بيان معنى الشفاعة وإبطال ما يتوهم حولها:

مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
Post Reply
عود الخيزران
Posts: 902
Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm

بيان معنى الشفاعة وإبطال ما يتوهم حولها:

Post by عود الخيزران »

بيان معنى الشفاعة وإبطال ما يتوهم حولها:

قال السيد حسن السقاف في كتابه" صحيح شرح العقيدة الطحاوية ":

لقد ثبتت الشفاعة منطوقاً ومفهوماً في القرآن الكريم وخاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}الضحى:5، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}الإسراء: 79، وتفسير المقام المحمود بالشفاعة ثابت في الصحيحين وغيرهما.
وقال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا}طه: 109.
وقال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}يونس: 3.
وفي شفاعة الملائكة قوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}الأنبياء: 26-28.
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/426):
((وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة، ودل عليها قوله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}الإسراء:79.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
((لكل نبي دعوة مستجابة، فَتَعَجَّلَ كل نبي دعوته. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) رواه الإمام مالك في الموطأ (1/213) والبخاري (11/96) ومسلم (1/189).
والشفاعة تكون للمسلمين فقط، فلا يُشْفَع في كافر لقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}المدثر: 48، كما لا يُشفَع في صاحب كبيرة لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}النساء: 31.
فيشفع الأنبياء والملائكة وكذلك العلماء العاملون والشهداء، فعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
((شَفَعَت الملائكة، وشفعت النبيون، وشفع المؤمنون)) رواه البخاري (13/421) ومسلم (1/170)، وعن سيدنا أنس بن مالك مرفوعاً ((إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة)) رواه البَزَّار (4/173) قال الحافظ الهيثمي في ((المجمع)) (10/382): ((رواه البزار ورجاله رجال الصحيح)).
وأما أحاديث الشفاعة الطويلة في الصحيحين فلم أذكرها هنا لأن فيها ألفاظاً وأموراً منكرة وقد تَسَرَّبَتْ إليها أفكار إسرائيلية سأبينها في كتاب آخر مفصلة إن شاء الله تعالى.
[تنبيه مهم جداً]: يتخيل بعض الناس أن رب العالمين على صورة إنسان جالس على العرش يوم القيامة، وأنه يحاسب العباد واحداً واحداً بمعنى أنهم يمرُّون من أمامه واحداً واحداً فيرونه وهو جالس على كرسيه، أو نحو هذا التصور الفاسد، وهذا ضلال مبين وكفر وإلحاد برب العالمين الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}الشورى:11، فيجب على كل مسلم أن يزيل هذا التصور الفاسد من قلبه وعقله ومخيلته، لأن الله سبحانه لا يدخل في التصور والخيال إطلاقاً بوجه من الوجوه ولأنه أخبر بأنه {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}الإخلاص:4، بل إن الناس لا يرون الله تعالى في أرض المحشر لأن النظر إلى الله تعالى من أكبر النعم والعطايا، ولا يعطى هذه النعمة إلا أهل الجنة في الجنة على قول مَنْ يثبت الرؤية لله تعالى في الآخرة، وفيها خلاف بين الأمة يأتي في محله إن شاء الله تعالى، والمعتقد الحق عندنا عدم الرؤية في الدنيا والآخرة.
فمحاسبة الله تعالى لعباده معناها إيجادهم في ذلك اليوم للحساب حيث تعطي الملائكة الصحف للناس وتذود بعض الناس عن الحوض، وتسوق المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار،
وأما الكفار والمجرمون الطغاة فلا يُكَلِّمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم أي لا يرحمهم، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}البقرة: 174-175، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}آل عمران: 77.
وقد ذكرنا أن معنى يكلِّمهم أي يرحمهم لا أنه يشافههم وينطق إليهم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وقد تقدم النقل عن القرطبي أنه قال في تفسيره (2/235) عند قوله تعالى: {وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ...}البقرة:174، ما نصه: ـ هذا ـ [عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه، وقال الطبري: المعنى: ولا يكلمهم بما يحبونه، وفي التنزيل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِي}المؤمنون:108، وقيل: المعنى ولا يرسل اليهم الملائكة بالتحية].
ثم ألا ترى إلى سيدنا موسى عليه السلام كليم الله تعالى لم يكن بجنب الله ولم يكن الله جسماً حالاً في ذلك المكان الذي كان يواعد فيه سيدنا موسى وهو جانب الطور الغربي؛ فاعتبر بذلك ولا تنسه، والله الموفق.
[فائدة أخرى مهمة جداً]: تفسير قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}الزمر:69-70.
المقصود تفسيره هنا هو قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}الزمر:69، والصواب في تفسيره هو أن الله تعالى يخلق نوراً يوم القيامة غير نور الشمس لأنها تكون يومئذ قد ذهبت وأضافه إلى نفسه ليؤكِّد لنا بأنه هو المتصرف في الدنيا والآخرة، وهذه الإضافة تشريف كما قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي}البقرة:125، فأضاف البيت له، وقال: {نَاقَةَ اللَّهِ}الشمس:13، وهكذا، وقد شرح هذه الآية الإمام الفخر الرازي والإمام القرطبي بما ينشرح له قلب المؤمن الموحد وإليك ما قالا فيه فإن فيه كفاية:
قال الإمام الفخر الرازي في ((تفسيره)) (14/20):
[ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال {وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}الزمر:69، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي نقعد عليها الآن بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ}إبراهيم:48، وبدليل قوله تعالى: {وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}الحاقة:14، بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة.
