إغواء الرعاع ببطلان الإجماع في النقض على من يسوّق لأجماعات زائفة تدعي أن الله في السماء ( الحلقة الخامسة):
Posted: Sat May 17, 2025 5:06 pm
إغواء الرعاع ببطلان الإجماع في النقض على من يسوّق لأجماعات زائفة تدعي أن الله في السماء ( الحلقة الخامسة):
؛ تحريرات سماحة العلّامة المحدث السيد حسن بن علي السقاف :
قال سماحته في رسالته المتينة التي جاءت تحت عنوان: (إغواء الرَّعاع بباطل الإجماع الذي تنقله المجسمة عن الصحابة والسلف والأتباع):
قوله:
[12. الإمام أبو نصر السجزي (ت 444 هـ)
قال رحمه الله في كتابه الإبانة كما في العلو للذهبي ( برقم 569) :
" فأئمتنا كسفيان الثوري ومالك وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وان علمه بكل مكان وانه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء "].
أقول:
وهذا من جملة كذبهم على الأئمة!! ولا يثبت هذا وإن ثبت فقد طعن الذهبي فيه فأنكر لفظة (بذاته) وتقدَّم في التعليق على ترجمة ابن أبي زيد القيرواني من كتابنا تحقيق كتاب"العلو" (ترجمة 136 التعليق على النص رقم531): أن السجزي لم يذكر لفظ (بذاته) كما نقل الذهبي نفسه هذه العبارة بعينها في "سير أعلام النبلاء" (17/656) عن أبي نصر السجزي دون لفظة (بذاته)، والظاهر أن الذهبي نقل هذه العبارة في "العلو" وهو صغير السن بلفظ (بذاته) عن ابن تيمية فربما يكون ابن تيمية هو الذي زاد تلك اللفظة في عبارة السجزي كما نجدها في "بيان تلبيس الجهمية" (2/33)، وإذا كان السجزي قد قالها في تلك الفقرة ونقلها عن هؤلاء الأئمة فقد كذب عليهم! فعلماء السلف كالثوري ومالك لم يقولوا (بذاته)، ثم كما ترى يقول الذهبي هنا أن السجزي هو الذي زاد لفظة (بذاته) من كيسه على الأئمة فقال: [قلت: هذا الذي نقله عنهم مشهور ومحفوظ سوى كلمة (بذاته) فإنها مِنْ كِيْسِهِ](!!) وهذا إن ثبت عن السجزي فإنه يثبت أنه يكذب على الأئمة ويقوّلهم ما لم يقولوا وهكذا يفعل هؤلاء المجسمة حيث إنهم يُقَوِّلونَ أئمة السلف السابقين ما لم يقولوه! وقد أنكر ابن عبدالبَر في "التمهيد" (7/144) لفظة (بـذاتـه)!! فانظره فيه في الكلام على حديث النزول!! حيث أنكرها على نُعَيم بن حماد هناك!! فتنبه!!
وليعلم : أن من جملة تحريفات هذا الرجل السجزي للسنة وسعيه في لَيِّها حسب هواه أنه روى حديث الرحمة المسلسل بالأولية من طريق أبي قابوس المجهول بلفظ: ((... يرحمكم مَنْ في السماء)) مع أنَّ لفظ الحديث من طريق أبي قابوس المجهول في "مسند أحمد" (2/160): ((.... يرحمكم أهل السماء)) أي: الملائكة. وذكر الحافظ ابن حجر في "معجم الشيخة مريم" وهو مخطوط أنَّ أبا داود رواه أيضاً بلفظ: ((أهل السماء)).
قلت: وبه يتبين أنَّ ما في المطبوع من "سنن أبي داود" محرَّف!! وقد تكلَّمت على هذا الحديث في التعليق على كتاب "العلو" برقم (13) فارجع إليه إن شئت!!
وحديث الرحمة المسلسل بالأولية بلفظ (يرحمكم مَنْ في السماء) مـوضـوع منكر. رواه أبو داود (4/285برقم4941) والترمذي (4/324برقم1924) كما قال المصنِّف وكذا غيرهما كالحاكم، وفي إسنـاده أبـو قابوس وهو مجهول لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار!! قال الذهبي في "الميزان": ((لا يُعْرَف)) وقال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (12/223): [ذكره البخاري في الضعفاء من الكبير له...]. والحديث من غير هذا الطريق في البخاري (13/358برقم7376) بلفظ: ((لا يرحم الله مَنْ لا يرحم الناس)) وفي البخاري أيضاً (10/438برقم6013) بلفظ: ((مَنْ لا يَرْحم لا يُرْحَم)) وفي مسلم (4/1809برقم2319) وغيرهما من حديث جرير بلفظ: ((لا يرحمُ اللهُ مَنْ لا يَرْحَمُ الناسَ)). قلت: وقد جاء حديث أبي قابوس هذا كما تقدَّم في "مسند أحمد" (2/160) بلفظ: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم أهـل السماء)) وهذا اللفظ يعكر على المجسمة استدلالهم بالحديث بل يهدمه مـن أساسه!! وقد تقدَّم بتوسع في الكلام على الحديث رقم (13و14و15) من تعليقاتنا على كتاب "العلو" للذهبي.
