تمهيد في تأثير المعتزلة على الأشاعرة والماتريدية (الحلقة الثالثة)
مرسل: الاثنين نوفمبر 20, 2023 9:51 am
هناك أشخاص مثل الشيخ الأستاذ عبد القاهر البغدادي (429هـ) والمتولي الشافعي (478هـ) والسنوسي (895هـ) كانوا يتعصبون جدا ضد المعتزلة بناء على تأثيرات سياسية ومعلومات غير صحيحة ينقلونها عنهم.
بالنسبة للشيخ عبد القاهر يرتبط هذا ـ حسب ما نرى ـ من الجو السياسي الذي كان يعيش فيه إذ أصدر الخليفة القادر بالله العباسي سنة (408) وثيقة فيها تأييد مذهب الحنابلة العقائدي وتوعد مخالفيهم وخاصة المعتزلة بالقتل والسجن والتعذيب والقهر وغير ذلك وهذا أثر على الشيخ عبد القاهر وعلى من جاء بعده إضافة لاعتماده على كتب ابن الراوندي الملحد في التشنيع على المعتزلة، كما أثر قبل ذلك المتوكل سنة (234هـ) بنفس الطريقة على المنزهة ومحبي العترة المطهرة، فتراكم الغلط على الغلط والتضليل على التضليل عن الحقائق، ووقع الظلم من علماء على علماء آخرين وشوهت صورتهم وافتري عليهم، مثل ما رأينا في هذا العصر حينما طغى الوهابية وبغوا بافترائهم على أصناف من أهل العلم من أشاعرة وصوفية وإمامية وإباضية وغيرهم حتى انتشر بأنهم هؤلاء هم أصناف المعطلة والجهمية والقبورية و..... الخ التهم والشنائع.
وقد تقدَّم معنا في مقالٍ سابق بعنوان (نماذج من النقل الخطأ / والنقل غير الموثق / والاعتماد على قول بعض العلماء دون تحقق وتشويه صورة المخالفين بباطل القول وبالاتهامات والافتراء) أن المتولي الشافعي رمى المعتزلة بأنهم ينكرون عذاب القبر مع أنهم لم ينكروه اتفاقاً، وتبعه على ذلك خلق فقد قال في كتابه (الغنية في أصول الدين) وهو كتاب مطبوع:
[عذاب القبر ومُساءلةُ منكرٍ ونكيرٍ حقٌ ثابتٌ. وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا: لا عذاب في القبر..].
وهذا الكلام مردود وغير صحيح لأن المعتزلة صرحوا في كتبهم بثبوت عذاب القبر، وأقر بذلك علماء الأشاعرة العقلاء الذين يتحققون من ثبوت الأقوال عن أصحابها.
قال القاضي عبد الجبار المعتزلي الشافعي إمام المعتزلة في وقته (المتوفى سنة 415هـ) - أي قبل العلامة المتولي الشافعي – في كتابه (شرح الأصول الخمسة) وهو عمدة المعتزلة ص (730):
[فصل في عذاب القبر: وجملة ذلك أنه لا خلاف فيه بين الأمة، إلا شي يحكى عن ضرار بن عمرو وكان من أصحاب المعتزلة ثم التحق بالمجبرة، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا، ويقول: إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرّون به].
وتبع المتولي على ذلك ابن المنير (ت683هـ) في كتابه "الانتصاف على الكشاف" (1/449): حيث ادَّعى أيضاً بأن المعتزلة ينكرون عذاب القبر فقال هناك:
[هذا كما ترى صريح في اعتقاده ـ أي الزمخشري المعتزلي ـ حصول بعضها قبل يوم القيامة وهو المراد بما يكون في القبر من نعيم وعذاب، ولقد أحسن الزمخشري في مخالفة أصحابه في هذه العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر، وها هو قد اعترف به، والله الموفق].
