بيان بطلان حديث إمتحان الأربعة الذين يحتجون على الله يوم القيامة :
Posted: Wed Feb 05, 2025 10:28 am
بيان بطلان حديث إمتحان الأربعة الذين يحتجون على الله يوم القيامة :
عن الأسود بن سريع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أربعة يحتجون يوم القيامة: رجلٌ أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، فأمّا الأصمُّ فيقول: يا رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً؛ وأما الأحمق فيقول: ربِّ قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر؛ وأما الهرم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربّ ما أتاني لك رسول؛ فيأخذ مواثيقهم لَيُطيعُنَّه؛ فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً ).
قال سماحة السيد المحدث حسن السقاف في تعليقه على هذا الحديث :
هذا حديث صحيح الإسناد شاذ المتن مردود ؛ رواه أحمد (4/24) وابن حبان في ((صحيحه)) (16/356) والبزار (3/33 كشف الأستار) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (1/287) والبيهقي في الاعتقاد ص (111). وقد رواه البزار والبيهقي وغيرهما عن أبي هريرة بسند صحيح أيضاً؛ قال الحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/216): ((رجال أحمد في طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح، وكذلك رجال البزار فيهما)).
ورواه الإمام ابن جرير الطبري من طريقين في ((تفسيره)) (9/15/54) عن معمر عن همّام موقوفاً من حديث أبي هريرة( 1 ):
((إذا كان يوم القيامة؛ جمع الله نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خَرِفُوا ثمَّ أرسل رسولاً أن ادخلوا النار؛ فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول وأَيْمُ الله لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، ثم يرسل إليهم فيطيعه مَن كان يريد أن يطيعه قبل)).
قال أبوهريرة: اقرءوا إن شئتم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}الإسراء:15.
قلــــت: أورد هذه الأحاديث ابن كثير في ((تفسيره)) (3/31-34) من طرقها العديدة ثم قال عند الكلام على امتحان الأطفال يوم القيامة:
((ومنهم من ذهب إلى أنهم يُمْتَحَنُون يوم القيامة في العرصات فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة؛ ومَنْ عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة؛ وهذا القول يجمع بين الأدلّة كلّها وقد صرّحت به الأحاديث المتقدّمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة وهو الذي نصره الحافظ أبوبكر البيهقي في كتاب الاعتقاد وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنُّقَّاد.
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البَّر النمري بعدما تقدّم من أحاديث الامتحان ثم قال:
وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها لأنَّ الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء فكيف يكلّفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلّف نفساً إلا وسعها.
والجواب عمّا قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيحٌ كما قد نصَّ على ذلك كثير من أئمة العلماء ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوّى بالصحيح والحسن؛ وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها( 2 ).
وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عَرَصَاتها قبل دخول الجنة أو النار( 3 ) كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال( 4 )؛ وقد قال الله تعالى يوم يُكْشَفُ عن ساق ويدعون إلى السجود الآية ( 5 )؛ وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة وأنَّ المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحد طبقاً واحداً كلّما أراد السجود خرَّ لقفاه( 6 )؛ وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه ويتكرر ذلك مراراً؛ ويقول الله تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك؛ ثمَّ يأذن له في دخول الجنة( 7 ).
وأما قوله: فكيف يكلّفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم فليس هذا بمانع من صحة الحديث( 8 ) فإنَّ الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط؛ وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة( 9) ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبواً؛ ومنهم المكدوش على وجهه في النار؛ وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم( 10 )؛ وأيضاً فقد ثبتت السُّنَّة بأنَّ الدجال يكون معه جنة ونار وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً؛ فهذا نظير ذاك( 11 )؛ وأيضاً فإنَّ الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً( 12 )...)) هذا كلام ابن كثير.