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[ويوجد أيضاً إجماع نقله ابن عبد البر في التمهيد].
أقول:
لقد حذَّر الأئمة الحفاظ مما قاله ابن عبد البر في هذا الموضوع، وهذا يثبت لنا أن نقل الإجماع عنه في هذه القضية باطل لا يعوَّل عليه، ومن ذلك:
قال الحافظ العراقي الشافعي في "طرح التثريب شرح التقريب" (2/382):
[.. هذا كلام ابن عبد البر وهو أحد القائلين بالجهة فاحذره وإنما ذكرته لأُنَبِّهَ عليه لئلا يُغْترَّ به].
وقال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي المُنَزِّه (ت597هـ) في "صيد الخاطر" ص (61) مبيناً فساد ما قاله ابن عبد البر:
[عجبتُ من أقوامٍ يدَّعون العلمَ! ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها،.... ولقد عجبتُ لرجلٍ أندلسيٍّ يُقال له ابن عبد البر صنَّف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: (هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى)، وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل، لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام فقاس صفة الحق عليه! فأين هؤلاء واتِّباع الأثر؟ ولقد تكلَّموا بأقبح ما يتكلَّم به المتأوِّلون، ثم عابوا المتكلمين].
وقال العلامة الحافظ ابن بَطَّال المالكي (ت449هـ) قال في شرحه على "صحيح البخاري" (10/453):
[وكذلك لا شبهة لهم في قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} لأن صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضي كونه في جهة العلو، لأن الباري تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجوداً ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة... وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضاً واتساع؛ لأن الكلم عَرَضٌ والعَرَض لا يصح أن يفعل؛ لأن من شرط الفاعل كونه حياً قادراً عالماً مريدًا، فوجب صرف الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصاعدين به].
وكلام الحافظ ابن بَطَّال مهم جداً في بيان طريقة المالكية المتقدِّمين في التنزيه البعيدة عن طريقة ابن عبد البر وأمثاله من المائلين إلى الجهة والتشبيه!
وقال الحافظ ابن حجر الشافعي في "الفتح" (13/416):
[قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول].
وقال القرطبي المالكي في "تفسيره" (15/314): [{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}غافر:37، فَأَنْظُرُ إليه نظر مشرفٍ عليه. توهم أنه جسم تحويه الأماكن. وكان فرعون يدعي الألوهية ويرى تحقيقها بالجلوس في مكان مشرف... {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}غافر:37، أي: وإني لأظن موسى كاذباً في ادِّعائه إلهاً دوني، وإنما أفعل ما أفعل لإزاحة العِلَّة. وهذا يوجب شك فرعون في أمر الله].
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" (5/24):
[قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ}، ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم..].
وابن عبد البر له كلمات جيدة أخرى بعضها يناقض هذا الذي نقله الذهبي عنه هنا والمذكور في كتابه "التمهيد"، فإنه نفى الإقعاد الذي طنطن به الحنابلة في تفسير المقام المحمود!
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (19/64): [وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنْ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ أَنْ يُقْعِدَهُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْعَرْشِ! وَهَذَا عِنْدَهُمْ مُنْكَرٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الْمُقَامُ الَّذِي يَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ ذَلِكَ فَصَارَ إِجْمَاعاً فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَةِ].
وأنكر ابن عبد البر على نُعَيم بن حماد قوله: ((ينـزل بذاتـه وهو على كرسيه)) فقال هناك في "التمهيد" (7/144) عقب كلام حماد هذا:
[ليس هذا بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة، لأنَّ هذا كيفية وهم يفزعون منها لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عياناً].
وهذه النصوص منه تبين أنَّ مراده بالعلو علو المكانـة لا المكان!! أو هو مضطرب في الاعتقاد! أو دُسَّ عليه كما دُسَّ على غيره!
هذا الكلام في "التمهيد" (7/145) وقوله على الحقيقة لا على المجاز رده أهل الفهم من أهل العلم ممن عاصره وكان متقدّماً عليه في الوفاة! فقد تقدَّم أن العلامة الحافظ ابن بَطَّال المالكي (ت449هـ) أنكر في شرحه على صحيح البخاري (10/453) قولهم (على الحقيقة) فقال:
[..لأن الباري تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجوداً ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة]!
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/508): عند شرح حديث: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى)): [وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته ومهما تؤول به هذا جاز أن يتأول به ذاك والله أعلم].
ومن رجع إلى تعليقاتنا على كتاب "العلو" للذهبي فيما يتعلق بالحافظ ابن عبد البر فإنه سيجد فوائد عديدة حول عقيدة ابن عبد البر وما يدور حوله! وعلى كل الأحوال نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الله في السماء وفوق العرش باطل وغير صحيح!
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[وإجماع نقله الأوزاعي رحمه الله ورد في الأسماء والصفات للبيهقي وفتح البارى] .
