متن العقيدة والتوحيد/ الأدلة المعتبرة في الإيمان والعقائد: الحلقة الثالثة:(بيان أسباب رد التفويض):

القواعد والأصول العقائدية
أضف رد جديد
عود الخيزران
مشاركات: 943
اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm

متن العقيدة والتوحيد/ الأدلة المعتبرة في الإيمان والعقائد: الحلقة الثالثة:(بيان أسباب رد التفويض):

مشاركة بواسطة عود الخيزران »

الأدلة المعتبرة في الإيمان والعقائد: الحلقة الثالثة:(بيان أسباب رد التفويض):

قال سماحة السيد المحدّث حسن السقاف في كتابه"متن العقيدة والتوحيد":

وملخص الأمر أن التفويض مردود للأسباب التالية:

١ - القول بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله تعالى فقط، معناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم تأويله ولا تأويل أحاديث الصفات التي نطق بها بلغة العرب! وهذا غير صحيح ولا معقول ! لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النساء : ٨٤. وقال تعالى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ٤٤. وهذا البيان مطلق ولم يَخُصَّ البيان بالمحكم دون المتشابه. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} وقد ثبت أن النبي | دعا لابن عباس فقال : (اللهم فقهه في الدين وعَلَّمْهُ التأويل ) ، وقد أول ابن عباس الآيات المتعلقة بالصفات كما هو معلوم وكذلك العلماء والمفسرون.

٢- لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ولا يفهمون معنى المتشابهات لاستووا مع بقية المؤمنين من غير الراسخين في العلم ممن لا يعلم تأويله، ولقال الله تعالى: (والذين آمنوا يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) لأنهم لا يتميزون في هذه المسألة حينئذ عن بقية المؤمنين من العامة وأشباههم. مع أن الله تعالى يقول: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾ آل عمران: ۱۸، وأمر برد النصوص إليهم.

3- أثنى الله تعالى في كتابه العزيز على التأويل ولم يُثْنِ على التفويض فقال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ يوسف : ٦ ، والأحاديث هنا هي : الكتب المنزلة لقوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) الزمر : ٢٣ . وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يوسف: ۲۱ ، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ النساء:٥٩، ودعا النبي | لسيدنا ابن عباس كما في الحديث الصحيح: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ولم يقل (وعلمه التفويض ) أو (واهده للتفويض )! فنصوص الشرع شاهدة للتأويل ووجوب فهم النصوص.

4- أن الصحابة والمفسرين فسروا جميع القرآن من أوله إلى آخره بما في ذلك آيات الصفات وغيرها حتى آيات الاستواء، وأول ابن عباس النسيان بالترك وغير ذلك .. قال أبو منصور الماتريدي ( ت ۳۳۳هـ) في تفسيره "تأويلات أهل السنة" ( ١ / ٤١١): [(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، مع ما له وجهان: أحدهما: أن يكون معنى العرش الملك والاستواء التام الذي لا يوصف بنقصان في ملك، أو الاستيلاء عليه، وألا سلطان لغيره، ولا تدبير لأحد فيه]. قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك (ت ۲۳۷ هـ) في كتابه "غريب القرآن وتفسيره" ص (٢٤٣) عالم الكتب / الأولى / ١٩٨٥ م ص (٢٤٣) ما نصه : [الرحمن على العرش استوى استوى استولى]. وقال الإمام أبو إسحاق الزجاج اللغوي النحوي (٢٤١-٣١١ هـ) في كتابه "معاني القرآن" (۳/ ٣٥٠) : [ وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى .... وقالوا معنى (استوى ) استولى والله أعلم. وقال الإمام الجصاص الحنفي (ت ٣٧٠هـ) في تفسيره "أحكام القرآن" (۳/ ۲۸۷): قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قَالَ الْحَسَنُ : اسْتَوَى بِلُطْفِهِ وَتَدْبِيرِهِ". وَقِيلَ : اسْتَوْلَى]. وقال الإمام المفسر نصر بن محمد السمرقندي الحنفي (۳۳۳-۳۷۳هـ) في تفسيره "بحر العلوم" (۳۹۰/۲): [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي : استولى حكمه ونفذ ]. وكذلك قال ابن فورك (٤٠٣ هـ) في "مشكل الحديث" ص (۳۸۹)، وعبد القاهر البغدادي (٤٢٩هـ ) في أصول الدين" ص (۱۱۳) ، والإمام الماوردي ( ٤٥٠هـ) في تفسيره (۲۲۹/۲)، والقشيري في تفسيره "لطائف الإشارات" ( ٢ / ٦٤٦) ، والإمام أبو الحسن الواحدي النيسابوري الشافعي ( ت ٤٦٨ هـ) في تفسيره "الوجيز" ص (٦۹۱). والإمام المتولي الشافعي الأشعري (٤٧٨ هـ) في كتابه "الغنية في الاعتقاد" ص (۷۷-۷۹)، وإمام الحرمين عبد الملك الجويني (٤۱۹ - ٤٧٨ هـ) في كتابه "الإرشاد" ص (٣٩-٤١) من الطبعة المصرية، والإمام الغزالي رحمه الله تعالى ( ٤٥٠ - ٥٠٥هـ ) في "الإحياء" في كتاب "قواعد العقائد" (۱/ ۱۰۸) حيث قال : [ وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء]. والإمام المفسر ابن عطية الأندلسي المالكي ( ٤٨١ - ٥٤٢ هـ ) في تفسيره "المحرر الوجيز" ( ١ / ١١٥). والفخر الرازي ( ت ٦٠٦ هـ) في "أساس التقديس" ص (٢٦٠ ) من طبعتنا التي بتحقيقنا. وغيرهم كثير وكثير.