وقد لخّص الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (3/246) كلام ابن كثير هذا عند الكلام على أولاد المشركين (الذين ماتوا قبل البلوغ هل هم في الجنة أم في النار؟)( 13 ) فقال ما نصه:
[واختلف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسألة على أقوال:... سابعها أنهم يُمْتَحَنُون في الآخرة بأن ترفع لهم نار؛ فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومَنْ أبى عُذِّب؛ أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد؛ وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل. وقد صحّت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب الاعتقاد أنه المذهب الصحيح؛ وَتعُقّبَ بأنَّ الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار( 14 )، وأمّا في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}القلم:42، وفي الصحيحين ((إن الناس يؤمرون بالسجود؛ فيصير ظهر المنافق طبقاً فلا يستطيع أن يسجد))( 15 )]. وعلى فرض صحة أحاديث الابتلاء والامتحان هذه يوم القيامة فقد قال الحافظ ابن حجر كما نقل عنه الحافظ السيوطي في رسالته ((مسالك الحنفا في والدي المصطفى)) المطبوعة في كتاب ((الحاوي)) (2/207):
((والظن بآبائه صلى الله عليه وآله وسلم كلّهم يطيعون عند الامتحان( 16 ) لِتَقرَّ بهم عينه صلى الله عليه وآله وسلم)).
وبعد أن فنّدنا في حواشي هذه الورقات رأي من قال بالامتحان يوم القيامة نقول: لقد نص جماعة من المحققين أيضاً على أن حديث الامتحان مخالف لقواعد الدين منهم الإمام الحليمي شيخ الإمام البيهقي فقد نقل عنه الإمام القرطبي في ((التذكرة)) (2/611) أنه قال:
((قال الحليمي: وهذ الحديث ليس بثابت وهو مخالف لأصول المسلمين؛ لأنَّ الآخرة ليست بدار امتحان فإنَّ المعرفة بالله تعالى فيه تكون ضرورة ولا محنة مع الضرورة؛ ولأنَّ الأطفال هناك لا يخلون من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء، فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة؛ وإن كانوا غير عقلاء فهم من المحنة أبعد)).
وأيد ذلك القرطبي في التذكرة وفي ((تفسيره)) (10/232) أيضاً.
ونقل القرطبي في ((التذكرة)) (2/612): أيضاً عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال عن أحاديث الامتحان: ((هذه الأحاديث من أحاديث الشيوخ وفيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ وهو أصل عظيم، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضَعْفٌ في العلم والنظر مع أنه قد عارضها ما هو أقوى منها..))( 17 ).
وقد ذكر أنها مردودة أيضاً شيخنا الإمام المحدّث سيدي عبد الله ابن الصدّيق في ((الفوائد المقصود في بيان الأحاديث الشاذة المردودة)) ص (97).
وقد تبين لي أمر آخر أيضاً في تعليل أحاديث الامتحان وهو أن أحاديث الامتحان نصّت على أنَّ هؤلاء المُمْتَحَنين الذين عصوا الله تعالى بعدم دخولهم النار يكونون بعد ذلك من أهلها فيدخلون فيها!! وهو ظاهر في تخليدهم فيها مع أهلها الخالدين فيها!! وهذا مخالف لما هو مقرر في الشريعة من أنه لا يخلد في النار أحد بمعصية وإنما يخلد بالكفر بالله تعالى كما هو مقرر عند أهل السنة؛ وهؤلاء لم يقع منهم كفر حينئذٍ؛ فإن قيل: وقع منهم الكفر في الدنيا!! قلنا: وأولئك الذين يدخلون النار عند أمرهم ولا تحرقهم وقع منهم الكفر في الدنيا أيضاً كما زعمتم فكيف يدخلون الجنة ساعتئذ بكفر في الدنيا مقرون بطاعة من الطاعات؟!
وبذلك تبطل أحاديث الامتحان من حيث معناها والله الموفق.
وبذلك يتلخَّص هذا البحث في أن أهل الفترة ناجون وأنهم في الجنة وأن منهم والديه صلى الله عليه وآله وسلم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ومن بديع ما قاله بعض أهل العلم في هذا المعنى نظماً؛ ما قاله العلامة عبدالله العلوي الشنقيطي في نظم النوازل ( 18 ):
من قال في دعاهُ رَبِّ يَحْرِقُ
أُمَّ النبي كافرٌ يُحَرَّقُ
ومَنْ يقلْ في النار والدُ النبي
فهو لعينٌ قاله ابن العربي
وسب نجله مَنِ استخفّا
بحقّه زندقة لا تَخْفى
والله الهادي.