أقول:
وهذا الكلام لا يثبت عن الأوزاعي بل هو محض افتراء. رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص (408).
قال الذهبي في كتابه "العلو":
[قال أبو عبدالله الحاكم: أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد، ثنا إبراهيم ابن الهيثم البلدي، ثنا محمد بن كثير المصيصي قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنَّا والتابعون متوافرون نقول: أنَّ الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة مـن صفاتـه. أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات].
أقول: هذا من جملة الأكاذيب والفرى والأخبار المصنوعة! - مع أن كلام بعض السلف ليس من الحجج الشرعية - وإليكم ذلك:
1- أما شيخ الحاكم (محمد بن علي الجوهري) فلم يعرفه محقق "العلو" البرَّاك (2/812) وقال: [لم أجد له ترجمه](!!)
وقد أخطأ لقصوره في الاطلاع! واسم الرجل على التحقيق: محمد بن أحمد بن علي بن مخلد الجوهري (264-357هـ)، ترجمه ابن الجوزي في "المنتظم" (14/192) والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/320) فقال:
[محمد بن أحمد بن علي بن مخلد بن أبان أبو عبد الله الجوهري المحتسب يعرف بابن المُحْرِم كان أحد غلمان محمد بن جرير الطبري، وحدَّث عن محمد بن يوسف بن الطباع وإبراهيم بن الهيثم البلدي.. قال محمد بن أبي الفوارس: سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فيها مات أبو عبد الله بن المُحْرِم في شهر ربيع الآخر ومولده سنة أربع وستين ومائتين، وكان يقال: في كتبه أحاديث مناكير ولم يكن عندهم بذاك. سألت أبا بكر البرقاني عن ابن المحرم فقال: لا بأس به. سمعت محمد بن أبي الفوارس سئل عن ابن المحرم فقال: ضعيف].
فهذا الرجل ضعيف، وترجمه السمعاني في "الأنساب" (5/214) وابن كثير في "البداية والنهاية" (11/266) وضعَّفه.
وترجمه الذهبي في "العبر" (2/315) والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في "توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم" (8/51) ولم يذكرا تضعيفه غشاً لتصحيح مثل هذا الأثر. وكذا ترجمه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (16/60) وجعله إماماً ومفتياً(!!) وهو ضعيف مطعون فيه! وذكر الذهبي أن الدارقطني قال: (لا بأس به) والذي قال ذلك البرقاني لا الدارقطني، أو اشتبه الأمر على ناسخ السير وطابعه! مع أنه في "تاريخ الإسلام" (26/167) قال: (البرقاني) بدل (الدارقطني).
2- وشيخه إبراهيم بن الهيثم البلدي، قال العُقَيلي في "الضعفاء" (1/274): [حدَّث بحديث كَذَّبَهُ فيه الناس وواجهوه به].
وقال البخاري في تاريخه (1/218): [ضعَّفه أحمد].
3- وشيخ البلدي: محمد بن كثير المصيصي ضعَّفه أحمد جداً كما في "الجرح والتعديل" (8/69). وجاء في ترجمته في "الكامل في الضعفاء" (6/254) لابن عَدِي: أنَّ أحمد قال: هـو منكر الحديث أو قـال: يروي أشياء منكرة، وقال: ابن عَدِي: له روايات عن مَعْمر والأوزاعي خاصة أحاديث عداد مما لا يتابعه أحد عليه.
وبذلك ظهر أن هذا إسناد تالف وهذا من جملة الأكاذيب المروية عن الأوزاعي.
وبعد هذا أستغرب من الحافظ ابن حجر كيف يقول عن هذا الأثر في "الفتح" (13/406): [بإسناد جيد](!!) مع أن إسناده تالف هالك!
ولا أستعجب أو أستغرب من قول ابن تيمية الحَرَّاني في "بيان تلبيس الجهمية" (2/38):
[روى أبو بكر البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" بإسناد صحيح عن الأوزاعي..].
وقد رأيتم ما في هذا الإسناد عن الأوزاعي من طامات! فهذا إجماع باطل منخرم لا يصح أصلاً عن قائله أو ناقله!
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[وإجماع أيضا نقله ابن خزيمة رحمه الله كما عند الذهبي في السير] .
أقول:
ابن خزيمة يفتي ويقول بطريقة خرافية ومن ذلك قوله:
[من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه، فوق سبع سمواته، فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته].
فهذه هي أصول الفتاوى الدموية التكفيرية التي ينبغي أن تكون طُرْفَة من الطرائف ونكتة من النكات المضحكة! وهذا دليل على منتهى التهور! ولذا وصف الفخرُ الرازيُّ رحمه الله ابنَ خزيمة بقوله:
[كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل]!