فالزمخشري رحمه الله يقول بثبوت نعيم القبر وعذابه وصاحبنا ابن المنير يعترف أن الزمخشري يثبته لكن يصر على نفيه عند باقي المعتزلة! وهذا افتراء باطل وتهمة فاسدة!
فأحياناً ـ كما قلنا سابقاً ـ يقول عالم كبير قولاً فيه أخطاء علمية أو فكرية فيتابعه ـ خلق من علماء وطلبة علم وعامة لا قدرة لهم على سبر الأقوال وتمحيصها وإنما التقليد الأعمى ـ على أغلاطه وأخطائه، ومن المعلوم عند العقلاء - وليس عند الأغبياء - أنه مهما بلغت رتبة هذا العالم الكبير فإنه غير معصوم من الوقوع في الغلط والزلل (إلا عند من يدعي العصمة للأولياء ومشايخ الصوفية) سواء في قول ارتآه أو في نسبة قولٍ لفرقةٍ أو مذهبٍ أو طائفةٍ وهي لا تقول بذلك القول، وكما هو معلوم (أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعصوم) الذي لا ينطق عن الهوى.
نعود للشيخ عبد القاهر البغدادي ونقول بأنه ادَّعى كفر أئمة المعتزلة وضلالهم وافترى عليهم في كتابيه (الفرق بين الفرق) و (أصول الدين) أنواعاً من الفرى والتهم وأكد ذلك بادّعائه بأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أشار إلى بطلان الصلاة خلف المعتزلة وعدم قبول شهادتهم!
بيان بطلان من زعم أن الشافعي نص على تكفير المعتزلة القائلين بخلق القرآن وعدم جواز الصلاة خلفهم:
تذكروا قبل هذا كله أن النقول الشنيعة المنقولة عن المعتزلة هي من كتاب (فضائح المعتزلة) المبني على الأكاذيب لابن الراوندي الملحد.
قال الشيخ عبد القاهر في ((الفرق بين الفرق)) ص (358):
[وقد أشار الشافعي إلى بطلان صلاة من صلى خلف مَنْ يقول بخلق القرآن ونفي الرؤية..... وأشار في كتاب القياس إلى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وسائر أهل الأهواء.....]!!
أقول: هذه الإشارات هي مجرَّد أوهام وخيالات قائمة في ذهن الشيخ عبد القاهر البغدادي بسبب وسوسات ابن الراوندي، ولذلك لم ينقل الشيخ عبد القاهر نصاً للإمام الشافعي رحمه الله تعالى أو أقوالاً في هذه الأمور وإنما ذكر أن هناك إشارات!!
ومما يبطل ويدحض ادِّعاءات الشيخ البغدادي أن إمامه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كان من تلاميذ الإمام إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى المعتزلي (وهو من أصحاب الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام)، الذي طعن فيه أصحاب الحديث ورموه بالكذب لكن الإمام الشافعي أثنى عليه وشهد بأنه ثقة لا يتهم، ونقل عنه الدين وأحاديث سيد المرسلين مع أنه كان كما يدعون معتزلياً قدرياً شيعياً! فقد جاء في ترجمة العلامة ابن أبي يحيى المعتزلي في ((تهذيب التهذيب)) (1/137):
[قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان قدرياً معتزلياً جهمياً كل بلاء
فيه،... وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء أهل المدينة عنه فكلهم يقولون كذاب،... وسمعت يحيى يقول: كان فيه ثلاث خصال: كان كذاباً وكان قدرياً وكان رافضياً..... وقال العجلي: كان قدرياً معتزلياً رافضياً وكان من أحفظ الناس وكان قد سمع علماً كثيراً......
وقال البزار:.... وهو من أستاذي الشافعي وعز علينا.....
وقال إسحاق بن راهويه: ما رأيت أحداً يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى مثل الشافعي....
وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: كان إبراهيم بن أبي يحيى قدرياً.... وكان ثقة في الحديث.....].