الحواشي السفلية:
( 1 ) وهذا يثبت عندي أنه من الإسرائليات لثبوت رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ولأن النص يعارض القواعد.
( 2 ) قلت: الصواب هنا أن الأمر ليس كذلك!! فلا يستفيد الناظر منها حجة لوجود المعارض القطعي الثابت في القرآن!! وكان يمكن قبولها في أمر فرعي لو لم يعارضها شيء قطعي فافهم!!
( 3 ) بل ينافي التكليف بعد خروج الروح من الجسد قولنا إن في قولنا إن عرصات القيامة تكليف لبعض الناس دون بعض؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة الأخرى الموافقة للآيات الناصة على عدم عذاب مَنْ لم تصله دعوة الرسل تعارض تلك الأحاد التي تقول بالإمتحان في عرصات القيامة؛ ومنها ما رواه البخاري (12/439) وأحمد (5/9) وغيرهما في حديث الرؤية الطويل وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأما الوِلْدَان الذين حوله فكلُّ مولود مات على الفطرة)) قال: فقال بعض المسلمين: يارسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((وأولاد المشركين)).
( 4 ) ليس ما نقله أبو الحسن الأشعري مذهب أهل السنة والجماعة!! بمعنى أنهم لم يُجْمِعُوا على هذا الرأي حتى يصح أن يقال فيه هذا مذهب أهل السنة والجماعة!! بل الواقع أن هذه المسألة بالذات وقع الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً وقد نص الحافظ ابن حجر العسقلاني في ((الفتح)) (3/246) على ذلك حيث قال: ((واختلف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسألة على أقوال)) وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضاً نقل ذلك الخلاف عن الحافظ ابن عبدالبر!! فيكون من قال بوقوع السؤال والامتحان لهؤلاء في الآخرة غالطاً!! ويكون ابن كثير قد هوّل الأمر فصوّر أن القول الذي يريد نصرته هو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة نقلاً عن الأشعري تصويراً مخطئاً!! ونحن نقول بأنَّ ما ذهب إليه هو ومن يوافقه في هذه المسألة قد أخطأ!!
( 5 ) قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}القلم:42، لا يفيد أنهم مكلّفون أو أن هذا تكليف يقع على العباد أو على بعضهم يوم القيامة؛ لأنَّ هذا توبيخ وتقريع وكشف لهم يوم القيامة؛ وهو جزءٌ من جزائهم وعذابهم الذي سيلقونه في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا النار!!
ثمَّ إن لذلك قرائن ولا يقال إنها تكليف ولا امتحان بل يقال هي توبيخ وتقريع للمنافقين والكفار وذلك مثل قوله تعالى: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا}الإسراء:71، فكما أن لفظة (ندعو) هنا لا تدلُّ على تكليف المؤمنين وغيرهم بشيء فكذلك لفظة {يوم يدعون إلى السجود}القلم:42، لا تدلُّ على التكليف أيضاً!! كما أن مثل حديث ((مَنْ أرى عينيه ما لم تريا كُلّفَ أن يعقد بين شعرتين وما هو بعاقد)) لا يسمّى هذا تكليفاً وإنما هو خزي وتوبيخ وتقريع!!
وبذلك يتبين أن ما ذكره لا دليل فيه على ما يريده البتة!! كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}الدخان:49، تقريع وليس تكليفاً.
( 6 ) ولا دلالة في هذا أيضاً على مايريد الاستدلال عليه وما يقال فيما قبله يقال هنا في جوابه!!
( 7 ) لا دلالة في هذا الحديث على ما يريد البتة!! وهذا حديث آحاد لو كان فيه دلالة على ما يريد فإنه لا يقوى على معارضة أو نقض الثابت القطعي في كتاب الله تعالى!! هذا مع التنبيه إلى أن هذا الحديث هو جزء من حديث الصورة الشاذ الذي تكلمنا على جزء منه في ((دفع الشبه)) ص (157) في الكلام على الحديث الخامس هناك.