كما سيأتي موثقاً بعد أسطر! ومثل هذا القول في الشناعة قول ابن خزيمة أيضاً: في كتابه "التوحيد وإثبات صفات الرب" (1/202المحقق)، طبع مكتبة الرشد الرياض/ الطبعة السادسة 1997م:
[باب ذكر إثبات الرِّجْل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية، الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل يذكر ما يدعو بعض الكفار من دون الله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ..}، فأعلمنا ربنا جل وعلا أن مَنْ لا رِجْل له، ولا يد، ولا عين، ولا سمع فهو كالأنعام بل هو أضل، فالمعطلة الجهمية الذين هم شر من اليهود والنصارى والمجوس كالأنعام بل أضل؛ فالمعطلة الجهمية عندهم كالأنعام بل هم أضل].
فتأملوا هذا المنطق الممجوج! ويعني بالجهمية هنا العلماء المنزهين. وقد قال ابنُ خزيمة أيضاً شنائع أخرى في كتابـه "التوحيد وإثبات صفات الرب" ثمَّ تلهَّف على ما قال ورجع!! وقد وثقنا رجوعه عن هذه العقائد في عدة كتب من كتبنا، منها:
في الجزء الثالث من "تناقضات الألباني الواضحات" ص (247-250) فارجع إليه!!
ومن ذلك قول الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" ص (269):
[وقد رجع محمد بن إسحق إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال].
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/492):
[ووقع نحو ذلك لإمام الأئمة ابن خزيمة ثمَّ رجع، وله في ذلك مع تلامذته قصة مشهورة].
وقد اعتبر الإمامُ الفخرُ الرازيُّ رحمه الله تعالى كتابَ "التوحيد وإثبات صفات الرب" الذي ألَّفه ابن خزيمة بأنه: "كتاب الشِّرْك" كما صرح بذلك في "تفسيره" (14/27/151) حيث قال:
[واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد! وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: ((نحن نثبت لله وجهاً ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سُبُحَات وجهه كل شيء أدركه بصره...))...].
تعالى مولانا جلَّ وعزَّ عن ذلك علواً كبيراً!!
ومثل قول الفخر الرازي في ابن خزيمة أيضاً قول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" ص (114) حيث يقول:
[وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة فقال في الآية: (لربنا عينان ينظر بهما)!! قلــت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: ((وإن الله ليس بأعور)). وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يُتَخَيَّل من الصفات وجه].
وقال الحافظ الإمام ابن الجوزي في "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" أيضاً عند الكلام على حديث القَدَم والرِّجْل:
[ورأيت أبا بكر ابن خزيمة قد جمع كتاباً في الصفات وبوَّبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السموات على أصابعه، باب إثبات الرِّجْل وإن رَغِمَتْ أُنوف المعتزلة، ثم قال: قال الله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا}. فأعْلَمَنا أن مَنْ لا يد له ولا رِجْل فهو كالأنعام. قلت: وإني لأعجب من هذا الرَّجُل مع علوِّ قَدِرِه في علم النقل، يقول هذا ويثبت لله ما ذم الأصنام بعدمه من اليد الباطشة والرِّجل الماشية، ويلزمه أن يثبت الأُذُن، ولو رُزِقَ الفَهْمَ ما تَكَلَّمَ بهذا، وَلَفَهِمَ أنَّ الله تعالى عاب الأصنام عند عابديها، والمعنى: لكم أيدٍ وأرْجُلٌ فكيف عبدتم ناقصاً لا يد له يبطش ولا رِجْل يمشي بها].
فما يضيرنا أن لا نتبع ولا نقتدي ببعض مبرسمي السلف من المحدثين والنَّقَلَة!
قال الحافظ الباجي (403-474هـ) في كتابه (رجال البخاري) المطبوع حديثاً باسم "التعديل والتجريح" (2/523):
[سئل النسائي عن حماد بن سلمة فقال: لا بأس به. وقد كان قبل ذلك قال فيه: ثقة. قال القاسم بن مسعدة فكلمته فيه؟ فقال: ومن يجترئ يتكلم فيه لم يكن عند القطان هناك ولكنه روى عنه أحاديث دارى بها أهل البصرة. ثم جعل يذكر النسائي الأحاديث التي انفرد بها في التشبيه كأنه خاف أن يقول الناس إنه تكلم في حماد من طريقها. ثم قال: حمقى أصحاب الحديث].
فهذا الإمام النسائي يشهد على أصحاب الحديث بالحمق!
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[وكلها إجماعات قطعية تدل على أن الله تعالى في السماء فوق عرشه حقيقة ولم يخص السلف هذا العلو بعلو العظمة والمكانة فقط كما يدعون ، فماذا بعد الحق إلا الضلال].
أقول: قد تبين للمنصف أن هذه إجماعات خيالية وخرافية يحسبها الظمآن ماء، وهي أكاذيب ملفقة لا تقوم أمام البحث العلمي، بل قال ابن جرير الطبري في تفسيره (1/192): [فكذلك قل علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال].
فتبين أن هذا الكاتب ومن يَنْقُلُ عنه ينقل شيئاً لا يعرف صحته من بطلانه ويظنه شيئاً وهو ليس بشيء!
