صفحة 1 من 1

مسألة: في تحليل آية الوضوء و بيان أن التعصب مردود :

مرسل: الخميس ديسمبر 05, 2024 11:07 am
بواسطة عود الخيزران
مسألة: في تحليل آية الوضوء و بيان أن التعصب مردود :

قال الدكتور نذير العطاونة في كتابه: ( القواعد اللغوية المبتدَعة):
المسألة العشرون :
آيـة الوضــوء

أخذت آية الوضوء حيزاً كبيراً في البحث العلمي وعلى أعلى مستوياته الفقهية ، وتشعب البحث فيها أصولياً ولغوياً ، بل تعدّى ذلك حتى أصبح القول فيها تهمة وأمارة على التشيع، وما يهمنا في هذا المقام هو التعرض للمسائل اللغوية التي رأينا على رغم تعددها أن نجعلها في مكان واحد لارتباطها جميعاً بآية واحدة ودورانها على نفس الفكرة ألا وهي النزاع على غسل الأرجل أم مسحها في الوضوء .
وآية الوضوء هي قول الله تعالى : { يَا أيّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ }(المائدة/6) .
وما أدّى إلى النزاع في مفهوم هذه الآية هي ورود قراءتين مشهورتين ، أحدهما بنصب اللام ( وأرجلَكم ) والأخرى بالخفض ( وأرجلِكم ) ، فالقائلون بالمسح احتجوا بقراءة الخفض وجعلوا ( أرجلِكم ) معطوفة على ( رؤوسِكم ) فلها نفس حكم المسح ، ومن ذهب إلى القول بغسل الرجلين حاول تخريج هذه القراءة بقضايا لغوية هي محل البحث والنقاش هنا ، وهي :
أولاً : العطف على الجوار
قال النووي في (( المجموع )) (1/418) : [ إن الجر على مجاورة الرؤوس مع أن الأرجل منصوبة ، وهذا مشهور في لغة العرب وفيه أشعار كثيرة مشهورة وفيه من منثور كلامهم كثير ، من ذلك قولهم :( هذا جُحْرُ ضبٍ خَرِبٍ ) ، بجر ( خربٍ ) على جوار ( ضب ) وهو مرفوع صفة لجحر ، ومنه في القرآن : { إني أخاف عليكم عذاب يوم اليم } ، فجر ( أليماً ) على جوار ( يوم ) وهو منصوب ] .
قلت : الإعراب على الجوار من الشاذ الذي لا يُقاس عليه ، ولا يُلجأ إليه ، حتى عدّه بعضهم غلطاً ، ومن أجازه جعله لضرورة الشعر وبشروط ، ونزّه عنه كتاب الله تعالى !! وإليك أئمة العلم ممن صرحوا بذلك :
قال ابن جني في (( الخصائص )) (1/191) : [ فمما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بدء هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ما رأيته أنا في قولهم : ( هذا جُحْرُ ضبٍ خَرِبٍ ) فهذا يتناوله آخر عن أول وتال عن ماض على أنه غلط من العرب لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه وانه من الشاذ الذي لا يحمل عليه ولا يجوز رد غيره إليه ] .
وقال أبو جعفر النحاس (ت 338 هـ) في كتابه (( إعراب القرآن )) (1/258) : [ لا يجوز أن يعرب شيء على الجوار في كتاب الله عز وجل وإنما الجوار غلط وإنما وقع في شيء شاذ وهو قولهم : ( هذا جحر ضب خرب ) والدليل أنه غلط قول العرب في التثنية : ( هذان جحرا ضب خربان ) ، ولا يحمل شيء من كتاب الله عز وجل على هذا ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها ] ، وقال أيضاً في نفس الكتاب (1/485) : [ وهذا القول غلط عظيم ، لأن الجوار لا يجوز في الكلام أن يُقاس عليه وإنما هو غلط ] .
وقال ابن خالويه في (( إعراب القراءات السبع وعللها )) (1/143) : [ فهو غلط ، لأن الخفض على الجوار لغة لا يستعمل في القرآن ، وإنما يكون لضرورة شاعر ، أو حرف يجري كالمثل ، كقولهم : ( هذا جحر ضب خرب ) ] .
وقال أبو إسحاق الزجاح في (( معاني القرآن وإعرابه )) (2/153) : [ فأما الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات الله ] .
