل في قوة المصرح معه بالعامل ، وليس كذلك المعطوف ، فجاز أن تقول : مررت به المسكين جواز قولك : مررتُ بهِ وبزَيْد ]