ولم يزل هناك خلافاً في الأمة في هذه المسائل وأهل الحق المنزهون من كافة فرق الإسلام على أن الله تعالى متعال عن المكان كما قال الطحاوي في عقيدته المشهورة: [لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] وبهذا ظهرت الحقيقة {ولا يحيطون به علماً} والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله رب العالمين
2/رمضان/1446هـ
2/3/2025م
؛ تحريرات سماحة العلّامة المحدث السيد حسن بن علي السقاف :
قال سماحته في رسالته المتينة التي جاءت تحت عنوان: (إغواء الرَّعاع بباطل الإجماع الذي تنقله المجسمة عن الصحابة والسلف والأتباع):
قوله:
[12. الإمام أبو نصر السجزي (ت 444 هـ)
قال رحمه الله في كتابه الإبانة كما في العلو للذهبي ( برقم 569) :
" فأئمتنا كسفيان الثوري ومالك وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وان علمه بكل مكان وانه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء "].
أقول:
وهذا من جملة كذبهم على الأئمة!! ولا يثبت هذا وإن ثبت فقد طعن الذهبي فيه فأنكر لفظة (بذاته) وتقدَّم في التعليق على ترجمة ابن أبي زيد القيرواني من كتابنا تحقيق كتاب"العلو" (ترجمة 136 التعليق على النص رقم531): أن السجزي لم يذكر لفظ (بذاته) كما نقل الذهبي نفسه هذه العبارة بعينها في "سير أعلام النبلاء" (17/656) عن أبي نصر السجزي دون لفظة (بذاته)، والظاهر أن الذهبي نقل هذه العبارة في "العلو" وهو صغير السن بلفظ (بذاته) عن ابن تيمية فربما يكون ابن تيمية هو الذي زاد تلك اللفظة في عبارة السجزي كما نجدها في "بيان تلبيس الجهمية" (2/33)، وإذا كان السجزي قد قالها في تلك الفقرة ونقلها عن هؤلاء الأئمة فقد كذب عليهم! فعلماء السلف كالثوري ومالك لم يقولوا (بذاته)، ثم كما ترى يقول الذهبي هنا أن السجزي هو الذي زاد لفظة (بذاته) من كيسه على الأئمة فقال: [قلت: هذا الذي نقله عنهم مشهور ومحفوظ سوى كلمة (بذاته) فإنها مِنْ كِيْسِهِ](!!) وهذا إن ثبت عن السجزي فإنه يثبت أنه يكذب على الأئمة ويقوّلهم ما لم يقولوا وهكذا يفعل هؤلاء المجسمة حيث إنهم يُقَوِّلونَ أئمة السلف السابقين ما لم يقولوه! وقد أنكر ابن عبدالبَر في "التمهيد" (7/144) لفظة (بـذاتـه)!! فانظره فيه في الكلام على حديث النزول!! حيث أنكرها على نُعَيم بن حماد هناك!! فتنبه!!
وليعلم : أن من جملة تحريفات هذا الرجل السجزي للسنة وسعيه في لَيِّها حسب هواه أنه روى حديث الرحمة المسلسل بالأولية من طريق أبي قابوس المجهول بلفظ: ((... يرحمكم مَنْ في السماء)) مع أنَّ لفظ الحديث من طريق أبي قابوس المجهول في "مسند أحمد" (2/160): ((.... يرحمكم أهل السماء)) أي: الملائكة. وذكر الحافظ ابن حجر في "معجم الشيخة مريم" وهو مخطوط أنَّ أبا داود رواه أيضاً بلفظ: ((أهل السماء)).
قلت: وبه يتبين أنَّ ما في المطبوع من "سنن أبي داود" محرَّف!! وقد تكلَّمت على هذا الحديث في التعليق على كتاب "العلو" برقم (13) فارجع إليه إن شئت!!
وحديث الرحمة المسلسل بالأولية بلفظ (يرحمكم مَنْ في السماء) مـوضـوع منكر. رواه أبو داود (4/285برقم4941) والترمذي (4/324برقم1924) كما قال المصنِّف وكذا غيرهما كالحاكم، وفي إسنـاده أبـو قابوس وهو مجهول لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار!! قال الذهبي في "الميزان": ((لا يُعْرَف)) وقال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (12/223): [ذكره البخاري في الضعفاء من الكبير له...]. والحديث من غير هذا الطريق في البخاري (13/358برقم7376) بلفظ: ((لا يرحم الله مَنْ لا يرحم الناس)) وفي البخاري أيضاً (10/438برقم6013) بلفظ: ((مَنْ لا يَرْحم لا يُرْحَم)) وفي مسلم (4/1809برقم2319) وغيرهما من حديث جرير بلفظ: ((لا يرحمُ اللهُ مَنْ لا يَرْحَمُ الناسَ)). قلت: وقد جاء حديث أبي قابوس هذا كما تقدَّم في "مسند أحمد" (2/160) بلفظ: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم أهـل السماء)) وهذا اللفظ يعكر على المجسمة استدلالهم بالحديث بل يهدمه مـن أساسه!! وقد تقدَّم بتوسع في الكلام على الحديث رقم (13و14و15) من تعليقاتنا على كتاب "العلو" للذهبي.
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[ويوجد أيضاً إجماع نقله ابن عبد البر في التمهيد].
