بيان المراد من مقولة:( العقل مقدّم على النقل عند التعارض:
قال سماحة العلّامة السيد حسن السقاف في كتابه" صحيح شرح العقيدة الطحاوية":
مسألة تعارض العقل والنقل:
فإذا تأمّلت في الكلام المتقدّم جيداً آن أن نبين لك ما هو المراد بقولهم: إن العقل مُقَدَّم على النقل عند التعارض فنقول:
المراد من كون الدليل العقلي مقدّم على الدليل الشرعي عند التعارض هو:
أن العقل يدرك من نصوص الشرع المتواردة في قضية معينة أن هناك نصاً من نصوص الآحاد التي هي غير قطعية الدلالة أو غير قطعية الثبوت أن ظاهره الذي قد يتبادر إلى الذهن من أوّل وهلة غير مراد، فإن ظاهر قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي ((كنتُ رِجْله التي يمشي بها)) (البخاري 11/341) غير مراد، لأنَّ العقل أدرك بأن ظاهر هذا النص غير مقصود، ذلك لأن القاعدة الشرعية القطعية المستفادة من نصوصٍ كثيرة مُحكَمةٍ في الكتاب والسنة تفيد تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الحلول فيها؛ والعقل أساس التكليف لأنه هو الذي يدرك معاني النصوص الشرعية وما هو المراد منها وبفقدها يُفْقَد التكليف، والله تعالى مدح العقل وبين لنا فضله وأنه هو آلة الاستنباط في نصوص كثيرة جداً في القرآن الكريم تقدّم بعضها.
ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}النساء:83، ولولا العقل لكان الناس كالبهائم، قال الله تعالى:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}الأنفال:22، وكم آية قال تعالى فيها للناس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}الروم:24، وذم سبحانه أناساً فقال فيهم:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}البقرة:171، وهم مع ذلك كانوا يسمعون ويرون، وقال عن آخرين وهم في غاية الخبث والتمرُّد {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}الحشر:14، وقال سبحانه {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}الحج:46، والآيات في ذلك كثيرة جداً كما تقدّم.
فتبين بذلك أن حديث الآحاد الذي يفيد الظن ـ وهو غير قطعي ـ إذا عارضه العقل، أي ما يوجبه العقل ويدركه من تقرير أدلة الكتاب والسنة المتضافرة على معنى يخالف هذا الحديث الفرد فإنه يطرح ولا يؤخذ به البتة، أو لشيء آخر يدل عليه العقل كتخصيص أو استثاء أو غير ذلك، فينبغي أن يعرف طالب العلم بأن العلماء اختصروا هذا المعنى فقالوا:
إذا عارض الدليل النقلي الدليل العقلي وجب تقديم العقلي، ومرادهم بالنقلي هو الآحاد أو نص غير قطعي الدلالة، ومرادهم بالعقلي إدراك العقل تضافر أدلة كثيرة على معنى ما.
ونذكر ههنا مثالين لهذا الامر لتتضح هذه المسألة:
(أولاً): ردّت السيدة عائشة كما تقدّم على من قال أو روى أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه وهو سيدنا ابن عباس، ففي صحيح مسلم (1/158) عن عطاء عن ابن عباس قال ((رآه بقلبه)) وذكر الحافظ في ((الفتح)) (8/608) أن ابن خزيمة روى بإسناد قوي عن سيدنا أنس أنه قال ((رأى محمد ربه))( ).
قلــت: ردّت السيدة عائشة رضي الله عنها جميع ذلك كما في البخاري (8/606) ومسلم (1/159) فعن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أُمّتاه: هل رأى محمد ربه فقالت: ((قفَّ شعري مما قلت!! أين أنت من ثلاث من حدّثكهن فقد كذب: من حدَّثك أن محمد رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}الأنعام:103، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}الشورى:51.
فانظر يرحمك الله تعالى كيف ردّت السيدة عائشة النص الظنّي بالعقل، أي بما فهمه العقل وحكم به اعتماداً على القواعد الأصلية المبنيّة على نصوص القرآن القطعية، وهذا هو المراد عند من قال: ((إذا تعارض العقل والنقل قُدِّمَ العقل)) ولا يعني ذلك أن تُرَدَّ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمجرد رفض العقل لها هكذا!! لا!! ولم يقل بهذا عاقل موحِّدٌ فافهم هداك الله تعالى.