ه - الأصل أن القرآن الكريم نزل باللغة العربية أي بلسان عربي مبين وهذا يقتضي أنه مفهوم واضح وخاصة عند الراسخين في العلم، وهو رسالة من الرب إلى عباده فعلينا أن نفهمه ونتدبره إذ لم يخاطبنا الله تعالى بما لا يُفهم، قال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ ) ص: ۲۹ ، وقال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا سورة سيدنا محمد: ٢٤، وقال تعالى : ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ القيامة: ١٩ ، والبيان هو التفسير، فآياته تبين بعضها بعضاً. قال الغزالي في "المستصفى" (١٠٦/١) : [ إِذْ الظَّاهِرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخَاطِبُ الْعَرَبَ بِمَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ]. وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ النساء : ٨٢، وقال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنتُمْ تعملون النمل : ٨٤، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمَّا وَعُمْيَانًا الفرقان: ۷۳ ، والتفويض مخالف لهذا الأصل وهو وجوب معرفة معنى الآيات وخاصة في حق الراسخين من أهل العلم.

فتعقيد الأمور بجعل معنى الآيات ألغازاً غير مفهومة المعنى، وتصعيبها الأمر وادعاء أن السلف لم يؤوّلوا تلك النصوص ادعاء باطل، فمعنى قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى طه: ٥ أي الله تعالى هو المدبر والقاهر والمهيمن على هذا الخلق والكون، ومعنى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص : ٧٥ أي ما خلقته أنا ولم يخلقه غيري، بدليل قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران: ٥٩، وقوله تعالى أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَنَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله الزمر : ٥٦ أي : في حق الله تعالى وأوامره، وادعاء أنها غير مفهومة المعنى مخالف لهذا الأصل الواضح الذي هو كونها بلسان عربي مبين.

٦ - أن الله تعالى أمر المؤمنين أن يردُّوا ما لا يعلمونه إلى أهل العلم الراسخين من أهل الاستنباط فقال سبحانه : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الأنبياء : ٧، وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) ثم قال : ﴿ .. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ النساء : ۸۲-۸۳، فلماذا أمر الله تعالى بسؤال أهل العلم

والاستنباط إذا عجز الإنسان العادي عن فهم نص ما ؟!

7- القول بالتفويض يفضي إلى القول بالظاهر، وهو يؤدي إلى إضلال العوام وطلبة العلم عن معاني الآيات وإدخالهم في التشبيه والتجسيم أو في الحيرة والتيه، فالذي يذكر آيات الاستواء والصعود مثل : بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ويثبت الله تعالى وجها وعينين ويدين وكفاً وأصابع وساقاً وقَدَماً وصورة وضحكا وعجبا وغير ذلك – وإن قال بلا كيف وبلا تشبيه ولا تجسيم ولا تمثيل - يطبع في أذهان الناس صورة وشكلاً للرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ الأنعام: ١٠٠، ولذلك قال إمام الحرمين في "الإرشاد" ص (٤٢) من الطبعة المصرية / مكتبة الخانجي : [ والإعراض عن التأويل حذاراً من مواقعة محذور في الاعتقاد يجر إلى اللبس والإيهام، واستزلال العوام، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون]. وقال الإمام الغزالي أيضاً في كتابه "روضة الطالبين وعمدة السالكين" ص (۱۳۰) ما نصه : [ واعلم أن الإعراض عن تأويل المتشابه خوفاً من الوقوع في محظور من الاعتقاد يجر إلى الشك والإيهام، واستزلال العوام، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين، وتعريض بعض آيات كتاب الله العزيز إلى رجم الظنون ....