أقول:
لقد حذَّر الأئمة الحفاظ مما قاله ابن عبد البر في هذا الموضوع، وهذا يثبت لنا أن نقل الإجماع عنه في هذه القضية باطل لا يعوَّل عليه، ومن ذلك:
قال الحافظ العراقي الشافعي في "طرح التثريب شرح التقريب" (2/382):
[.. هذا كلام ابن عبد البر وهو أحد القائلين بالجهة فاحذره وإنما ذكرته لأُنَبِّهَ عليه لئلا يُغْترَّ به].
وقال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي المُنَزِّه (ت597هـ) في "صيد الخاطر" ص (61) مبيناً فساد ما قاله ابن عبد البر:
[عجبتُ من أقوامٍ يدَّعون العلمَ! ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها،.... ولقد عجبتُ لرجلٍ أندلسيٍّ يُقال له ابن عبد البر صنَّف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: (هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى)، وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل، لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام فقاس صفة الحق عليه! فأين هؤلاء واتِّباع الأثر؟ ولقد تكلَّموا بأقبح ما يتكلَّم به المتأوِّلون، ثم عابوا المتكلمين].
وقال العلامة الحافظ ابن بَطَّال المالكي (ت449هـ) قال في شرحه على "صحيح البخاري" (10/453):
[وكذلك لا شبهة لهم في قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} لأن صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضي كونه في جهة العلو، لأن الباري تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجوداً ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة... وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضاً واتساع؛ لأن الكلم عَرَضٌ والعَرَض لا يصح أن يفعل؛ لأن من شرط الفاعل كونه حياً قادراً عالماً مريدًا، فوجب صرف الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصاعدين به].
وكلام الحافظ ابن بَطَّال مهم جداً في بيان طريقة المالكية المتقدِّمين في التنزيه البعيدة عن طريقة ابن عبد البر وأمثاله من المائلين إلى الجهة والتشبيه!
وقال الحافظ ابن حجر الشافعي في "الفتح" (13/416):
[قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول].
وقال القرطبي المالكي في "تفسيره" (15/314): [{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}غافر:37، فَأَنْظُرُ إليه نظر مشرفٍ عليه. توهم أنه جسم تحويه الأماكن. وكان فرعون يدعي الألوهية ويرى تحقيقها بالجلوس في مكان مشرف... {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}غافر:37، أي: وإني لأظن موسى كاذباً في ادِّعائه إلهاً دوني، وإنما أفعل ما أفعل لإزاحة العِلَّة. وهذا يوجب شك فرعون في أمر الله].
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" (5/24):
[قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ}، ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم..].
وابن عبد البر له كلمات جيدة أخرى بعضها يناقض هذا الذي نقله الذهبي عنه هنا والمذكور في كتابه "التمهيد"، فإنه نفى الإقعاد الذي طنطن به الحنابلة في تفسير المقام المحمود!
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (19/64): [وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنْ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ أَنْ يُقْعِدَهُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْعَرْشِ! وَهَذَا عِنْدَهُمْ مُنْكَرٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الْمُقَامُ الَّذِي يَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ ذَلِكَ فَصَارَ إِجْمَاعاً فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَةِ].
وأنكر ابن عبد البر على نُعَيم بن حماد قوله: ((ينـزل بذاتـه وهو على كرسيه)) فقال هناك في "التمهيد" (7/144) عقب كلام حماد هذا:
[ليس هذا بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة، لأنَّ هذا كيفية وهم يفزعون منها لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عياناً].
وهذه النصوص منه تبين أنَّ مراده بالعلو علو المكانـة لا المكان!! أو هو مضطرب في الاعتقاد! أو دُسَّ عليه كما دُسَّ على غيره!
هذا الكلام في "التمهيد" (7/145) وقوله على الحقيقة لا على المجاز رده أهل الفهم من أهل العلم ممن عاصره وكان متقدّماً عليه في الوفاة! فقد تقدَّم أن العلامة الحافظ ابن بَطَّال المالكي (ت449هـ) أنكر في شرحه على صحيح البخاري (10/453) قولهم (على الحقيقة) فقال:
[..لأن الباري تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجوداً ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة]!
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/508): عند شرح حديث: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى)): [وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته ومهما تؤول به هذا جاز أن يتأول به ذاك والله أعلم].
ومن رجع إلى تعليقاتنا على كتاب "العلو" للذهبي فيما يتعلق بالحافظ ابن عبد البر فإنه سيجد فوائد عديدة حول عقيدة ابن عبد البر وما يدور حوله! وعلى كل الأحوال نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الله في السماء وفوق العرش باطل وغير صحيح!
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[وإجماع نقله الأوزاعي رحمه الله ورد في الأسماء والصفات للبيهقي وفتح البارى] .
أقول:
وهذا الكلام لا يثبت عن الأوزاعي بل هو محض افتراء. رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص (408).