ومع انتصار العكبري للعطف على الجوار في آية الوضوء في كتابه (( التبيان في إعراب القرآن )) (1/209) ، إلا أنه اعترف في موضع آخر أنه من الشاذ الذي لا يقاس عليه ، إذ قال في نفس الكتاب (1/92) : [ وقال أبو عبيدة : هو مجرور على الجوار ، وهو أبعد من قولهما لأن الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة ] .
وقال أبو إسحاق النحوي: [ الخفض على الجوار لا يجوز في كتاب الله عز وجل وإِنما يجوز ذلك في ضرورة الشعر ] .
وقال الأنباري في (( الإنصاف )) (2/615) : [ وقولهم : جُحْرُ ضبٍ خَرِبٍ ، محمول على الشذوذ الذي يُقتصر فيه على السماع لقلته ، ولا يُقاس عليه ، لأنه ليس كل ما حكي عنهم يقاس عليه ، ألا ترى أن اللحياني حكى أن من العرب من يجزم بـ ( لن ) وينصب بـ ( لم ) ، إلى غير ذلك من الشواذ التي لا يلتفت إليها ولا يقاس عليها ، فكذلك ها هنا ، والله أعلم ] .
وقال أبو حيان في (( البحر المحيط )) : [ وقريء { الأيمن } ، قال الزمخشري : بالجر على الجوار ، نحو : جحر ضب خرب ، انتهى . وهذا من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرّج القراءة عليه ] .
وقال الرازي ملخصاً مذهب من يقول بالمسح في (( التفسير )) : [ فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذا كسر على الجوار كما في قوله : ( جحر ضب خرب ) ، وقوله :
كبير أناس في بجاد مزمل
قلنا : هذا باطل من وجوه :
الأول : أن الكسر على الجوار معدود في اللَّحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه عنه .
وثانيهما : أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : جحر ضب خرب ، فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل .
وثالثها : أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً : إنها توجب المسح ، وذلك لأن قوله { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء ، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس ، والجر عطفاً على الظاهر ، وهذا مذهب مشهور للنحاة.
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } هو قوله { وامسحوا } ويجوز أن يكون هو قوله { فاغسلوا } لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } هو قوله : { وامسحوا } فثبت أن قراءة { وَأَرْجُلَكُمْ } بنصب اللام توجب المسح أيضاً ] .
ثانياً : العطف على الجُمَل
قال أبو حيان في (( البحر المحيط )) : [ واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل : هو معطوف على قوله : { وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } و { أرجلكم إلى الكعبين } ] .
قلت : وأهل اللغة لا يستسيغون الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما هو أجنبي ، ومن خرّج الآية بعطف الجمل وقع في أسر هذه المشكلة ، وهي وجود الفاصل ، أي قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } .
قال ابن عصفورفي (( شرح الجمل )) (1/259) : [ وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، نحوقوله تعالى : { فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } ففصل بين { أرجلكم } وبين المعطوف عليه وهو { وجوهكم } بالجملة ، وهي { وامسحوا برؤوسكم } لأنه ملتبس بالكلام ] .
وقال الطبري في (( تفسيره )) (6/131) : [ فالعطف به على ( الرؤوس ) مع قربه منه أولى من العطف به على ( الأيدي ) وقد حيل بينه وبينها بقوله : { وامسحوا برؤوسكم } ] .

