صفحة 1 من 1

تأثر الأشاعرة وخاصة الشافعية بالمعتزلة واستفادتهم منهم -2-

مرسل: الاثنين نوفمبر 20, 2023 10:07 am
بواسطة cisayman3
وتكملة لما سبق أقول في تأثير المعتزلة على المعتدلين المنزهين من الأشاعرة:
لقد بينت ما سبق من هذه الأمور لا لأقول لكم بأنه ينبغي أو يجب عليكم أن تصبحوا معتزلة ـ مع أن ذلك ليس منقصة ولا عيباً مستشنعاً ـ وإنما لتعرفوا الحقيقة وتعرفوا عدوكم من صديقكم ولئلا تميلوا مع الحنابلة وتقفوا في صفهم ضد العترة والمعتزلة وأنتم تعلمون أو لا تعلمون، فتكونون بالنتيجة مع التشبيه ضد التنزيه حقيقة، في صف النواصب ضد أهل بيت سيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
فكم حدث في سابق الأزمان ورأينا في هذا العصر والأوان من تزلف للحنابلة وقلب ثوبه وكان يظهر أنه منكر عليهم وهو ضدهم فإذا هو يدرس في جامعاتهم وينافق لهم ويتقرّب إليهم بمؤلفات توافقهم
مع أنني ـ كما تعلمون ـ لا أحب الطريقة الفلسفية الكلامية المنطقية في عرض مسائل التوحيد التي سلكها أغلب المعتزلة والأشاعرة وغيرهم وإنا أحب سلوك الطريقة السهلة المبسطة الواضحة المقرونة بالأدلة الشرعية من الكتاب العزيز والسنة المشرفة المطهرة بعيداً عن التعقيدات الكلامية والعبارات المغلقة والهرطقات.
وعودا لموضوعنا أقول: كان جماعة من أئمة الشافعية الأشاعرة يقرأون في كتب المعتزلة ويستحسنون ما فيها قبل إمام الحرمين وحاول من جاء بعدهم أن يتعذروا لهم وعنهم بحجج واهية ظاهرة الفساد، وإليك ذلك ثم نناقشه وننبه على ما فيه:
جاء في ترجمة الإمام القفال وهو كما وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/285):
[القفال الشاشي الامام العلامة، الفقيه الاصولي اللغوي، عالم خراسان، أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل بن الشاشي الشافعي القفال الكبير، إمام وقته بما وراء النهر، وصاحب التصانيف. قال الحاكم: كان أعلم أهل ما وراء النهر بالاصول، وأكثرهم رحلة في طلب الحديث.. وقال الحليمي: كان شيخنا القفال أعلم من لقيته من علماء عصره.
قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: قدسه من وجه، ودنسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال.
قلت: قد مر موته، والكمال عزيز، وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها. وقد يغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق ولا قوة إلا بالله].
لاحظ قوله: (ولعله رجع عنها)! يتمنون رجوعه! ويحاولون كما سيأتي نسج قصص في ذلك ليس لها إسناد يصح! ولا شك أن القفال وغيره من أئمة الأشاعرة استفادوا من المعتزلة كما استفاد ابن عقيل وابن الجوزي ولم يسبروا على سكة الحنابلة العوجاء.
انتبه هنا أن القفال الشاشي هو إمام طريقة الخراسانيين في المذهب الشافعي وقد وافق المعتزلة حتى رموه بالاعتزال، كما أن الإمام الماوردي إمام طريقة العراقيين أيضاً وافق المعتزلة أيضاً كما سيأتي فيما بعد، والحليمي شيخ البيهقي وتلميذ القفال استفاد منه البيهقي في التنزيه في الأسماء والصفات وشعب الإيمان، لأن الحليمي كان منزهاً صرفاً من تأثير شيخه الإمام القفال.
وقد جاء في ترجمة القفال في طبقات الشافعية الكبرى (3/130) ما يفيد ويكشف حقيقة الأمر حيث قال هناك:
[محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير الشاشى. الإمام الجليل أحد أئمة الدهر ذو الباع الواسع فى العلوم واليد الباسطة والجلالة التامة والعظمة الوافرة، كان إماما فى التفسير، إماما فى الحديث، إماما فى الكلام، إماما فى الأصول، إماما فى الفروع، إماما فى الزهد والورع، إماما فى اللغة والشعر، ذاكرا للعلوم محققا لما يورده حسن التصرف فيما عنده فردا من أفراد الزمان...