قال الذهبي في كتابه "العلو":
[قال أبو عبدالله الحاكم: أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد، ثنا إبراهيم ابن الهيثم البلدي، ثنا محمد بن كثير المصيصي قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنَّا والتابعون متوافرون نقول: أنَّ الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة مـن صفاتـه. أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات].
أقول: هذا من جملة الأكاذيب والفرى والأخبار المصنوعة! - مع أن كلام بعض السلف ليس من الحجج الشرعية - وإليكم ذلك:
1- أما شيخ الحاكم (محمد بن علي الجوهري) فلم يعرفه محقق "العلو" البرَّاك (2/812) وقال: [لم أجد له ترجمه](!!)
وقد أخطأ لقصوره في الاطلاع! واسم الرجل على التحقيق: محمد بن أحمد بن علي بن مخلد الجوهري (264-357هـ)، ترجمه ابن الجوزي في "المنتظم" (14/192) والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/320) فقال:
[محمد بن أحمد بن علي بن مخلد بن أبان أبو عبد الله الجوهري المحتسب يعرف بابن المُحْرِم كان أحد غلمان محمد بن جرير الطبري، وحدَّث عن محمد بن يوسف بن الطباع وإبراهيم بن الهيثم البلدي.. قال محمد بن أبي الفوارس: سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فيها مات أبو عبد الله بن المُحْرِم في شهر ربيع الآخر ومولده سنة أربع وستين ومائتين، وكان يقال: في كتبه أحاديث مناكير ولم يكن عندهم بذاك. سألت أبا بكر البرقاني عن ابن المحرم فقال: لا بأس به. سمعت محمد بن أبي الفوارس سئل عن ابن المحرم فقال: ضعيف].
فهذا الرجل ضعيف، وترجمه السمعاني في "الأنساب" (5/214) وابن كثير في "البداية والنهاية" (11/266) وضعَّفه.
وترجمه الذهبي في "العبر" (2/315) والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في "توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم" (8/51) ولم يذكرا تضعيفه غشاً لتصحيح مثل هذا الأثر. وكذا ترجمه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (16/60) وجعله إماماً ومفتياً(!!) وهو ضعيف مطعون فيه! وذكر الذهبي أن الدارقطني قال: (لا بأس به) والذي قال ذلك البرقاني لا الدارقطني، أو اشتبه الأمر على ناسخ السير وطابعه! مع أنه في "تاريخ الإسلام" (26/167) قال: (البرقاني) بدل (الدارقطني).
2- وشيخه إبراهيم بن الهيثم البلدي، قال العُقَيلي في "الضعفاء" (1/274): [حدَّث بحديث كَذَّبَهُ فيه الناس وواجهوه به].
وقال البخاري في تاريخه (1/218): [ضعَّفه أحمد].
3- وشيخ البلدي: محمد بن كثير المصيصي ضعَّفه أحمد جداً كما في "الجرح والتعديل" (8/69). وجاء في ترجمته في "الكامل في الضعفاء" (6/254) لابن عَدِي: أنَّ أحمد قال: هـو منكر الحديث أو قـال: يروي أشياء منكرة، وقال: ابن عَدِي: له روايات عن مَعْمر والأوزاعي خاصة أحاديث عداد مما لا يتابعه أحد عليه.
وبذلك ظهر أن هذا إسناد تالف وهذا من جملة الأكاذيب المروية عن الأوزاعي.
وبعد هذا أستغرب من الحافظ ابن حجر كيف يقول عن هذا الأثر في "الفتح" (13/406): [بإسناد جيد](!!) مع أن إسناده تالف هالك!
ولا أستعجب أو أستغرب من قول ابن تيمية الحَرَّاني في "بيان تلبيس الجهمية" (2/38):
[روى أبو بكر البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" بإسناد صحيح عن الأوزاعي..].
وقد رأيتم ما في هذا الإسناد عن الأوزاعي من طامات! فهذا إجماع باطل منخرم لا يصح أصلاً عن قائله أو ناقله!
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[وإجماع أيضا نقله ابن خزيمة رحمه الله كما عند الذهبي في السير] .
أقول:
ابن خزيمة يفتي ويقول بطريقة خرافية ومن ذلك قوله:
[من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه، فوق سبع سمواته، فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته].
فهذه هي أصول الفتاوى الدموية التكفيرية التي ينبغي أن تكون طُرْفَة من الطرائف ونكتة من النكات المضحكة! وهذا دليل على منتهى التهور! ولذا وصف الفخرُ الرازيُّ رحمه الله ابنَ خزيمة بقوله:
[كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل]!
كما سيأتي موثقاً بعد أسطر! ومثل هذا القول في الشناعة قول ابن خزيمة أيضاً: في كتابه "التوحيد وإثبات صفات الرب" (1/202المحقق)، طبع مكتبة الرشد الرياض/ الطبعة السادسة 1997م:
[باب ذكر إثبات الرِّجْل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية، الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل يذكر ما يدعو بعض الكفار من دون الله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ..}، فأعلمنا ربنا جل وعلا أن مَنْ لا رِجْل له، ولا يد، ولا عين، ولا سمع فهو كالأنعام بل هو أضل، فالمعطلة الجهمية الذين هم شر من اليهود والنصارى والمجوس كالأنعام بل أضل؛ فالمعطلة الجهمية عندهم كالأنعام بل هم أضل].