8- أن القائلين بالتفويض أثبتوا من نحو قوله تعالى: تجري بأعيننا (صفة العين ) أو (العينين) مثلاً، مع أن نص الآية ليس فيه ذكر للفظ (الصفة ) ، وهم يقولون أمروها كما جاءت ) أو ( تفسيرها قراءتها ) وقد زادوا عليها ما لم يرد! فنقضوا أصلهم وخالفوا الكتاب الكريم.

9- إن القائلين بأن الآيات المتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى استثنوا فقط آيات الصفات من المتشابهات وفسروا وأولوا الآيات المتشابهات الأخرى دون آيات الصفات ! ( فالقُرْء) مثلاً اجتهدوا في معناه فبعضهم فسره بالظهر وبعضهم بالحيض، فكيف خصصوا آيات دون آيات ؟! ثم تفلسف المتأخرون القائلون بتصحيح مذهب التفويض فقالوا بأن التفويض تأويل إجمالي ! وادعوا أن السلف كانوا يصرفون آيات الصفات عن ظاهرها، وقولهم هذا غير صحيح بل هو تقليد منهم لبعض العلماء الذين لم يعوا القضية ولم يعرفوا حقيقية مذهب من قال (أمروها كما جاءت)! لأن القائلين بعبارة (أمروها كما جاءت ) يقصدون بها الإيمان بظاهر النصوص ! قال الذهبي في "العلو" ص ( ٤٩١ ) عند ذكر ابن أبي عاصم ) .. - ۲۸۷ هـ ) : [ قال الحافظ الإمام قاضي أصبهان وصاحب التصانيف أبو بكر أحمد بن عمرو ابن أبي عاصم الشيباني جميع ما في كتابنا كتاب السنة الكبير الذي فيه الأبواب من الأخبار التي ذكرنا أنها توجب العلم فنحن نؤمن بها لصحتها وعدالة ناقليها، ويجب التسليم لها على ظاهرها وترك تكلف الكلام في كيفيتها. فذكر من ذلك النزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش.

وقال البيهقي في "الأسماء والصفات" ص (٤٥٣ ) عند الكلام على حديث النزول : [ قال أبو سليمان الخطابي : هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان مذهب السلف فيها الإيمان بها وإجراءها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها ، فكيف تجرى على ظاهرها مع نفي الكيفية ؟! وفي المقابل يقول الحافظ ابن حجر في "الفتح" (۳۰/۳) عند شرح حديث النزول : [ وقد اختلف في معنى النزول على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم]. فأين هذا مما قاله البيهقي ونقله عن الخطابي من إجرائها على ظاهرها ؟! قال ابن الجوزي الحنبلي رحمه الله تعالى ( ٥١٠-٥٩٧هـ) راداً على من يقول بظاهر النصوص وهو يصف مجسمة الحنابلة في "دفع شبه التشبيه" ص (۱۰۰) ما نصه : [ وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة الله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل، حتى قالوا صفة ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف، وساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن، ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام.. فلو أنكم قلتم : نقرأ الأحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم أحد، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح .. فقد ابتدع من سمى المضاف صفة .. قالوا : إن هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم قالوا: نحملها على ظواهرها، فواعجبا!! ما لا يعلمه إلا الله أي ظاهر له ..؟! فهل ظاهر الاستواء إلا القعود، وظاهر النزول إلا الانتقال ؟! ..] . وقال الإمام النووي (٦٧٦ هـ) رحمه الله تعالى في شرح مسلم" (٢٤/٥): [قال القاضي عياض (٤٧٦ - ٥٤٤هـ): لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى ﴿ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ، ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم ..]. ونجد الحافظ ابن جرير ( ۳۱۰هـ) في تفسيره ينقل عن الصحابة والسلف الأولين تأويل كثير من آيات الصفات وعدم إجرائها على ظاهرها.

وهناك وجوه كثيرة يتبين منها فساد مذهب التفويض لا يتسع المقام الآن لبسطها وفيما ذكرناه كفاية. ولنا رسالة في ذلك سميناها "التفنيد لمذهب التفويض" وهي جزء من شرحنا على الجوهرة فليراجعها من شاء التوسع.