ثالثاً : الاختلاف في معنى الكعب
لقد ذهب ابن تيمية باندفاعه المعهود وعصبيته المحمومة معترضاً على القائلين بمسح الأرجل ، بزعمه أن الكعب هو العظم الناتئ جانب الساق ، وغلّط بغير حجة أو برهان - كعادته – من فسّر الكعب على أنه مجمع الساق والقدم ، وهذا نص كلام المُدّعي بتمامه :
قال ابن تيمية في (( مجموع الفتاوى )) (21/130) : [ قال : { وأرجلكم إلى الكعبين } ، ولم يقل : إلى الكعاب، فلو قدّر أن العطف على المحل كالقول الآخر ، وأن التقدير أن في كل رجلين كعبين ، وفي كل رجل كعب واحد ، لقيل : إلى الكعاب ، كما قيل : إلى المرافق لما كان في كل يد مرفق ، وحينئذ فالكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي الساق ، ليس هو معقد الشراك مجمع الساق والقدم كما يقوله من يروي المسح على الرجلين ، فإذا كان الله تبارك وتعالى إنما أمر بطهارة الرجلين إلى الكعبين الناتئين والماسح يمسح إلى مجمع القدم والساق علم أنه مخالف للقرآن ] .
قلت : والجواب عليه من وجهين ، أولهما في إثبات صحة قول من يقول : أن الكعب هو عظم في ظهر القدم ، وثانيهما في صحة التعبير بـ ( الكعبين ) على قولهم إن في كل رجل كعب ، وفي الرجلين كعبان .
قال ابن منظور في (( لسان العرب )) (1/712) : [ وسأَل ابنُ جابر أَحمدَ بن يحيى عن الكَعْب ، فأَوْمَأَ ثعلب إِلى رِجْله إِلى المفْصل منها بسَبَّابَتِه فوضَعَ السَّبَّابةَ عليه ، ثم قال : هذا قولُ المُفَضَّل وابن الأَعرابي ، قال : ثم أَوْمَأَ إِلى الناتِئَين وقال : هذا قول أَبي عمرو ابن العَلاء والأَصمعي، وكلٌّ قد أَصابَ ...
وذهب قومٌ إِلـى أَنهما العظمانِ اللذانِ فـي ظَهْر القَدم ، وهو مَذْهَبُ الشِّيعة ، ومنه قولُ يحيى بن الـحرث :
رأَيت القَتْلـى يومَ زَيدِ بنِ علـيَ فرأَيتُ الكِعابَ فـي وَسْطِ القَدَمِ ] .
وأما التعبير بلفظ ( الكعبين ) في الآية على اعتبار أن في كل رجل كعب فلا غبار عليه ، لأن المعنى المراد رِجْلا كل واحد من المخاطبين ، والرجلان فيهما كعبان .
فإن قال قائل : كيف جاز القول : { وأرجلكم } والمراد به رجلان ؟
قلنا : هذا وجه سائغ في العربية ، وهو التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع ، قال سيبويه في (( الكتاب )) (2/48) : [ وسألت الخليل رحمه الله عن : ما أحسَنَ وُجوهَهُما ؟ فقال : لأن الاثنين جميع ] ، وقال المرزوقي في (( الأزمنة والأمكنة )) : [ ويجوز أن يجعل الجميع مستعاراً للتثنية لأن أرباب اللغة قد توسعوا في ذلك ] ، وقال ابن فارس في (( الصاحبي في فقه اللغة )) : [ومن سُنن العرب الإتيان بلفظ الجميع والمراد واحد واثنان ] .
وفي (( المزهر )) (2/171) للسيوطي ما نصه :
[ وإنه لغليظُ الوَجَناتِ وإنما له وَجْنتان ، ويقال : امرأةٌ ذاتُ أوراكٍ ، وإنَّها لبيِّنةُ الأَجياد ، وإنما لها جِيد واحد ، وامرأة حسنة المآكم . وقوله في وصف بعير :
رُكِّب في ضَخْم الذّفَارى قَنْدَل
وإنما له ذِفْرَيان.
وقوله في وصف ناقة :
تمدّ للمشي أوْصالاً وأصلاباً
وإتما لها صُلْب واحد ، وقال العجاج :
عَلَى كراسيعي ومِرْفَقيَّه
وإنما له كُرسوعان، وقال أيضاً :
من باكِر الأشْراط أشْرَاطِيُّ
وإنما هو شَرَطان] .
قال محمد أمين بن فضل الله المحبّي في مقدمة كتابه (( جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين )) (ص 8) ما نصه : [ ( ومنها ما ورد بلفظ الجمع والمعني به اثنان ) ، قالوا : (( هو عظيم المناكب )) وإنما له منكبان ، وقالوا : (( رجل ضخم الثنادي )) والثندوة مغرز الثدي ، قال : (( ضخم الثنادي ناشباً مغلابا )) يريد ضخم
الثندوتين ، ويقال : (( رجل ذو أَلَيات ، ورجل غليظ الحواجب ، شديد المرافق ، ضخم المناخر )) ] .
وقال أبو عبيدة في (( مجاز القرآن )) : [ { فَإنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } ، أي أخوان فصاعداً ، لأن العرب تجعل لفظ الجميع على معنى الإثنين ، قال الراعي :
أَخُلَيدَ إِنَّ أَباكِ ضافَ وِسادَهُ
طَرَقا فَتِلكَ هَماهِمي أَقريهِما
هَمّانِ باتا جَنبَةً وَدَخيلا
قُلُصاً لَواقِحُ كَالقِسِيِّ وَحولا