( 8 ) بل هو مانع منه لقوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}البقرة:286، ولقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}فصلت:46، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}البقرة:185، إلى غير ذلك من الآيات الكثير التي يفهم المقصود منها من معناها!!
( 9 ) قضية أن الله تعالى يأمرهم بأن يمشوا على جسر أدق من الشعرة وأحد من السيف قضية باطلة كما ستبين ذلك عند الكلام على الصراط في هذا الشرح!! ولم يثبت في القرآن ولا في حديث صحيح أن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف كما تجد ذلك عند استعراض روايات (أدق من الشعرة وأحد من السيف) حيث أوردها الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (11/454) ولذا قال الدردير في ((شرح الخريدة)) ص (54): ((وأنكر القرافي تبعاً لشيخه العز كونه ـ أي الصراط ـ أدق من الشعرة وأحد من السيف)). وكذا أنكر ذلك الزركشي.
ومن هذا يتبين أن استدلاله هنا غير صحيح زيادة على كون الدليل ضعيف جداً بل باطل!!
( 10 ) كيف يكون المرور من فوق النار أطم وأعظم من الدخول فيها؟! ثمَّ إن ما ذكره هنا هو من حشو الكلام الذي لا فائدة منه بعد معرفة أن دليل ما ذهب إليه من كون وجود صراط أدق من الشعرة وأحد من السيف غير صحيح!!
( 11 ) كيف يكون هذا نظير ذاك وهذا في الدنيا وذاك في الآخرة وأنت تقول في كتبك بأن أمور الآخرة لا يقاس عليها أمور الدنيا؟! ثم إن ثبت هذا الدليل الذي أوردته وجماعة من العلماء ينازعونك في ثبوته!!
( 12 ) لا فائدة من هذا الكلام وما بعده طالما أنه أمر تكليفي على قوم في الدنيا!! وقضية النزاع واقعة في الآخرة والمسألة بعينها هي قضية النزاع فكيف يستدلُّ بها عليها؟!!
( 13 ) نحن نقطع بأنهم في الجنة ولا شك عندنا في ذلك للأدلة القاطعة في هذه المسألة؛ والتي منها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}الإسراء:15، ولقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا}الإسراء:36، فبين الله تعالى أن أدوات الفهم هي السمع والبصر والعقل الذي عبّر عنه بالفؤاد، والصبي لا يعقل بمستوى يؤهله للتكليف، وقد بيّنا ذلك في الكلام على المكلّف فلا نعود إليه، وكذا من لم يأته نبي (وهم أهل الفترة) والأصم الأبكم والمجنون وغيرهم مما لا يقع التكليف عليهم في الدنيا كلّهم في مقام من لم تصلهم دعوة نبي وقد قطع القرآن بأنَّ مَنْ كانت هذه صفته فليس بمعذّب!!
ونحن نعرض هذه الأقوال لنجمع حجج القائلين بها حتى نفنِّدَ أدلتهم ونبين عدم صحتها للاستدلال في هذه القضية؛ والله الموفق.
( 14 ) وهذا تلخيص منه لكلام ابن كثير وقد تقدّم رد هذا وما بعده من الحجج.
( 15 ) هذا الحديث تفرَّد البخاري بروايته ولم يروه مسلم بهذه الصورة وبوجود لفظ (فيصير ظهر المنافق طبقاً) وهذا نصه في البخاري (4919): عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)). أقول: هذا حديث باطل موضوع! وتنزه الباري جلَّ وعلا أن يكون له ساق وأنه يكشف عنها وهذا الحديث الباطل يؤسس الصنمية والوثنية في الإسلام! وننزه الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون قاله!
( 16 ) هذه من الأمور المضحكات حقاً! ولم يقل ذلك إلا لأنه يرى صحة هذا الحديث الشاذ!
( 17 ) هو في كتاب التمهيد للحافظ ابن عبد البر (18/130).