(المسألة الثانية): قالت المجسمة: إن الله تعالى نور محض، فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله، وأكِّدوا هذا بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}النور:35( ).
واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه (الأول) أنا بينَّا في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}النور:35، أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نوراً بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة، وبينَّا أنه لما تعذَّر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور ههنا على العدل، فنحتاج ههنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى، ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور ههنا ليس إلا هذا المعنى، أما بيان الاستعمال فهو أن الناس يقولون للمَلِكِ العادل: أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون أظلمت البلاد بجورك، وقال صلى الله عليه وآله وسلم ((الظلم ظلمات يوم القيامة))( ) وأما بيان أن المراد من النور ههنا العدل فقط أنه قال: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ}الزمر:69، ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل، وأيضاً قال في آخر الآية {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}الزمر:69، فدل هذا على أن المراد من ذلك النور إزالة ذلك الظلم، فكأنه تعالى فتح هذه الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم (والوجه الثاني): في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى {وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}الزمر:69، يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى، ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب، فلما كان ذلك النور من خلق الله وشَرَّفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور الله، كقوله: بيت الله، وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول، لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى المجاز] انتهى.
قلت: معنى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}النور:35، أي مُنَوِّرهما أو هادي أهلهما لنور الإيمان، وهذا تفسير ابن عباس لهما وهو الصحيح وغيره باطل.
وقال الإمام الحافظ القرطبي في ((تفسيره)) (15/282):
[قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}الزمر:69، إشراقها إضاءتها، يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وشرقت إذا طلعت، ومعنى (بنور ربها) بعدل ربها، قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها، والمعنى واحد أي أنارت وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات والعدل نور. وقيل: إن الله يخلق نوراً يوم القيامة يُلْبِسُهُ وَجْهَ الأرض فتشرق الأرض به. وقال ابن عباس: النور المذكور ههنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضيء به الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين يأتي لفصل القضاء. والمعنى أنها أشرقت بنور خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه على حد إضافة المِلْك إلى المالك. وقيل: إنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه؛ لأنه نهار لا ليل معه. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: ((وأُشْرِقَتْ الأرض)) على ما لم يسم فاعله وهي قراءة على التفسير وقد ضل قوم ها هنا فتوهموا أن الله عز وجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن مشابهة المحسوسات، بل هو منوِّر السموات والأرض، فمنه كل نور خلقاً وإنشاء)) انتهى.
قلت: فيتضح الآن أن الحديث الذي فيه أن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة وإن كان في الصحيح فهو شاذ مردود، لأن الله تعالى أخبر بأن الشمس تكوَّر في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}التكوير:1، أي انطفأت وذهب نورها وانتهى عملها من حين قيام الساعة ثم لا تعود لأنه لم يخبر سبحانه بعودتها لتشرق الأرض بها؛ بل أخبر بأن الأرض تشرق بنور يخلقه الله يومئذ، ولو كانت الشمس ستعود لأخبر سبحانه بذلك لا سيما والشمس قد ذُكِرَت في مواضع كثيرة في القرآن الكريم. فحديث دنو الشمس من رؤوس العباد معارض للقرآن لا يؤخذ به، ثم إن دنوها من رؤوس العباد مستحيل وهو نوع من العذاب وقد أخبر الله تعالى أن المؤمنين مبعدون عن النار والعذاب {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ}الأنبياء:103، فالصحيح أنه لا وجود للشمس يوم القيامة والظاهر أن الفكرة إسرائيلية، والله الموفق وهو أعلم.
فلوا قال قائل: بل الشمس تكون موجودة يوم القيامة، وقد وردت أحاديث تنص على أن هناك سبعة أقسام من الناس - المؤمنين - في ظل عرش الرحمن وهذا يثبت وجود الشمس.
قلنا: بل هذا قول باطل من وجوه عديدة منها: أن في هذا إثبات أن الشمس أكبر من العرش وهذا مستحيل وتكون يومئذ فوقه، فيكون هو أصغر من الأرض التي يُحْشَرُ الناس عليها حتى أن ظِلَّهُ يكون قد سَتَرَ جزءاً من الأرض دون جُزْءٍ آخر أكبر!!
وهذا كله يخالف كون العرش مخلوقاً عظيماً أكبر من السموات والأرض ـ عند من يقول بأن العرش جسم خلافاً لمن يقول بأنه كناية عن المُلك ـ وقد وَصَفَهُ الله تعالى بقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}التوبة:129.
فيكون معنى ((سبعة يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه)) وفي رواية ((يظلهم الله في ظله)) دون ذكر العرش، أي: يكونون في كنف الرَّحمن سبحانه وفي حمايته فلا يصيبهم خوف ولا فزع ولا نحو ذلك؛ وهذا مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((جُعِلَ رزقي تحت ظل رُمْحِي)) ومثل قوله ((كل امرئ في ظل صدقته..)) ومثل قوله ((السلطان ظل الله في الأرض))، إلى غير ذلك؛ والله الموفق.
Post Reply

Return to “مسائل وقضايا التوحيد والإيمان”