وفي ((تهذيب)) المِزِّي (2/188) أن الشافعي كان يقول في إبراهيم:
((أخبرني مَنْ لا أَتَّهِم)).
فمن يتخذه الإمام الشافعي شيخاً وإماماً له ويضعه في مكانة التنزيه عن الاتهام ويصرِّح بتوثيقه ويتخذه حجة في رواية الأحكام في أحاديث الرسول الكريم بينه وبين الله عز وجل يستحيل أن يقول ببطلان صلاته أو أن الصلاة خلفه لا تصح كما يدعي المُدَّعون! ويتبين أن تلك الإشارات التي فهمها الشيخ عبد القاهر وأضرابه ما هي إلا خيالات وأوهام من بابة أضغاث الأحلام التي لا عبرة بها ولا التفات إليها!!
لا سيما وقد تواردت أقوال أئمة الشافعية المزهقة لادعاءات الشيخ عبد القاهر وبعض مَنْ يقول بقوله! قال الإمام النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (4/254):
[وقال القفَّال وكثيرون من الأصحاب يجوز الاقتداء بمن يقول بخلق القرآن وغيره من أهل البدع، قال صاحب العدة: هذا هو المذهب، قلت: وهذا هو الصواب، فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ونحوهم ومناكحتهم وموارثتهم وإجراء سائر الأحكام عليهم].
وقوله بأنهم (أهل البدع مردود)!
وهذا كافٍ في نسف الهجوم بالتكفير والتضليل على المعتزلة الذي يقوم به الأشعري وبعض المتعصبين له كالشيخ عبدالقاهر البغدادي!!
وهنا قارنوا ووازنوا بين موقف الإمام الشافعي الذي لم ينقلب ولم يشنع على شيخه (إبراهيم بن أبي يحيى المعتزلي) وبقي يدافع عنه ويصفه بالثقة الذي لا يتهم! وبين موقف الأشعري من شيخه الجبائي الذي درس عنده كما يقال أربعين سنة وأنفق عليه وعلى أمه ولم يرقب فيه إلا ولا ذمة!
هل هكذا يعامل الأبرار من علمهم وأحسن إليهم ؟
هذا تمهيد للدخول في موضوعنا الذي هو تأثير المعتزلة على الأشاعرة المنزهين، ولا علينا من تشنيع بعض الناس عليهم وتشويههم لصورتهم فإنه من جهل شيئاً عاداه!
...... يتبع
__________(تعليقات مفيدة)_____________
قال ابن عقيل في كتاب الفنون أيضا:
استدل بعض أصحاب الحديث علي بآيات الإضلال في كتاب الله.. فأجابه شيخ معتزلي متقدم إليهم بالجانب الغربي يعرف بابن التبان في الكرخ بمجلس عقد ببعض دروبها، فقال: آيات الإضلال مطلقة؛ أعني التي استدللت بها. ولنا آيات مقيدة تقضي عليها.
وحقق فصلاً مليحاً، فقال: قد سمعنا، كما سمعت، آي الإضلال المطلق، وآي الإضلال المقيد. وأنا أتلو بعضها. وسمعنا كما سمعت آي التوبيخ والتعنيف والزجر والتهديد والنهي والذم على من أعرض وضل عن الهدى. ولاشك عندي وعندك في أن كلام الله لا يتناقض. فلابد لي ولك من تخليص أنفسنا عن القول بتناقض كتاب الله بضرب من الجمع بأدلة الجمع. إما أن تكون دلالة الجمع في قوة اللفظ ومعاني الآي، أو في سياقها قبلها أو بعدها، أو تكون بعضها شاهداً لبعض بمعنىً يستخرجه العلم؛ فتوجبه اللغة أو دلالة العقل.
