قال سماحة السيد المحدث حسن السقاف في كتابه " صحيح شرح الطحاوية":
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى

الشرح :
ذكرنا فيما تقدم أن أول صفة واجبة في حق المولى سبحانه وتعالى هي صفة الوجود ، وان الشرع أرشد إلى وجوب النظر في ملكوت السموات والأرض ليتعرف الإنسان من هذه المخلوقات على وجود الخالق سبحانه وتعالى ، ومن هذه المصنوعات على وجود الصانع جل وعز ، وقد تقدم الدليل العقلي على وجوده سبحانه وتعالى في خلق الإنسان من نطفة إلى أن صار بشراً سوياً .
ومما يجدر بيانه هنا عند الكلام على صفة الوجود للمولى سبحانه وتعالى أن وجوده ليس كوجود الخلق ، وذلك يتضمن أموراً وهي : أنه سبحانه ليس جسماً ولا صفة ، فليس له حد ومقدار ، أي غاية ونهاية كالموجودات التي نراها ، أي حدوداً وإبعاداً ينتهي إليها ، لأن هذا كله من صفات الأجسام ، ولا يعني هذا أنه جسم كبير جداً بحيث لا يوجد له أبعاد ولا حد ينتهي إليه ، كلا وبلا ، بل يجب أن نعتقد أنه سبحانه وتعالى لا يستطيع مخلوق أن يدركه أو يتصوره وكل ما خطر في بالنا وفي أذهاننا فالله تعالى بخلاف ذلك ، وهذا هو أن الإيمان وأساسه بعد الإيمان بوجوده تعالى ، وهذا كله تحقيق وامتثال لقول الله عز وجل :
ليس كمثله شيء ) وقوله تعالى : ( ولم يكن له كفواً أحد ) وقوله تعالى هل تعلم له سمياً ) أي مشابهاً ومماثلاً ، وتحقيقاً لقوله تعالى ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) .
فهذا ما يجب أن يعرفه المسلمون جميعاً ، ويجب أن ندرك هنا أن صفة الوجود الله تعالى اشتركت مع المخلوقات في اللفظ واختلفت في المعنى ، فوجود المخلوق هو أخذه للحيز في الفراغ إن كان جسماً وقيامه بالجسم إن كان عرضاً وصفة ، ووجود الله تعالى لا يجوز عليه الجسمية ولا الحد والمقدار ولا أخذ الحيز في الفراغ ولا الخضوع لقانون الزمان والمكان فعلينا أن نؤمن بذلك ولن تستطيع إدراكه .
ومن المعلوم المقرر عند أهل العلم أن الزمان والمكان مخلوقان الله تعالى لأنهما غير الله وكل ما سوى الله تعالى مخلوق حادث كان بعد أن لم يكن لقوله تعالى:( لله خالق كل شيء )
ونعني بقولنا أن الله تعالى منزه عن الزمان أن الله تعالى ليست له بداية في وجوده وليست له نهاية لأن الذي له بداية ونهاية هو الذي كان داخلاً في قانون الزمان والمكان ، والعقل البشري وغيره لا يستطيع أن يتصور شيئاً لا بداية له ، فما عليه إلا أن يصدق ويؤمن بصفات الله تعالى دون قياس ومعاكسة ومناقشة عقيمة . وهذا هو الإيمان بالغيب المذكور في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى ( الدين
يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم
وأولئك هم المفلحون ) البقرة ٠٠٠٣
وقد أشار الشرع إلى قصور عقول الخلق عن إدراك كنه المولى سبحانه في عدة نصوص منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا ، خلق الله الخلق ، فمن خلق الله ؛ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل : آمنت بالله » رواه مسلم (۱۱۹/۱ برقم (۲۱۲) .
قلت : هذا حديث مهم جداً فيه بيان أن العقل البشري بل عقول سائر
الخلق قد يخطر لها بعض القياسات من تشبيه الله تعالى بالخلق باحد وجوه التشبيه وان هذا الأمر يقع أحياناً في القلب ، فعلى من وقع له ذلك أن يسره الله تعالى ، ويجب أن يكره ويدفع قلبه هذا الوارد والخاطر كما جاء في حديث آخر ، ويسن أن يقول : آمنت بالله ورسوله ، فإنه ساعتئذ يشعر في قلبه بحلاوة الإيمان .
والحديث الآخر هو : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء ناس من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم احدنا أن يتكلم به : قال : « وقد وجدتموه ؟ ، قالوا : نعم ، قال : « ذلك صريح
الإيمان » رواه مسلم (۱۱۹/۱) برقم ۲۰۹) .
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم : " وقد وجدتموه ؟ » أي هل وجدتم استعظام ذلك في قلوبكم وكراهية قلوبكم لهذا الأمر ؟ بدليل قولهم في الحديث إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به » ، أي إن كراهية قلوبهم لهذا الوارد اللاإرادي هو صريح الإيمان ، لا أن خطوره في القلب هو صريح الإيمان .
فعلى هذا يثاب من دفع هذا الخاطر وكرهه وقال : آمنت بالله ورسوله. ويكفر من أثبته وعقد قلبه عليه ، والله الموفق .