( 18 ) انظركتاب ((مرجع المشكلات في الاعتقادات والعبادات والمعاملات والجنايات)) وهو شرح نظم النوازل للشيخ أبي القاسم بن محمد التواتي الليبي ص (169).
عن الأسود بن سريع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أربعة يحتجون يوم القيامة: رجلٌ أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، فأمّا الأصمُّ فيقول: يا رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً؛ وأما الأحمق فيقول: ربِّ قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر؛ وأما الهرم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربّ ما أتاني لك رسول؛ فيأخذ مواثيقهم لَيُطيعُنَّه؛ فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً ).
قال سماحة السيد المحدث حسن السقاف في تعليقه على هذا الحديث :
هذا حديث صحيح الإسناد شاذ المتن مردود ؛ رواه أحمد (4/24) وابن حبان في ((صحيحه)) (16/356) والبزار (3/33 كشف الأستار) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (1/287) والبيهقي في الاعتقاد ص (111). وقد رواه البزار والبيهقي وغيرهما عن أبي هريرة بسند صحيح أيضاً؛ قال الحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/216): ((رجال أحمد في طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح، وكذلك رجال البزار فيهما)).
ورواه الإمام ابن جرير الطبري من طريقين في ((تفسيره)) (9/15/54) عن معمر عن همّام موقوفاً من حديث أبي هريرة( 1 ):
((إذا كان يوم القيامة؛ جمع الله نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خَرِفُوا ثمَّ أرسل رسولاً أن ادخلوا النار؛ فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول وأَيْمُ الله لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، ثم يرسل إليهم فيطيعه مَن كان يريد أن يطيعه قبل)).
قال أبوهريرة: اقرءوا إن شئتم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}الإسراء:15.
قلــــت: أورد هذه الأحاديث ابن كثير في ((تفسيره)) (3/31-34) من طرقها العديدة ثم قال عند الكلام على امتحان الأطفال يوم القيامة:
((ومنهم من ذهب إلى أنهم يُمْتَحَنُون يوم القيامة في العرصات فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة؛ ومَنْ عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة؛ وهذا القول يجمع بين الأدلّة كلّها وقد صرّحت به الأحاديث المتقدّمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة وهو الذي نصره الحافظ أبوبكر البيهقي في كتاب الاعتقاد وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنُّقَّاد.
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البَّر النمري بعدما تقدّم من أحاديث الامتحان ثم قال:
وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها لأنَّ الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء فكيف يكلّفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلّف نفساً إلا وسعها.
والجواب عمّا قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيحٌ كما قد نصَّ على ذلك كثير من أئمة العلماء ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوّى بالصحيح والحسن؛ وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها( 2 ).
وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عَرَصَاتها قبل دخول الجنة أو النار( 3 ) كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال( 4 )؛ وقد قال الله تعالى يوم يُكْشَفُ عن ساق ويدعون إلى السجود الآية ( 5 )؛ وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة وأنَّ المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحد طبقاً واحداً كلّما أراد السجود خرَّ لقفاه( 6 )؛ وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه ويتكرر ذلك مراراً؛ ويقول الله تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك؛ ثمَّ يأذن له في دخول الجنة( 7 ).
وأما قوله: فكيف يكلّفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم فليس هذا بمانع من صحة الحديث( 8 ) فإنَّ الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط؛ وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة( 9) ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبواً؛ ومنهم المكدوش على وجهه في النار؛ وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم( 10 )؛ وأيضاً فقد ثبتت السُّنَّة بأنَّ الدجال يكون معه جنة ونار وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً؛ فهذا نظير ذاك( 11 )؛ وأيضاً فإنَّ الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً( 12 )...)) هذا كلام ابن كثير.