فتأملوا هذا المنطق الممجوج! ويعني بالجهمية هنا العلماء المنزهين. وقد قال ابنُ خزيمة أيضاً شنائع أخرى في كتابـه "التوحيد وإثبات صفات الرب" ثمَّ تلهَّف على ما قال ورجع!! وقد وثقنا رجوعه عن هذه العقائد في عدة كتب من كتبنا، منها:
في الجزء الثالث من "تناقضات الألباني الواضحات" ص (247-250) فارجع إليه!!
ومن ذلك قول الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" ص (269):
[وقد رجع محمد بن إسحق إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال].
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/492):
[ووقع نحو ذلك لإمام الأئمة ابن خزيمة ثمَّ رجع، وله في ذلك مع تلامذته قصة مشهورة].
وقد اعتبر الإمامُ الفخرُ الرازيُّ رحمه الله تعالى كتابَ "التوحيد وإثبات صفات الرب" الذي ألَّفه ابن خزيمة بأنه: "كتاب الشِّرْك" كما صرح بذلك في "تفسيره" (14/27/151) حيث قال:
[واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد! وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: ((نحن نثبت لله وجهاً ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سُبُحَات وجهه كل شيء أدركه بصره...))...].
تعالى مولانا جلَّ وعزَّ عن ذلك علواً كبيراً!!
ومثل قول الفخر الرازي في ابن خزيمة أيضاً قول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" ص (114) حيث يقول:
[وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة فقال في الآية: (لربنا عينان ينظر بهما)!! قلــت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: ((وإن الله ليس بأعور)). وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يُتَخَيَّل من الصفات وجه].
وقال الحافظ الإمام ابن الجوزي في "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" أيضاً عند الكلام على حديث القَدَم والرِّجْل:
[ورأيت أبا بكر ابن خزيمة قد جمع كتاباً في الصفات وبوَّبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السموات على أصابعه، باب إثبات الرِّجْل وإن رَغِمَتْ أُنوف المعتزلة، ثم قال: قال الله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا}. فأعْلَمَنا أن مَنْ لا يد له ولا رِجْل فهو كالأنعام. قلت: وإني لأعجب من هذا الرَّجُل مع علوِّ قَدِرِه في علم النقل، يقول هذا ويثبت لله ما ذم الأصنام بعدمه من اليد الباطشة والرِّجل الماشية، ويلزمه أن يثبت الأُذُن، ولو رُزِقَ الفَهْمَ ما تَكَلَّمَ بهذا، وَلَفَهِمَ أنَّ الله تعالى عاب الأصنام عند عابديها، والمعنى: لكم أيدٍ وأرْجُلٌ فكيف عبدتم ناقصاً لا يد له يبطش ولا رِجْل يمشي بها].
فما يضيرنا أن لا نتبع ولا نقتدي ببعض مبرسمي السلف من المحدثين والنَّقَلَة!
قال الحافظ الباجي (403-474هـ) في كتابه (رجال البخاري) المطبوع حديثاً باسم "التعديل والتجريح" (2/523):
[سئل النسائي عن حماد بن سلمة فقال: لا بأس به. وقد كان قبل ذلك قال فيه: ثقة. قال القاسم بن مسعدة فكلمته فيه؟ فقال: ومن يجترئ يتكلم فيه لم يكن عند القطان هناك ولكنه روى عنه أحاديث دارى بها أهل البصرة. ثم جعل يذكر النسائي الأحاديث التي انفرد بها في التشبيه كأنه خاف أن يقول الناس إنه تكلم في حماد من طريقها. ثم قال: حمقى أصحاب الحديث].
فهذا الإمام النسائي يشهد على أصحاب الحديث بالحمق!
ثم قال هذا المتفلسف الذي لا يعرف كوعه من بوعه:
[وكلها إجماعات قطعية تدل على أن الله تعالى في السماء فوق عرشه حقيقة ولم يخص السلف هذا العلو بعلو العظمة والمكانة فقط كما يدعون ، فماذا بعد الحق إلا الضلال].
أقول: قد تبين للمنصف أن هذه إجماعات خيالية وخرافية يحسبها الظمآن ماء، وهي أكاذيب ملفقة لا تقوم أمام البحث العلمي، بل قال ابن جرير الطبري في تفسيره (1/192): [فكذلك قل علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال].
فتبين أن هذا الكاتب ومن يَنْقُلُ عنه ينقل شيئاً لا يعرف صحته من بطلانه ويظنه شيئاً وهو ليس بشيء!
ولم يزل هناك خلافاً في الأمة في هذه المسائل وأهل الحق المنزهون من كافة فرق الإسلام على أن الله تعالى متعال عن المكان كما قال الطحاوي في عقيدته المشهورة: [لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] وبهذا ظهرت الحقيقة {ولا يحيطون به علماً} والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله رب العالمين
2/رمضان/1446هـ
2/3/2025م