(ثانياً): روى مسلم في ((الصحيح)) (4/2149 برقم 2789) عن أبي هريرة مرفوعاً:
((خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل)).
ففي هذا الحديث إثبات أنَّ الله خلق السموات والأرض في سبعة أيام، وهذا مخالف للقرآن وذلك لأنَّ الله تعالى أخبر أنَّه خلق السموات والأرض في ستة أيام، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}الأعراف:54.
فإن قال قائل: هذا الحديث لا يعارض الآية السابقة، وإنما يُفصِّل كيفية تطوّر الأرض وما خلق فيها وحدها، وأنَّ ذلك كان في سبعة أيام وهي غير الأيام الستة المذكورة في الآية أو نحو هذا الكلام كما صرح به متناقض!! عصرنا الألباني.
قلنا في جوابه: لا، ليس كذلك! وكلامك باطل من وجوه عديدة أذكر لك ثلاثة منها:
الأول : أن سيدنا آدم المذكور في الحديث لم يُخْلَقْ على الأرض إنما خلقه في الجنة ثم أُهبط بعد مُدَّة إلى الأرض، فهذا الحديث لا يتكلّم إذن بما حصل على الأرض خاصة، ثم قوله فيه: (وخلق النور يوم الأربعاء) ليس خاصاً أيضاً بالأرض لأن النور الموجود على الأرض بشكل عام مصدره من الشمس التي هي في السماء والنور موجود أيضاً في الجنة، فهذا الحديث فيه ذكر ما في الأرض وما في السماء.
وكذلك قوله (المكروه) في الحديث لا يفهم معناه!! والمكروه يعم أشياء كثيرة، والمعروف أن المكروه أو الشر يخلقه الله عز وجل في وقته الذي يحصل فيه، وهذا الحديث فيه هذه الجُملَ الركيكة التي تدل على أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نطق به.
الثاني: أنَّ القرآن يردُّ ذلك أيضاً بصراحة قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}فُصِّلت:9-10، فهذا صريح في أنه سبحانه خلق الأرض في يومين وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ومجموع ذلك ستة أيام، فأين الأيام السبعة من ذلك؟!
الثالث: ولهذه الأدلة العقلية المأخوذة بالتأمل والتدبر من القرآن الكريم ردَّ أئمة المحدثين الذين أدركوا هذا الشذوذ في متن الحديث هذا الحديث وطعنوا فيه.
قال ابن كثير في تفسيره (1/99 طبعة الشعب): ((هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلّم عليه ابن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأنَّ أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وقد اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعاً)).
قلــت: وقد أنكره البخاري في كتابه ((التاريخ الكبير)) (1/413 ـ 414) وغيره، حتى أنَّ الشيخ ابن تيمية!! نقل طعن الحفاظ فيه في ((فتاواه)) (17/236) وهذا هو تطبيق القاعدة التي تقدّمت والتي نص عليها إمام المحدّثين في عصره الخطيب البغدادي حيث قال في كتابه ((الفقيه والمتفقه)) (1/132):
((باب القول فيما يُرَدُّ به خبر الواحد:.... وإذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رُدَّ بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا...)). فتدبَّر ذلك جيداً والله الموفق!!
بيان المراد من مقولة:( العقل مقدّم على النقل عند التعارض:
مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
-
- Posts: 901
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm
Return to “مسائل وقضايا التوحيد والإيمان”
Jump to
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↳ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↳ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↳ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↳ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↳ شرح الحديث
- ↳ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↳ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↳ القواعد والأصول العقائدية
- ↳ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↳ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↳ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↳ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↳ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↳ السيرة النبوية
- ↳ قضايا تاريخية
- ↳ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↳ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↳ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↳ الردود على المخالفين
- ↳ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↳ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↳ القواعد الأصولية الفقهية
- ↳ مسائل فقهية عامة
- ↳ المذهب الحنفي
- ↳ المذهب المالكي
- ↳ المذهب الشافعي
- ↳ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↳ النحو والصرف
- ↳ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↳ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↳ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↳ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↳ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↳ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد