Page 1 of 1

نقد المتن أولوية لم يكن ابن خلدون مبتدعًا حين اشترط في قبول الحديث أن يُعرض متنه أولًا على طبائع العمران، قبل النظر في

Posted: Thu May 22, 2025 2:23 pm
by عود الخيزران
نقد المتن أولوية

لم يكن ابن خلدون مبتدعًا حين اشترط في قبول الحديث أن يُعرض متنه أولًا على طبائع العمران، قبل النظر في سنده. فإن وافق المتن طبائع العمران، قُبل؛ وإلا رُدّ. وقد انتقد المؤرخين والمفسرين وأئمة النقل لمجرد اعتمادهم على مجرد النقل أو السند، دون سبرها وعرضها على الأصول والعمران.

يقول في *المقدمة :
"وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ...".

لكن الحقيقة أن أمنا عائشة رضي الله عنها سبقت الجميع في هذا المنهج، إذ ردّت عددًا من المتون لمخالفتها لظاهر القرآن أو لبطلانها من جهة المعنى، كما في ردها لحديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"*، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. وكذلك ردّت حديث سماع أهل القليب نداء النبي عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ وردّت حديث قطع المرأة للصلاة أيضاً.

وجاء ليؤكد هذا المنهج عظماء أئمة الفقه، كأبي حنيفة ومالك والشافعي ولو قليلا.
بل استدل الشافعي بصنيع عائشة رضي الله عنها في رد حديث قطع الصلاة،
ومثل ذلك تجده في وقفات عند الإمام البخاري ، إذ استشهد بمواقف عائشة رضي الله عنها في رد عدد من الأحاديث، كحديث الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وحديث قطع المرأة للصلاة. بل ردّ بعض الأحاديث لكونها مخالفة للقرآن، كحديث رضاع الكبير.

ومن النماذج البارزة في هذا السياق ما ذكره ابن الجوزي في مقدمة كتابه الموضوعات، حيث أصّل لقاعدة مهمة مفادها: أن المتن إذا تضمّن محالًا عقليًا أو شرعيًا، وجب رده، ولو رواه جمع عن جمع من الثقات. فإن أخبر الثقات بما يستحيل، فكلامهم مردود، ولا يُقبل.
وهذا الشاطبي، وبعد مسيرة علمية طويلة يبحث عن الموافقات ومقاصد الشريعة، ليقرر مبدأً راسخًا: أن هذه الشريعة تجري على نسق واحد، وأن ما شذّ عن هذا النسق يُردّ. وما السنة النبوية إلا تحت هيمنة كتابه الله تعالى وسلطته، لذلك حزم بأنه لا عبادة كالصلاة أو الصيام أو الحج تُفعل نيابة عن الميت والحي، لأنها تخالف مقاصد الشريعة ونصوصها القطعية، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾، وقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، وقوله: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾.
فالحج عن الغير يخالف القطعي من كتاب الله تعالى، فضلًا عن أن رواياته مرسلة ومضطربة. بل أشار الشاطبي إلى أن البخاري ومسلما ذكرا أحاديث الحج عن الغير ليُبيّنا علتها، لا لتصحيحها.

إن ما نحتاج إليه اليوم ليس التقليد ولا التعصب أو الطعن وسوء الظن، ولا مجرد التمسك بظاهر الروايات على حساب قطعي كتاب الله تعالى ومقاصد هذا الدين الحنيف، وإنما نحتاج إلى تأصيل علمي راسخ، وتكوين معرفي متين، يجمع بين طبائع العمران والرواية، وبين أصول الشريعة ومقاصدها وأخبار الآحاد، وبين نقد المتن قبل نقد السند.
وذلك كي لا نقع في خطأ اعتماد روايات باطلة المتن لمجرد صحة ظاهر السند، فنُلصق بالنبي عليه الصلاة والسلام ما لا يليق، مما يفتح الباب للطعن في السنّة، والطعن في هذا الدين.

ويجدر التذكير هنا بما ذكره الحاكم في كتابه المعرفة، من أن بعض الأحاديث تبدو صحيحة من حيث السند، لكنها معلولة. ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا رأى المطر قال: "اللهم صيّبًا هنيئًا".
قال الحاكم:
"وهذا حديث تداوله الثقات هكذا، وهو في الأصل معلول واهٍ، ففي هذه الأحاديث الثلاثة قياس على ثلاث مئة أو ثلاثة آلاف أو أكثر من ذلك".
ثم قال: "إن الصحيح لا يُعرف بروايته فقط، وإنما يُعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث. فإذا وجدت مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم، لزم صاحب الحديث التنقير عن علتها، ومذاكرة أهل المعرفة بها لتظهر علتها".

ولا شك أن استثناء البخاري ومسلم من تعليل متون الأحاديث فيه نظر وخلل، لأن فيهما أحاديث كثيرة معلولة متنا، وإن أجابوا عنها بأجوبة باردة لا تسلم من الضعف، كتعللهم بأنها "غير مؤثرة"، أو "تصحّح على الوجهين"، أو أنها "علل مبنية على قواعد ضعيفة"، أو من باب تعدد القصة....
ومن ذلك أيضا لا يستقيم تحصين الصحيحين من النقد، بدعوى تلقي الأمة لهما بالقبول وبالتالي حكموا على أحاديثهما بالقطع، لأنها دعوى وهمية غير صحيحة وغير ثابتة، وما زالت الأمة تنقد أحاديثهما منذ عصر البخاري وليومنا هذا.
د.عمار الحريري