وقد لخّص الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (3/246) كلام ابن كثير هذا عند الكلام على أولاد المشركين (الذين ماتوا قبل البلوغ هل هم في الجنة أم في النار؟)( 13 ) فقال ما نصه:
[واختلف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسألة على أقوال:... سابعها أنهم يُمْتَحَنُون في الآخرة بأن ترفع لهم نار؛ فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومَنْ أبى عُذِّب؛ أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد؛ وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل. وقد صحّت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب الاعتقاد أنه المذهب الصحيح؛ وَتعُقّبَ بأنَّ الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار( 14 )، وأمّا في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}القلم:42، وفي الصحيحين ((إن الناس يؤمرون بالسجود؛ فيصير ظهر المنافق طبقاً فلا يستطيع أن يسجد))( 15 )]. وعلى فرض صحة أحاديث الابتلاء والامتحان هذه يوم القيامة فقد قال الحافظ ابن حجر كما نقل عنه الحافظ السيوطي في رسالته ((مسالك الحنفا في والدي المصطفى)) المطبوعة في كتاب ((الحاوي)) (2/207):
((والظن بآبائه صلى الله عليه وآله وسلم كلّهم يطيعون عند الامتحان( 16 ) لِتَقرَّ بهم عينه صلى الله عليه وآله وسلم)).
وبعد أن فنّدنا في حواشي هذه الورقات رأي من قال بالامتحان يوم القيامة نقول: لقد نص جماعة من المحققين أيضاً على أن حديث الامتحان مخالف لقواعد الدين منهم الإمام الحليمي شيخ الإمام البيهقي فقد نقل عنه الإمام القرطبي في ((التذكرة)) (2/611) أنه قال:
((قال الحليمي: وهذ الحديث ليس بثابت وهو مخالف لأصول المسلمين؛ لأنَّ الآخرة ليست بدار امتحان فإنَّ المعرفة بالله تعالى فيه تكون ضرورة ولا محنة مع الضرورة؛ ولأنَّ الأطفال هناك لا يخلون من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء، فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة؛ وإن كانوا غير عقلاء فهم من المحنة أبعد)).
وأيد ذلك القرطبي في التذكرة وفي ((تفسيره)) (10/232) أيضاً.
ونقل القرطبي في ((التذكرة)) (2/612): أيضاً عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال عن أحاديث الامتحان: ((هذه الأحاديث من أحاديث الشيوخ وفيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ وهو أصل عظيم، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضَعْفٌ في العلم والنظر مع أنه قد عارضها ما هو أقوى منها..))( 17 ).
وقد ذكر أنها مردودة أيضاً شيخنا الإمام المحدّث سيدي عبد الله ابن الصدّيق في ((الفوائد المقصود في بيان الأحاديث الشاذة المردودة)) ص (97).
وقد تبين لي أمر آخر أيضاً في تعليل أحاديث الامتحان وهو أن أحاديث الامتحان نصّت على أنَّ هؤلاء المُمْتَحَنين الذين عصوا الله تعالى بعدم دخولهم النار يكونون بعد ذلك من أهلها فيدخلون فيها!! وهو ظاهر في تخليدهم فيها مع أهلها الخالدين فيها!! وهذا مخالف لما هو مقرر في الشريعة من أنه لا يخلد في النار أحد بمعصية وإنما يخلد بالكفر بالله تعالى كما هو مقرر عند أهل السنة؛ وهؤلاء لم يقع منهم كفر حينئذٍ؛ فإن قيل: وقع منهم الكفر في الدنيا!! قلنا: وأولئك الذين يدخلون النار عند أمرهم ولا تحرقهم وقع منهم الكفر في الدنيا أيضاً كما زعمتم فكيف يدخلون الجنة ساعتئذ بكفر في الدنيا مقرون بطاعة من الطاعات؟!
وبذلك تبطل أحاديث الامتحان من حيث معناها والله الموفق.
وبذلك يتلخَّص هذا البحث في أن أهل الفترة ناجون وأنهم في الجنة وأن منهم والديه صلى الله عليه وآله وسلم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ومن بديع ما قاله بعض أهل العلم في هذا المعنى نظماً؛ ما قاله العلامة عبدالله العلوي الشنقيطي في نظم النوازل ( 18 ):
من قال في دعاهُ رَبِّ يَحْرِقُ
أُمَّ النبي كافرٌ يُحَرَّقُ
ومَنْ يقلْ في النار والدُ النبي
فهو لعينٌ قاله ابن العربي
وسب نجله مَنِ استخفّا
بحقّه زندقة لا تَخْفى
والله الهادي.
