وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه
مرسل: الثلاثاء أكتوبر 21, 2025 11:31 pm
.
وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه
من كتاب (تأسيس التقديس)
اعلم أن كتاب الله تعالى دَلَّ على أنه بكليَّته مُحْكَم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه.
أما الذي يدل على أنه بكليته محكم: فهو قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}هود: 1، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}يونس: 1، قد ذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم، والمراد من المحكم بهذا المعنى: كونه حقاً في ألفاظه، وكونه حقَّاً في معانيه، وكل كلام سوى القرآن، فالقرآن أفضل منه في لفظه ومعناه، وأن أحداً من الخلق لا يقدر على الإتيان بكلام يساوي القرآن في لفظه ومعناه، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعهد الوثيق، الذي لا يمكن نقضه: إنه محكم. فهذا معنى وصف كل القرآن بأنه محكم.
وأما الذي يدل على أنه بكليته متشابه: فهو قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}الزمر: 23، والمعنى: أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والفصاحة، ويصدّق بعضه بعضاً. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}النساء: 82، أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الجزالة والفصاحة.
وأما الذي يدل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه: فهو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}آل عمران: 7، ولا بُدَّ لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم من تفسيرها في عُرْف الشريعة.
أما المحكم في اللغة: فالعرب تقول حَكَمْت وأحْكَمْت وحَكَّمْت، بمعنى رددت ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم، وحَكَمَةُ اللجام تمنع الفرس من الاضطراب. وفي حديث النَّخَعي: ((حَكِّمِ اليَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمْ وَلَدَك))(1)، أي امنعه من الفساد. وقول جرير: ((أَحْكِمُوا سفهاءكم))(2) أي امنعوهم. وبناءٌ مُحْكَم أي وثيق يمنع مَنْ تعرَّض له. وسميت الحكمة حكمة، لأنها تمنع الموصوف بها عما لا ينبغي.
وأما المتشابه: فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز. قال الله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}البقرة: 70، وقال في صفة ثمار الجنة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} البقرة:25 أي متفق النظر مختلف الطعوم وقال: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}البقرة: 118، ومنه اشتبه الأمر إذا لم نفرق بينهما. ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبهات. وقال عليه الصلاة والسلام: ((الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، وبينهمـا أمور مشتبهات))(3)، وفي رواية أخرى: ((متشابهات)). فهذا تحقيق الكلام في المحكم والمتشابه، بحسب أصل اللغة.
وأما في عرف العلماء: فاعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير المحكم والمتشابه، وكُتُبُ مَنْ تقدَّمنا مشتملة عليهما.
والذي عندي فيه: أن اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى أو لا يكون؟ فإن كان موضوعاً لمعنى ولم يكن محتملاً لغيره فهو النص. وإن كان محتملاً لغير ذلك المعنى، فإما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، وإما أن لا يكون، بل يكون احتماله لهما على السوية، فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على احتماله للآخر، فكان ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً، فخرج من هذا التقسيم: أن اللفظ إما أن يكون نصاً أو ظاهراً أو مجملاً، أو مؤولاً. فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من النقيض، والظاهر راجح غير مانع من النقيض، فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح(4)، فهذا القدر هو المسمى بالمُحْكَم.
وأما المجمل والمؤول: فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة، إلا أن المجمل لا رجحان فيه بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين، والمؤوَّل فيه رجحان بالنسبة إلى الطرف الآخر والقدر المشترك، وهو عدم الرجحان بالنسبة إليه، وهو المسمى بالمتشابه، لأن عدم الفهم حاصل فيه.
ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، فههنا يتوقف الذهن، مثل القُرْء بالنسبة للحيض والطهر، وإنما الصعب المُشْكِل أن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المفهومين ومرجوحاً في الآخر، ثم إن الراجح يكون باطلاً، والمرجوح يكون حقاً، مثاله من القران: قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}الإسراء: 16، فظاهر هذا الكلام: أنهم يؤمرون بأن يفسقوا. ومحكمه: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}الأعراف: 28، رداً على الكفار فيما حكى عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}الأعراف: 28. وكذلك قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}التوبة: 67، ومحكمه قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}مريم: 64، وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}طه: 52. فهذا تلخيص الكلام في تفسير المحكم والمتشابه. وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية والمراجع:
(1) قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (1/325): [وفي حديث النَّخَعِيّ (حَكِّم اليتيم كما تُحَكِّم وَلَدك) أي امْنَعه من الفساد كما تمنع ولدك. وقيل: أرادَ حَكّمه في ماله إذا صلح كما تُحَكّم ولدك].