ويجب عرض الأحاديث بعد دراسة أسانيدها على القرآن حتى نتبين صحتها (1) فإن وجد في بعضها من الأفكار ما يخالف القرآن رُدَّ وإن صح إسناده وكان في الصحاح (٢) ، هكذا كان منهج الصحابة الذين تلقوا عن رسول الله له حينما يسمعون حديثاً يخالف القرآن، ومن ذلك رد السيدة عائشة رضي الله عنها على من زعم أن النبي رأى ربه بقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الأنعام: ١٠٣، وردها على من زعم أن الميت يُعَذِّبُ ببكاء أهله عليه بقوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) الإسراء: ١٥، وكل ذلك مروي في الصحيحين، فأول ما حَدَثَ من علوم نقد الحديث كان في زمن الصحابة حيث نُقدَت المتون قبل نقد الأسانيد. وكان المتقدمون يردّون الحديث لأقل علة وعكس المتأخرون القضية فصاروا يتمحلون ويتكلفون في الجمع المتكلف بين الأحاديث المتعارضة أو المعارضة لما جاء في القرآن الكريم.

ومعنى هذا أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم، فلا يبنى عليه أصل الاعتقاد، وإنما تبنى عليه الفروع العقائدية كمسألة خلق الملائكة من نور وأغلب الأحكام الفقهية (3) إذا لم يوجد ما يعارضه من الكتاب أو من السنة التي هي أقوى منه ، فالصحابة ردوا خبر الواحد أحيانا وذلك في حالة معارضته لما هو أقوى منه، وهذا أفاد أنهم اعتقدوا بأنه يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولم يتكلفوا الجمع بين النصوص وخاصة الجمع المتكلف البعيد الذي نعتبره جمعاً ضعيفاً وربما هزيلاً خرافيا والذي يسلكه بعض الشراح والمشايخ الذين يؤولون حتى الموضوعات كابن فُورَك في كتابه "مشكل الحديث وبيانه"، وكالشراح الذين جمعوا بين حديث : (لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ) رواه البخاري (٦٤٦٧) ومسلم بمعناه (٢٨١٦)، مع قوله تعالى: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ الأعراف:٤٣، وقوله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ النحل : ٣٢ .

وتنبه هنا على الطريقة الصحيحة في التفكير السليم وهو : أنه إذا أراد الإنسان المسلم أن يبحث في أي قضية فعليه أن يتوجه عقله وتفكيره أولاً الى القرآن ويستقرىء ما فيه مما يتعلق بتلك القضية، ثم ينتقل الى السنة ويبحث فيها، ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض الناس هو أنهم يذهبون أولاً للأحاديث والسنة فيقولون في هذه المسألة حديث كذا قبل أن يذهبوا إلى القرآن أو لا يذهبون إلى القرآن بالكلية ويغفلون عما ورد فيه مما قد يخالف الحديث الذي أوردوه ! فيجب تصحيح التفكير ليصبح بهذه الطريقة !

[قاعدة مهمة ]: وقضية (أمروها كما جاءت ) و ( تفسيرها قراءتها قضية مردودة عندنا (4) لأنها تحض على عدم العلم بمعاني النصوص وهو خلاف المطلوب عقلاً ونقلاً، كما ادى ذلك إلى الاعتراف بما في الكتب القديمة (الإسرائيليات ) وبما لا نراه ثابتاً، كما يقتضي الإيمان بظواهر بعض النصوص وهذا يؤدي إلى مذهب التشبيه والتجسيم أعاذنا الله تعالى من ذلك. وسيأتي بيان بطلان من يغالط بقوله : (لا) نصف الله إلا بما وصف به نفسه) عند الكلام على الصفات.

واللسان العربي وخاصة لسان قريش هو الأصل والضابط في فهم الكتاب والسنة لقوله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيَّ مبين الشعراء :١٩٥ ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يوسف: ٢، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الزخرف:٣. والكلمات إنما يفهم معناها فيما استعملته العرب في خطابها من خلال أشعارها ونثرها، لا أن يُخْرِجَ إنسان معنى الكلمة من القاموس ويحللها بفهم سقيم يتراءى له، ويأتي بمعنى غريب لا يعرفه أهل اللسان العربي، وقد أُقْحِمَت في كتب اللغة معانٍ شرعية لبعض كلمات لا تعرف عند أهل اللسان العربي، فينبغي التنبه لذلك وعدم الاغترار به.