الحواشي السفلية:
( 1 ) وهذا يثبت عندي أنه من الإسرائليات لثبوت رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ولأن النص يعارض القواعد.
( 2 ) قلت: الصواب هنا أن الأمر ليس كذلك!! فلا يستفيد الناظر منها حجة لوجود المعارض القطعي الثابت في القرآن!! وكان يمكن قبولها في أمر فرعي لو لم يعارضها شيء قطعي فافهم!!
( 3 ) بل ينافي التكليف بعد خروج الروح من الجسد قولنا إن في قولنا إن عرصات القيامة تكليف لبعض الناس دون بعض؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة الأخرى الموافقة للآيات الناصة على عدم عذاب مَنْ لم تصله دعوة الرسل تعارض تلك الأحاد التي تقول بالإمتحان في عرصات القيامة؛ ومنها ما رواه البخاري (12/439) وأحمد (5/9) وغيرهما في حديث الرؤية الطويل وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأما الوِلْدَان الذين حوله فكلُّ مولود مات على الفطرة)) قال: فقال بعض المسلمين: يارسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((وأولاد المشركين)).
( 4 ) ليس ما نقله أبو الحسن الأشعري مذهب أهل السنة والجماعة!! بمعنى أنهم لم يُجْمِعُوا على هذا الرأي حتى يصح أن يقال فيه هذا مذهب أهل السنة والجماعة!! بل الواقع أن هذه المسألة بالذات وقع الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً وقد نص الحافظ ابن حجر العسقلاني في ((الفتح)) (3/246) على ذلك حيث قال: ((واختلف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسألة على أقوال)) وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضاً نقل ذلك الخلاف عن الحافظ ابن عبدالبر!! فيكون من قال بوقوع السؤال والامتحان لهؤلاء في الآخرة غالطاً!! ويكون ابن كثير قد هوّل الأمر فصوّر أن القول الذي يريد نصرته هو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة نقلاً عن الأشعري تصويراً مخطئاً!! ونحن نقول بأنَّ ما ذهب إليه هو ومن يوافقه في هذه المسألة قد أخطأ!!
( 5 ) قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}القلم:42، لا يفيد أنهم مكلّفون أو أن هذا تكليف يقع على العباد أو على بعضهم يوم القيامة؛ لأنَّ هذا توبيخ وتقريع وكشف لهم يوم القيامة؛ وهو جزءٌ من جزائهم وعذابهم الذي سيلقونه في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا النار!!
ثمَّ إن لذلك قرائن ولا يقال إنها تكليف ولا امتحان بل يقال هي توبيخ وتقريع للمنافقين والكفار وذلك مثل قوله تعالى: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا}الإسراء:71، فكما أن لفظة (ندعو) هنا لا تدلُّ على تكليف المؤمنين وغيرهم بشيء فكذلك لفظة {يوم يدعون إلى السجود}القلم:42، لا تدلُّ على التكليف أيضاً!! كما أن مثل حديث ((مَنْ أرى عينيه ما لم تريا كُلّفَ أن يعقد بين شعرتين وما هو بعاقد)) لا يسمّى هذا تكليفاً وإنما هو خزي وتوبيخ وتقريع!!
وبذلك يتبين أن ما ذكره لا دليل فيه على ما يريده البتة!! كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}الدخان:49، تقريع وليس تكليفاً.
( 6 ) ولا دلالة في هذا أيضاً على مايريد الاستدلال عليه وما يقال فيما قبله يقال هنا في جوابه!!
( 7 ) لا دلالة في هذا الحديث على ما يريد البتة!! وهذا حديث آحاد لو كان فيه دلالة على ما يريد فإنه لا يقوى على معارضة أو نقض الثابت القطعي في كتاب الله تعالى!! هذا مع التنبيه إلى أن هذا الحديث هو جزء من حديث الصورة الشاذ الذي تكلمنا على جزء منه في ((دفع الشبه)) ص (157) في الكلام على الحديث الخامس هناك.