ووجدنا أنه قال- عز وجل: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين}. ثم وصف الفاسقين {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض}. ولو لم تكن شواهد الآية، لكفى العاقل عذراً؛ لأنه سبحانه لما كرر ذكر الإضلال في كتابه، تبين بنفيه الإضلال عن كل أحد إلا من كانت هذه صفته. فثبت أن الإضلال نوع جزاء ومقابلة إلى أن يجيء تبين ما الإضلال. ولا يجوز أن يكون المراد به الإضلال عن الهدى، وهو قد بين أنه أصل الهدى؛ وهو الكتاب الذي سماه نوراً وضياءً وهدى. لم يبق إلا أنهم ضلوا به وفيه. وسماه إضلالاً... هذا لو لم يكن إلا هذه الآية. فكيف وهناك آيات كثيرة، مثل قوله {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}؟
قال في الفنون أيضا:
- جرت مذاكرة بين معتزلي وآخر يدعي مذهب الأشعري
فقال الأشعري: إن الكلام من كمال صفات الحي. والله سبحانه حي، قادر، عالم. فمن كمال الصفة له أن يكون متكلمًا.
اعترض عليه الآخر، فقال: نعم. ولكن المتكلم من كان فاعلاً للكلام المخرج ما في النفس من جميع ما يسنح فيها. ومتى لم يكن قادرًا على إظهار ما في نفسه من سوانحه، وما يعرض له من الشؤون العارضة في النفس، [لم يكن متكلمًا]. والباري قادر على إظهار ما يريده من خلقه بما يفعله من الكلام، فكما القادر منا كذلك. إلا أن الكلام مفعول في أدواتنا من حيث أن دوات الكلام فينا. وذاتنا قابلة للانفعال من الاصطكاك. والباري منزه عن ذلك؛ إذ ليس بجسم. فاختلافنا وإياه من حيث أدوات الكلام. فأما أصل الكلام والغرض به فحاصل في حقه على ما يليق به، وحاصل في حقنا على ما يليق بنا. وصار الكلام، من جهة كونه مخرجًا ومظهرًا ما في النفس، كالإشارة باليد والرمز بالعين. والخط بالكتب. والله سبحانه قادر على إيصال ذلك إلى الأحياء بفعله هذه الأشياء، كما أن الواحد منا قادر على ذلك. فقد ثبت الكلام كمالاً في حقه. ولم يقف على ما يقوله الأشعري من الكلام القائم في النفس الذي لا يحصل به غرض المتكلم في أصل الوضع.
_________________________________
بالنسبة للشيخ عبد القاهر يرتبط هذا ـ حسب ما نرى ـ من الجو السياسي الذي كان يعيش فيه إذ أصدر الخليفة القادر بالله العباسي سنة (408) وثيقة فيها تأييد مذهب الحنابلة العقائدي وتوعد مخالفيهم وخاصة المعتزلة بالقتل والسجن والتعذيب والقهر وغير ذلك وهذا أثر على الشيخ عبد القاهر وعلى من جاء بعده إضافة لاعتماده على كتب ابن الراوندي الملحد في التشنيع على المعتزلة، كما أثر قبل ذلك المتوكل سنة (234هـ) بنفس الطريقة على المنزهة ومحبي العترة المطهرة، فتراكم الغلط على الغلط والتضليل على التضليل عن الحقائق، ووقع الظلم من علماء على علماء آخرين وشوهت صورتهم وافتري عليهم، مثل ما رأينا في هذا العصر حينما طغى الوهابية وبغوا بافترائهم على أصناف من أهل العلم من أشاعرة وصوفية وإمامية وإباضية وغيرهم حتى انتشر بأنهم هؤلاء هم أصناف المعطلة والجهمية والقبورية و..... الخ التهم والشنائع.
وقد تقدَّم معنا في مقالٍ سابق بعنوان (نماذج من النقل الخطأ / والنقل غير الموثق / والاعتماد على قول بعض العلماء دون تحقق وتشويه صورة المخالفين بباطل القول وبالاتهامات والافتراء) أن المتولي الشافعي رمى المعتزلة بأنهم ينكرون عذاب القبر مع أنهم لم ينكروه اتفاقاً، وتبعه على ذلك خلق فقد قال في كتابه (الغنية في أصول الدين) وهو كتاب مطبوع:
[عذاب القبر ومُساءلةُ منكرٍ ونكيرٍ حقٌ ثابتٌ. وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا: لا عذاب في القبر..].