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: بلغنى أنه كان مائلا عن الاعتدال قائلا بالاعتزال فى أول مرة ثم رجع إلى مذهب الأشعرى. قلت وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة عظيمة وحسيكة فى الصدر جسيمة وذلك أن مذاهب تحكى عن هذا الإمام فى الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة وطالما وقع البحث فى ذلك حتى توهم أنه معتزلى واستند المتوهم إلى ما نقل أن أبا الحسن الصفار قال: سمعت أبا سهل الصعلوكى وسئل عن تفسير الإمام أبى بكر القفال فقال قدسه من وجه ودنسه من وجه أى دنسه من جهة نصرة مذهب الاعتزال. قلت وقد انكشفت الكربة بما حكاه ابن عساكر وتبين لنا بها أن ما كان من هذا القبيل كقوله يجب العمل بالقياس عقلا وبخبر الواحد عقلا وأنحاء ذلك فالذى نراه أنه لما ذهب إليه كان على ذلك المذهب فلما رجع لا بد أن يكون قد رجع عنه فاضبط هذا.
وقد كنت أغتبط بكلام رأيته للقاضى أبى بكر فى التقريب والإرشاد وللأستاذ أبى إسحاق الإسفراينى فى تعليقه فى أصول الفقه فى مسألة شكر المنعم وهو أنهما لما حكيا القول بالوجوب عقلا عن بعض فقهاء الشافعية من الأشعرية قالا: اعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا فى الفقه ولم يكن لهم قدم راسخ فى الكلام وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلا فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدى إليه هذه المقالة من قبيح المذهب....
وفى شرح الرسالة للشيخ أبى محمد الجوينى أن أصحابنا اعتذروا عن القفال نفسه حيث أوجب شكر المنعم بأنه لم يكن مندوبا فى الكلام وأصوله.
قلت: وهذا عندى غير مقبول لما ذكرت.
وقد ذكر الشيخ أبو محمد بعد ذلك فى هذا الكتاب أن القفال أخذ علم الكلام عن الأشعرى وأن الأشعرى كان يقرأ عليه الفقه كما كان هو يقرأ عليه الكلام. وهذه الحكاية كما تدل على معرفته بعلم الكلام وذلك لا شك فيه كذلك تدل على أنه أشعرى وكأنه لما رجع عن الاعتزال وأخذ فى تلقى علم الكلام عن الأشعري فقرأ عليه على كبر السن لعلى رتبة الأشعرى ورسوخ قدمه فى الكلام وقراءة الأشعرى الفقه عليه تدل على علو مرتبته أعنى مرتبة القفال وقت قراءته على الأشعرى وأنه كان بحيث يحمل عنه العلم.
قال الشيخ أبو إسحاق مات القفال سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
قال ابن الصلاح: وهو وهم قطعا.
قلت أرخ الحاكم أبو عبد الله وفاته فى آخر سنة خمس وستين وثلاثمائة بالشاش وهو الصواب، ومولده فيما ذكره ابن السمعانى سنة إحدى وتسعين ومائتين فيكون عمره حين توفى ابن سريج سبع سنين ويكون قد جاوز العشرين يوم موت الأشعرى بسنوات على الخلاف فى وفاة الأشعرى].
وفي هذا الكلام فوائد وملاحظات:
1- أن موافقة القفال للمعتزلة ثابتة في تفسيره. وهم يحاولون أن يقولون لعله تاب كما قال الذهبي، او كما قال ابن عساكر بلغني أنه رجع. وكل ذلك تمن وحكايات مصدرها بلغني بلا سند فلا تثبت أمور الرجوع بمثل هذا المحاولات، وكان هذا جعل لدى السبكي ضائقة انفرجت بمثل هذه البلاغات والحكايات الباطلة.
2- قوله (وقد كنت أغتبط بكلام رأيته للقاضى أبى بكر فى التقريب والإرشاد وللأستاذ أبى إسحاق الإسفراينى فى تعليقه فى أصول الفقه فى مسألة شكر المنعم وهو أنهما لما حكيا القول بالوجوب عقلا عن بعض فقهاء الشافعية من الأشعرية قالا اعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا فى الفقه ولم يكن لهم قدم راسخ فى الكلام وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلا فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدى إليه هذه المقالة من قبيح المذهب).
فيه إثبات التالي:
- أن بعض كبار فقهاء الشافعية الأشاعرة قالوا بوجوب شكر المنعم عقلاً موافقة منهم للمعتزلة.
- أن كبار الأشاعرة هؤلاء طالعوا كتب المعتزلة فتأثروا بها.