الحواشي السفلية:

1) ثبت عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما عن سيدنا رسول الله له أنه قال: «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه وهو حديث صحيح . رواه أحمد (٣/ ٤٩٧ و ٥ / ٤٢٥) ، وابن سعد في الطبقات" (۱/ ۳۸۷)، وابن حبان في صحيحه ( ١ / ٢٦٤)، والبزار (كشف الأستار ١ / ١٠٥) وغيرهم ورجاله رجال البخاري ومسلم إلا عبد الملك بن سعيد فإنه من رجال مسلم وهو ثقة. قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد" ( ١ / ١٥٠ ) : [ رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح]. ومن العجيب الغريب أن هذا الحديث صححه متناقض عصرنا الألباني في صحيحته (۲۳۱/۲ / ۷۳۲) وقال: إنه على شرط مسلم. وتجد ذلك أيضاً في التعليق على صحيح ابن حبان" ( ١ / ٢٦٤) و "سير أعلام النبلاء" (٤٣٨/٧ ) ، وصححه أيضا الشيخ شعيب في تعليقه على "مشكل الآثار" (٣٤٤/١٥).

2) تقدم أن السيدة عائشة ردت حديث تعذيب الميت ببكاء أهله وحديث أن النبي الله رأى ربه ليلة الإسراء وحديث يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار، وأنكر أبو هريرة حديث لا عدوى) بعد أن رواه كما في الصحيحين، والأمثلة على ذلك كثيرة. قال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه" عند حديث الأضراس ص (۱۸۳): [فالأضراس ما وجهها ؟!! والله لو رويت في الصحيحين وجب ردها، فكيف وما ثبت أصلاً ؟! وقد روى أحمد: لو أن الناس اعتزلوهم يعني الأمراء فقال: اضرب على هذا، وهذا الحديث في الصحيحين فكيف بحديث لا يثبت يخالف المنقول والمعقول ؟!]. وكذلك ما رواه البخاري (٤۹۷۷) مبهما من كون المعوذتين ليستا من كتاب الله تعالى حكم الإمام النووي رحمه الله تعالى ببطلانه فقال في "شرح المهذب" (٣٩٦/٣) : [ أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن، وأن من جحد شيئاً منه كفر، وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه، قال ابن حزم في أوّل كتابه المحلى هذا كذب على ابن مسعود موضوع وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عن ابن مسعود وفيها الفاتحة والمعوذتان. وكذلك قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره (۲۲۳/۱) ونقله عنه الحافظ في "الفتح" (٧٤٣/٨). وقال الفخر الرازي في "أساس التقديس" ص (۱۷۰): [ وأما البخاري ومسلم فهما ما كانا عالمين بالغيوب، بل اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهما، فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول الله إلى زماننا فذلك لا يقوله عاقل، غاية ما في الباب أنا نحسن الظن بهما وبالذين رويا عنهم، إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملاً على منكر لا يمكن إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قطعنا بأنه من أوضاع الملاحدة، ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين]. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (١٣ / ٧٥١٧/٤٨٣) في شرحه على كتاب التوحيد أثناء شرح حديث شريك بن أبي نمر في الإسراء: [قال الخطابي: ليس في هذا الكتاب يعني صحيح البخاري حديث أشنع ظاهراً ولا أشنع مذاقاً من هذا الفصل، فإنه يقتضي تحديد المسافة ..]. وهذا غيض من فيض.

3) وبعض الأحكام الفقهية ثبتت بالقطع لا بالظن، مثل كون الصبح ركعتين والظهر أربع ركعات والركعة الواحدة فيها ركوع واحد وسجدتين وأمور من أسس الصيام والعبادات والحلال والحرام ثبتت بالتواتر والقطع. وقد يلحق بمثل هذا أن الشهادة في الزنا تحتاج الأربعة شهداء.

4) قال الحافظ أبو حيان الأندلسي الغرناطي (٦٥٤-٧٤٥هـ ) رحمه الله تعالى في تفسيره البحر المحيط" (٣١٦/٤ طبعة دار الفكر): [ وقال قوم منهم القاضي أبوبكر بن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة الله تعالى من غير تشبيه ولا تحديد، وقال قوم منهم الشعبي وابن المسيب والثوري نؤمن بها ونقر كما نصت ولا نُعيّن تفسيرها ولا يسبق النظر فيه. وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب]. فتأمل !! وهذا مما يكتب بالذهب.
أضف رد جديد

العودة إلى ”القواعد والأصول العقائدية“