وهذا الكلام مردود وغير صحيح لأن المعتزلة صرحوا في كتبهم بثبوت عذاب القبر، وأقر بذلك علماء الأشاعرة العقلاء الذين يتحققون من ثبوت الأقوال عن أصحابها.
قال القاضي عبد الجبار المعتزلي الشافعي إمام المعتزلة في وقته (المتوفى سنة 415هـ) - أي قبل العلامة المتولي الشافعي – في كتابه (شرح الأصول الخمسة) وهو عمدة المعتزلة ص (730):
[فصل في عذاب القبر: وجملة ذلك أنه لا خلاف فيه بين الأمة، إلا شي يحكى عن ضرار بن عمرو وكان من أصحاب المعتزلة ثم التحق بالمجبرة، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا، ويقول: إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرّون به].
وتبع المتولي على ذلك ابن المنير (ت683هـ) في كتابه "الانتصاف على الكشاف" (1/449): حيث ادَّعى أيضاً بأن المعتزلة ينكرون عذاب القبر فقال هناك:
[هذا كما ترى صريح في اعتقاده ـ أي الزمخشري المعتزلي ـ حصول بعضها قبل يوم القيامة وهو المراد بما يكون في القبر من نعيم وعذاب، ولقد أحسن الزمخشري في مخالفة أصحابه في هذه العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر، وها هو قد اعترف به، والله الموفق].
فالزمخشري رحمه الله يقول بثبوت نعيم القبر وعذابه وصاحبنا ابن المنير يعترف أن الزمخشري يثبته لكن يصر على نفيه عند باقي المعتزلة! وهذا افتراء باطل وتهمة فاسدة!
فأحياناً ـ كما قلنا سابقاً ـ يقول عالم كبير قولاً فيه أخطاء علمية أو فكرية فيتابعه ـ خلق من علماء وطلبة علم وعامة لا قدرة لهم على سبر الأقوال وتمحيصها وإنما التقليد الأعمى ـ على أغلاطه وأخطائه، ومن المعلوم عند العقلاء - وليس عند الأغبياء - أنه مهما بلغت رتبة هذا العالم الكبير فإنه غير معصوم من الوقوع في الغلط والزلل (إلا عند من يدعي العصمة للأولياء ومشايخ الصوفية) سواء في قول ارتآه أو في نسبة قولٍ لفرقةٍ أو مذهبٍ أو طائفةٍ وهي لا تقول بذلك القول، وكما هو معلوم (أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعصوم) الذي لا ينطق عن الهوى.
نعود للشيخ عبد القاهر البغدادي ونقول بأنه ادَّعى كفر أئمة المعتزلة وضلالهم وافترى عليهم في كتابيه (الفرق بين الفرق) و (أصول الدين) أنواعاً من الفرى والتهم وأكد ذلك بادّعائه بأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أشار إلى بطلان الصلاة خلف المعتزلة وعدم قبول شهادتهم!
بيان بطلان من زعم أن الشافعي نص على تكفير المعتزلة القائلين بخلق القرآن وعدم جواز الصلاة خلفهم:
تذكروا قبل هذا كله أن النقول الشنيعة المنقولة عن المعتزلة هي من كتاب (فضائح المعتزلة) المبني على الأكاذيب لابن الراوندي الملحد.
قال الشيخ عبد القاهر في ((الفرق بين الفرق)) ص (358):
[وقد أشار الشافعي إلى بطلان صلاة من صلى خلف مَنْ يقول بخلق القرآن ونفي الرؤية..... وأشار في كتاب القياس إلى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وسائر أهل الأهواء.....]!!