( 8 ) بل هو مانع منه لقوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}البقرة:286، ولقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}فصلت:46، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}البقرة:185، إلى غير ذلك من الآيات الكثير التي يفهم المقصود منها من معناها!!
( 9 ) قضية أن الله تعالى يأمرهم بأن يمشوا على جسر أدق من الشعرة وأحد من السيف قضية باطلة كما ستبين ذلك عند الكلام على الصراط في هذا الشرح!! ولم يثبت في القرآن ولا في حديث صحيح أن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف كما تجد ذلك عند استعراض روايات (أدق من الشعرة وأحد من السيف) حيث أوردها الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (11/454) ولذا قال الدردير في ((شرح الخريدة)) ص (54): ((وأنكر القرافي تبعاً لشيخه العز كونه ـ أي الصراط ـ أدق من الشعرة وأحد من السيف)). وكذا أنكر ذلك الزركشي.
ومن هذا يتبين أن استدلاله هنا غير صحيح زيادة على كون الدليل ضعيف جداً بل باطل!!
( 10 ) كيف يكون المرور من فوق النار أطم وأعظم من الدخول فيها؟! ثمَّ إن ما ذكره هنا هو من حشو الكلام الذي لا فائدة منه بعد معرفة أن دليل ما ذهب إليه من كون وجود صراط أدق من الشعرة وأحد من السيف غير صحيح!!
( 11 ) كيف يكون هذا نظير ذاك وهذا في الدنيا وذاك في الآخرة وأنت تقول في كتبك بأن أمور الآخرة لا يقاس عليها أمور الدنيا؟! ثم إن ثبت هذا الدليل الذي أوردته وجماعة من العلماء ينازعونك في ثبوته!!
( 12 ) لا فائدة من هذا الكلام وما بعده طالما أنه أمر تكليفي على قوم في الدنيا!! وقضية النزاع واقعة في الآخرة والمسألة بعينها هي قضية النزاع فكيف يستدلُّ بها عليها؟!!
( 13 ) نحن نقطع بأنهم في الجنة ولا شك عندنا في ذلك للأدلة القاطعة في هذه المسألة؛ والتي منها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}الإسراء:15، ولقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا}الإسراء:36، فبين الله تعالى أن أدوات الفهم هي السمع والبصر والعقل الذي عبّر عنه بالفؤاد، والصبي لا يعقل بمستوى يؤهله للتكليف، وقد بيّنا ذلك في الكلام على المكلّف فلا نعود إليه، وكذا من لم يأته نبي (وهم أهل الفترة) والأصم الأبكم والمجنون وغيرهم مما لا يقع التكليف عليهم في الدنيا كلّهم في مقام من لم تصلهم دعوة نبي وقد قطع القرآن بأنَّ مَنْ كانت هذه صفته فليس بمعذّب!!
ونحن نعرض هذه الأقوال لنجمع حجج القائلين بها حتى نفنِّدَ أدلتهم ونبين عدم صحتها للاستدلال في هذه القضية؛ والله الموفق.
( 14 ) وهذا تلخيص منه لكلام ابن كثير وقد تقدّم رد هذا وما بعده من الحجج.
( 15 ) هذا الحديث تفرَّد البخاري بروايته ولم يروه مسلم بهذه الصورة وبوجود لفظ (فيصير ظهر المنافق طبقاً) وهذا نصه في البخاري (4919): عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)). أقول: هذا حديث باطل موضوع! وتنزه الباري جلَّ وعلا أن يكون له ساق وأنه يكشف عنها وهذا الحديث الباطل يؤسس الصنمية والوثنية في الإسلام! وننزه الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون قاله!
( 16 ) هذه من الأمور المضحكات حقاً! ولم يقل ذلك إلا لأنه يرى صحة هذا الحديث الشاذ!
( 17 ) هو في كتاب التمهيد للحافظ ابن عبد البر (18/130).
( 18 ) انظركتاب ((مرجع المشكلات في الاعتقادات والعبادات والمعاملات والجنايات)) وهو شرح نظم النوازل للشيخ أبي القاسم بن محمد التواتي الليبي ص (169).