- وأنهم تأثروا بالمعتزلة لأنهم طالعوا كتبهم على كبر ولم يكونوا متمكنين ولا لهم قدم راسخ في الكلام أي في الاعتقاد، وهذا اتهام وتجهيل خطير باطل لهم.
- كان هؤلاء الكبار من أساطين المذهب من الأشاعرة (غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة من قبيح المذهب) وهذا اتهام قبيح لأئمة جهابذة بلا مسوّغ، أي أن هؤلاء الجهابذة أغبياء لا يميزون بين الحق والباطل! حسب ادّعاء هذا القائل!
- اعترفوا بإن هذا الاتهام الباطل لهؤلاء الكبار لا يصح في حق القفال لأنه كان من المتمكنين عقائديا باعترافهم وهذا مما ينقض تمحلاتهم وتوقعاتهم وأمانيهم. فلجأوا إلى حيلة أخرى وهي ادّعاء رجوعه.
- أن القفال كما يدعي السبكي كان عمره نحو عشرين سنة حين قرأ على الأشعري العقائد وحينما قرأ الأشعري عليه الفقه. وهذا يفيد من حيث لا يشعرون أن هذا كان أول حياته ثم بعد ذلك وافق المعتزلة في ما يقولون فيما استفاد من كتبهم لأن تفسيره صنفه بعد ذلك لا قبل سن العشرين! وهم يقولون بأن هؤلاء الأئمة قرأوا كتب المعتزلة وهم كبار حيث قال السبكي نقلاً عنهم: (وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم)!
وكل ذلك ترقيع ومحاولات فاشلة! لا سيما وقد أخطأ بعضهم في تاريخ وفاة القفال ثلاثين سنة ليتمم إثبات هذه الحكايات الباطلة!
والمهم ثبوت استفادة واستحسان بعض كبار الأئمة من الأشاعرة من كتب المعتزلة!
ولننتقل بعد هذا إلى الإمام الماوردي إمام طريقة العراقيين عند الشافعية فنقول:
لقد وافق أقضى قضاة الشافعية وإمام طريقة العراقيين الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله تعالى (ت455هـ) في تفسيره المعتزلة في خلق الأفعال وفي أن الله لا يشاء المعاصي والكفر كعبادة الأوثان وفي أمور أخرى، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في ((لسان الميزان)) (4/260):
[ولا ينبغي أن يطلق عليه اسم الاعتزال.... والمسائل التي وافق عليها المعتزلة معروفة، منها:.. أنه قال في تفسير سورة الأعراف: لا يشاء عبادة الأوثان، وافق اجتهاده فيها مقالات المعتزلة].
قلت ـ حسن ـ : وقع بعض ذلك عند تفسير قول الله تعالى { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله بنا }.
فهنا كما هو واضح ثبت من كتب الماوردي بصريح الحافظ ابن حجر أن هناك مسائل وافق فيها الماوردي المعتزلة.
قال السبكي في طبقات الشافعية (5/175):
[ذكر البحث عما رمي به الماوردي من الاعتزال:
قال ابن الصلاح: هذا الماوردي عفا الله عنه يُتَّهم بالاعتزال وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه وأتأول له وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منها وأقول لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل، ولهذا يورد من أقوال المشبهة أشياء مثل هذا الإيراد، حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة، ومن ذلك مصيره في الأعراف إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان، وقال في قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن} وجهان في جعلنا أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء والثاني تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها.
وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحونا بتأويلات أهل الباطل تلبيسا وتدسيسا على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق، ثم هو ليس معتزليا مطلقا فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} وغير ذلك ويوافقهم في القدر وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديما. انتهى].
وهنا لم يستطع السبكي أن يدفع عن الماوردي موافقته للمعتزلة، وأما ابن الصلاح فقد تجاوز الحد في الكلام على أحد أكابر الأئمة في المذهب وهو لا يوازيه ولا يقاربه ولم يفقه ما فهمه الحافظ ابن حجر، والحق ما قاله ابن حجر من موافقة القول للقول عن دليل وبرهان. وهذه ليست منقصة كما يحاول بعضهم تصويرها.
وبذلك ثبت أن جماعة من كبار الأشاعرة والشافعية استفادوا من المعتزلة ووافقوهم في عقائدهم باعتراف الأشاعرة أنفسهم مما يفيد ثبوت تأثير المعتزلة عليهم في عدم موافقة هؤلاء الأئمة للأشعري في مصنفاته التي فيها ما فيها مما تعلمون من موافقة مجسمة الحنابلة!
....... يتبع إن شاء الله تعالى