قال الإمام النووي في شرح مسلم " (١٥٤/٢) :
أما معاني الأحاديث - المذكورة - وفقهها فقوله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك صريح الإيمان » ومحض الإيمان : معناه : استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً وانتفت عنه الربية والشكوك ] .
ولنعد إلى قضية تنزيه الله عن المكان فنقول :
أهل السنة والجماعة :
قال الشيخ عبد القاهر البغدادي في كتابه " الفرق بين الفرق )) ص (۳۳۳) ان
اجمعوا على أنه لا يحويه مكان ، ولا يجري عليه زمان » بل إن أهل الإسلام لا يلتفت لقولهم . من يجميع فرقهم اتفقوا على ذلك إلا من ينسب إلى الإسلام من المجسمة والمشبهة ممن
وأما المكان : فيجب تنزيه الله تعالى عن المكان فأما بعض النصوص الواردة في الكتاب والسنة والتي يتوهم منها بعض الناس (۱۸۳) إثبات المكان الله تعالى أو جري الزمن عليه ، فلا يراد منها ذلك ، وما يتصوره بعض الناس من أن الله تعالى في كل مكان مثلاً أو أنه في السماء دون الأرض أو أنه في العلو أو في السماء فهو باطل، لأن هذه جميعها أمكنة والله تعالى منزه عن المكان .
ومن لاحظ ودقق في القرآن والسنة الصحيحة جيداً فإنه سيجد لا محالة بان كل نص يتوهم منه بعض الناس أن الله تعالى في العلو أو في السماء مثلا يقابله ايضاً نص آخر يفيد ظاهره عند بعض الناس الآخرين عكس ذلك وهو أنه في الأرض مثلاً أو أنه سبحانه في كل مكان !! وكل ذلك غير مراد قطعاً لتنزه الله سبحانه عن الزمان والمكان .
فمثلاً استدلال من استدل بقوله تعالى إني متوفيك ورافعك إلي ) وبقوله تعالى وتعرج الملائكة والروح إليه ) على أن الله في الماء باطل بما يقابله من قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) مع أن سيدنا إبراهيم لم يترك قومه ولم يذهب إلى السماء التي يزعم المجسمة أن معبودهم فيها ، وإنما ذلك مجاز ، ومقابل ذلك أيضاً بمثل قوله تعالى في الظـل ثـم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً ) فقوله في الآية إلينا ) لا يعني أن الظل يذهب في الليل إلى الله تعالى بلا شك ولا ريب
وقوله تعالى أمنتم من في السماء ) يقابله قوله تعالى ( وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ) وقوله تعالى ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ) وقوله تعالى و ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) المجادلة : ٧ ، وقوله تعالى فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين - القصص : ٣٠ - ٣١
فبماذا يجيب المجسمة - الذين يزعمون بأن الله في السماء ويثبتون له المكان - عن نداء سيدنا موسى من شاطئ الوادي ؟!! ومن الشجرة ؟!! والمنادي سبحانه يقول : ( أنا الله رب العالمين ) أم أنهم سينفون ان الله تعالى كلــم سيدنا موسى كما تقول الجهمية على زعمهم !! وهو يقول لسيدنا موسى أقبل ولا تخف ؟!!
الا يدل ظاهر قوله ( أقبل ولا تخف ) بعد قوله إني أنا الله رب العالمين ) على أن الله سبحانه كان في الأرض في تلك الناحية وفي الشجرة كما جاء في الآية ؟!! وبماذا يمكن أن يعدل عن ظاهر هذه الألفاظ ؟!!
مع ان ظاهر ذلك كله غير مراد عندنا !! لأن الله تعالى يتنزه أن يكون في الأرض أو في السماء !! كما قدمناه لأن وجوده سبحانه وتعالى بلا مكان كما تقدم !!
وأما الحديث الذي يردده بعضهم والذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل الجارية فقال لها « اين الله » فقلت في السماء . رواه مسلم .
فالجواب عليه : أن هذه الألفاظ ليست الفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هي رواية الحديث بالمعنى وذلك لأن هذا الحديث نفسه قد رواه الإمام عبد الرزاق في المصنف وغيره بلفظ آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها :
أتشهدين أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ » وهو الأصح سنداً ومتناً ، كما بيته بتفصيل دقيق جداً في رسالة خاصة أسميتها « تنقيح الفهوم العالية بما ثبت وما لم يثبت في حديث الجارية » فليراجعه من شاء التبصر في هذا الموضوع .
والدليل على تنزيه الله تعالى عن المكان من السنة ما رواه الإمام مسلم في " صحيحه " (٤ / ٢٠٨٤ برقم (٦١) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه :
اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وانت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين واغننا
من الفقر » .
قال الإمام الحافظ البيهقي في «الأسماء والصفات » ص (٤٠٠) : « استدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى ، فإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان » انتهى . وسيأتي إن شاء الله تعالى في فصل خاص ذكر أدلة أخرى في هذا الموضوع والله الموفق