فجعل الاثنين في لفظ الجميع ، وجعل الجميع في لفظ الاثنين ] .
ومن الغريب العجيب أن ابن تيمية سعى في (( مجموع الفتاوى )) (6/370) لإثبات وضع اسم الجمع موضع التثنية إذ قال هناك : [ إن من لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس ، كقوله تعالى : { والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما } أي يديهما ، وقوله : { فقد صغت قلوبكما } ، أى قلباكما ] ، وهكذا يكون ابن تيمية متناقضاً يتنقل بين الأقوال والآراء بما يخدم مآربه ، لا يقيس بمقياس العلم الثابت ، فيثبت حينماً ثم ينسى ويغفل فينفي حيناً آخر ، وصدق من قال : إذا لم يكن الكذوب ذَكوراً فُضح !!!!
ولا بد أيضاً من التنويه وإعادة التأكيد على أن المسألة خلاف فقهي ، وما يحاوله ابن تيمية من تضخيمها بختام كلامه السابق وقوله عن رأي مخالفيه القائلين بالمسح أنه مخالف للقرآن ، ما هو إلا دعوى لا التفات إليها ولا اعتبار لها.

تكملة
في كشف تخبط ابن تيمية في معنى الباء في قوله تعالى : { برؤوسكم }

قال ابن تيمية في (( مجموع الفتاوى )) (21/129) : [ لو كان عطفاً على الرؤوس لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها ، والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو ، ... ، لأن الباء للإلصاق وهذا يقتضي إيصال الماء والصعيد إلى أعضاء الطهارة ، وإذا قيل امسح رأسك ورجلك لم يقتض إيصال الماء إلى العضو وهذا يبين أن الباء حرف جاء لمعنى ، لا زائدة كما يظنه بعض الناس ، وهذا خلاف قوله :
مُعاويَ أَنَّنا بَشَرٌ فأَسجِح فَلَسنا بالجِبالِ وَلا الحَديدا
فإن الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعنى ، والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعنى فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها بل على لفظ المجرور بها أو ما قبله ] .
قلت : أما زعمه : [ والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو ] ، فغير صحيح ، إذ أن الشرع جاء أيضاً بلفظ المسح ، كما في الحديث : (( ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر )) .
قال ابن حجر في (( فتح الباري )) (1/290) : [ لفظ الآية مجمل ، لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل عن أن الباء زائدة ، أو مسح البعض على أنها تبعيضيه ، فتبين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول ] ، وعلى هذا فدعوى ابن تيمية وجزمه أن الباء للإلصاق ، دعوى مرجوحة !!
وأما قوله : [ وهذا يبين أن الباء حرف جاء لمعنى ، لا زائدة كما يظنه بعض الناس ] ، فهذا قائم على التوهم أن الزيادة هي فضولٌ في القول مستغنى عنه ويخلو من الفائدة والمعنى !! والأمر ليس كذلك ، بل الصواب خلافه ، إذ الزيادة تفيد معنى التوكيد ، قال ابن هشام في (( مغني اللبيب )) (1/123) شارحاً ما تفيده الباء : [ الرابع عشر : التوكيد وهي الزائدة ] ، وقال ابن جني في (( سر صناعة الإعراب )) (1/270) : [ ولولا أن في الحرف إذا زيد ضرباً من التوكيد لما جازت زيادته البتة ] .
وأما الشاهد الذي جلبه :
مُعاويَ أَنَّنا بَشَرٌ فأَسجِح فَلَسنا بالجِبالِ وَلا الحَديدا
فهو في كتاب سيبويه ، وقد غَلّط أهل اللغة سيبويه في روايته التي هي محل الشاهد وانتقده على ذلك أهل الأدب ، قال ابن عبد ربه الأندلسي في (( العقد الفريد )) : [ ( باب ما غلط فيه على الشعراء ) وأكثر مَا أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن ، ولكنّ أصحاب اللغة لا يُنصفونهم ، وربمَا غَلّطوا عليهم ، وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها . فمن ذلك قولُ سيبويه ، واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه :
مُعاويَ أَنَّنا بَشَرٌ فأَسجِح فَلَسنا بالجِبالِ وَلا الحَديدا
كذا رواه سيبويه على النَّصب ، وزعم أنّ إعرابه على معنى الخبر الذي في ليس . وإنما قاله الشاعر على الخَفض ، والشعر كله مخفوض ، فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحِيلة الضعيفة ، وإنما الشعر :
معاويَ أَنَّنا بَشَرٌ فَأَسجِح
أَكَلتُم أَرضَنا فَجَردتُموها
أَتَطمَعُ في الخُلودِ إِذا هَلكنا
فَهَبنا أُمَةً ذهبت ضَياعاً
فَلَسنا بالجِبالِ وَلا الحَديدِ
فَهَل مِن قائِمٍ أَو مِن حَصيدِ
وَلَيسَ لَنا وَلا لَكَ مِن خُلودِ
يَزيدُ أَميرُها وَأَبو يَزيدِ
....... ] .

وفي (( الشعر والشعراء )) لابن قتيبة ما نصه : [ قال أبو محمد : وقد رأيت سيبويه يذكر بيتاً يحتج به في نسق الاسم المنصوب على المخفوض على المعنى لا على اللفظ ، وهو قول الشاعر :
مُعاويَ أَنَّنا بَشَرٌ فأَسجِح فَلَسنا بالجِبالِ وَلا الحَديدا
قال : كأنه أراد : لسنا الجبال ولا الحديدا ، فرد الحديد على المعنى قبل دخول الباء ، وقد غلط على الشاعر ، لأن هذا الشعر كله مخفوضٌ ] .
وقال المرزوقي في (( الأزمنة والأمكنة )) : [ وقيل : إن سيبويه دس هذا البيت لأن القصيدة مجرورة ] .
[ تنبيه ] : لم يرَ ابن هشام هذا البيت حجة لمن يقول بالعطف على المحل ، فقد ذكره في (( مغني اللبيب )) (2/550) وقال عقبه : [ وقد استنبط مَنْ ضعُف فهمُه من إنشاده هذا البيت هنا أنه يراه عطفاً على المحل ] ، فتأمل وتدبّر !!!
ومن قال بزيادة الباء في الآية الكريمة قُبل قوله لأن اللغة تحتمله ، بل والقرائن تؤيده ، وما زعمه ابن تيمية من امتناع الزيادة ، فكلام لا يرتقي إلى الحجة بل أجدر أن يُسمى مجازفة ومبالغة . وحذف الباء لا يخل بالمعنى إذا علم أن مسح العضو والمسح به تكون على معنى واحد إذا حملت الباء على الزيادة ، والله تعالى أعلم .