أقول: هذه الإشارات هي مجرَّد أوهام وخيالات قائمة في ذهن الشيخ عبد القاهر البغدادي بسبب وسوسات ابن الراوندي، ولذلك لم ينقل الشيخ عبد القاهر نصاً للإمام الشافعي رحمه الله تعالى أو أقوالاً في هذه الأمور وإنما ذكر أن هناك إشارات!!
ومما يبطل ويدحض ادِّعاءات الشيخ البغدادي أن إمامه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كان من تلاميذ الإمام إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى المعتزلي (وهو من أصحاب الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام)، الذي طعن فيه أصحاب الحديث ورموه بالكذب لكن الإمام الشافعي أثنى عليه وشهد بأنه ثقة لا يتهم، ونقل عنه الدين وأحاديث سيد المرسلين مع أنه كان كما يدعون معتزلياً قدرياً شيعياً! فقد جاء في ترجمة العلامة ابن أبي يحيى المعتزلي في ((تهذيب التهذيب)) (1/137):
[قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان قدرياً معتزلياً جهمياً كل بلاء
فيه،... وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء أهل المدينة عنه فكلهم يقولون كذاب،... وسمعت يحيى يقول: كان فيه ثلاث خصال: كان كذاباً وكان قدرياً وكان رافضياً..... وقال العجلي: كان قدرياً معتزلياً رافضياً وكان من أحفظ الناس وكان قد سمع علماً كثيراً......
وقال البزار:.... وهو من أستاذي الشافعي وعز علينا.....
وقال إسحاق بن راهويه: ما رأيت أحداً يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى مثل الشافعي....
وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: كان إبراهيم بن أبي يحيى قدرياً.... وكان ثقة في الحديث.....].
وفي ((تهذيب)) المِزِّي (2/188) أن الشافعي كان يقول في إبراهيم:
((أخبرني مَنْ لا أَتَّهِم)).
فمن يتخذه الإمام الشافعي شيخاً وإماماً له ويضعه في مكانة التنزيه عن الاتهام ويصرِّح بتوثيقه ويتخذه حجة في رواية الأحكام في أحاديث الرسول الكريم بينه وبين الله عز وجل يستحيل أن يقول ببطلان صلاته أو أن الصلاة خلفه لا تصح كما يدعي المُدَّعون! ويتبين أن تلك الإشارات التي فهمها الشيخ عبد القاهر وأضرابه ما هي إلا خيالات وأوهام من بابة أضغاث الأحلام التي لا عبرة بها ولا التفات إليها!!
لا سيما وقد تواردت أقوال أئمة الشافعية المزهقة لادعاءات الشيخ عبد القاهر وبعض مَنْ يقول بقوله! قال الإمام النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (4/254):
[وقال القفَّال وكثيرون من الأصحاب يجوز الاقتداء بمن يقول بخلق القرآن وغيره من أهل البدع، قال صاحب العدة: هذا هو المذهب، قلت: وهذا هو الصواب، فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ونحوهم ومناكحتهم وموارثتهم وإجراء سائر الأحكام عليهم].
وقوله بأنهم (أهل البدع مردود)!
وهذا كافٍ في نسف الهجوم بالتكفير والتضليل على المعتزلة الذي يقوم به الأشعري وبعض المتعصبين له كالشيخ عبدالقاهر البغدادي!!
وهنا قارنوا ووازنوا بين موقف الإمام الشافعي الذي لم ينقلب ولم يشنع على شيخه (إبراهيم بن أبي يحيى المعتزلي) وبقي يدافع عنه ويصفه بالثقة الذي لا يتهم! وبين موقف الأشعري من شيخه الجبائي الذي درس عنده كما يقال أربعين سنة وأنفق عليه وعلى أمه ولم يرقب فيه إلا ولا ذمة!
هل هكذا يعامل الأبرار من علمهم وأحسن إليهم ؟
هذا تمهيد للدخول في موضوعنا الذي هو تأثير المعتزلة على الأشاعرة المنزهين، ولا علينا من تشنيع بعض الناس عليهم وتشويههم لصورتهم فإنه من جهل شيئاً عاداه!
...... يتبع
__________(تعليقات مفيدة)_____________
قال ابن عقيل في كتاب الفنون أيضا:
استدل بعض أصحاب الحديث علي بآيات الإضلال في كتاب الله.. فأجابه شيخ معتزلي متقدم إليهم بالجانب الغربي يعرف بابن التبان في الكرخ بمجلس عقد ببعض دروبها، فقال: آيات الإضلال مطلقة؛ أعني التي استدللت بها. ولنا آيات مقيدة تقضي عليها.
وحقق فصلاً مليحاً، فقال: قد سمعنا، كما سمعت، آي الإضلال المطلق، وآي الإضلال المقيد. وأنا أتلو بعضها. وسمعنا كما سمعت آي التوبيخ والتعنيف والزجر والتهديد والنهي والذم على من أعرض وضل عن الهدى. ولاشك عندي وعندك في أن كلام الله لا يتناقض. فلابد لي ولك من تخليص أنفسنا عن القول بتناقض كتاب الله بضرب من الجمع بأدلة الجمع. إما أن تكون دلالة الجمع في قوة اللفظ ومعاني الآي، أو في سياقها قبلها أو بعدها، أو تكون بعضها شاهداً لبعض بمعنىً يستخرجه العلم؛ فتوجبه اللغة أو دلالة العقل.
ووجدنا أنه قال- عز وجل: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين}. ثم وصف الفاسقين {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض}. ولو لم تكن شواهد الآية، لكفى العاقل عذراً؛ لأنه سبحانه لما كرر ذكر الإضلال في كتابه، تبين بنفيه الإضلال عن كل أحد إلا من كانت هذه صفته. فثبت أن الإضلال نوع جزاء ومقابلة إلى أن يجيء تبين ما الإضلال. ولا يجوز أن يكون المراد به الإضلال عن الهدى، وهو قد بين أنه أصل الهدى؛ وهو الكتاب الذي سماه نوراً وضياءً وهدى. لم يبق إلا أنهم ضلوا به وفيه. وسماه إضلالاً... هذا لو لم يكن إلا هذه الآية. فكيف وهناك آيات كثيرة، مثل قوله {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}؟
قال في الفنون أيضا:
- جرت مذاكرة بين معتزلي وآخر يدعي مذهب الأشعري
فقال الأشعري: إن الكلام من كمال صفات الحي. والله سبحانه حي، قادر، عالم. فمن كمال الصفة له أن يكون متكلمًا.
اعترض عليه الآخر، فقال: نعم. ولكن المتكلم من كان فاعلاً للكلام المخرج ما في النفس من جميع ما يسنح فيها. ومتى لم يكن قادرًا على إظهار ما في نفسه من سوانحه، وما يعرض له من الشؤون العارضة في النفس، [لم يكن متكلمًا]. والباري قادر على إظهار ما يريده من خلقه بما يفعله من الكلام، فكما القادر منا كذلك. إلا أن الكلام مفعول في أدواتنا من حيث أن دوات الكلام فينا. وذاتنا قابلة للانفعال من الاصطكاك. والباري منزه عن ذلك؛ إذ ليس بجسم. فاختلافنا وإياه من حيث أدوات الكلام. فأما أصل الكلام والغرض به فحاصل في حقه على ما يليق به، وحاصل في حقنا على ما يليق بنا. وصار الكلام، من جهة كونه مخرجًا ومظهرًا ما في النفس، كالإشارة باليد والرمز بالعين. والخط بالكتب. والله سبحانه قادر على إيصال ذلك إلى الأحياء بفعله هذه الأشياء، كما أن الواحد منا قادر على ذلك. فقد ثبت الكلام كمالاً في حقه. ولم يقف على ما يقوله الأشعري من الكلام القائم في النفس الذي لا يحصل به غرض المتكلم في أصل الوضع.
_________________________________