(2) الشاعر هو جرير بن عطية الكلبي اليربوعي التميمي النجدي (33-110هـ):
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهاءَكُمْ إني أَخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا
(3) هذا حديث النعمان بن بشير. رواه البخاري (52) بلفظ: (وبينهما أمور مُشَبَّهات). ورواه الدارمي (2531) بلفظ: (متشابهات). ومسلم (1599) وغيره بلفظ: (مُشْتَبِهَات). ورواية النعمان عن رسول الله | ليست متصلة عند أهل المدينة كما في ترجمته.
(4) وهذا عندنا تعقيد في العبارة، ومختصره أن المُحْكَم هو ما لا يحتمل إلا معنى واحد، والمتشابه ما يحتمل أكثر من معنى.
وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه
من كتاب (تأسيس التقديس)
اعلم أن كتاب الله تعالى دَلَّ على أنه بكليَّته مُحْكَم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه.
أما الذي يدل على أنه بكليته محكم: فهو قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}هود: 1، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}يونس: 1، قد ذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم، والمراد من المحكم بهذا المعنى: كونه حقاً في ألفاظه، وكونه حقَّاً في معانيه، وكل كلام سوى القرآن، فالقرآن أفضل منه في لفظه ومعناه، وأن أحداً من الخلق لا يقدر على الإتيان بكلام يساوي القرآن في لفظه ومعناه، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعهد الوثيق، الذي لا يمكن نقضه: إنه محكم. فهذا معنى وصف كل القرآن بأنه محكم.
وأما الذي يدل على أنه بكليته متشابه: فهو قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}الزمر: 23، والمعنى: أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والفصاحة، ويصدّق بعضه بعضاً. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}النساء: 82، أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الجزالة والفصاحة.
وأما الذي يدل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه: فهو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}آل عمران: 7، ولا بُدَّ لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم من تفسيرها في عُرْف الشريعة.
أما المحكم في اللغة: فالعرب تقول حَكَمْت وأحْكَمْت وحَكَّمْت، بمعنى رددت ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم، وحَكَمَةُ اللجام تمنع الفرس من الاضطراب. وفي حديث النَّخَعي: ((حَكِّمِ اليَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمْ وَلَدَك))(1)، أي امنعه من الفساد. وقول جرير: ((أَحْكِمُوا سفهاءكم))(2) أي امنعوهم. وبناءٌ مُحْكَم أي وثيق يمنع مَنْ تعرَّض له. وسميت الحكمة حكمة، لأنها تمنع الموصوف بها عما لا ينبغي.
وأما المتشابه: فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز. قال الله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}البقرة: 70، وقال في صفة ثمار الجنة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} البقرة:25 أي متفق النظر مختلف الطعوم وقال: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}البقرة: 118، ومنه اشتبه الأمر إذا لم نفرق بينهما. ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبهات. وقال عليه الصلاة والسلام: ((الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، وبينهمـا أمور مشتبهات))(3)، وفي رواية أخرى: ((متشابهات)). فهذا تحقيق الكلام في المحكم والمتشابه، بحسب أصل اللغة.
وأما في عرف العلماء: فاعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير المحكم والمتشابه، وكُتُبُ مَنْ تقدَّمنا مشتملة عليهما.
والذي عندي فيه: أن اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى أو لا يكون؟ فإن كان موضوعاً لمعنى ولم يكن محتملاً لغيره فهو النص. وإن كان محتملاً لغير ذلك المعنى، فإما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، وإما أن لا يكون، بل يكون احتماله لهما على السوية، فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على احتماله للآخر، فكان ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً، فخرج من هذا التقسيم: أن اللفظ إما أن يكون نصاً أو ظاهراً أو مجملاً، أو مؤولاً. فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من النقيض، والظاهر راجح غير مانع من النقيض، فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح(4)، فهذا القدر هو المسمى بالمُحْكَم.
وأما المجمل والمؤول: فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة، إلا أن المجمل لا رجحان فيه بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين، والمؤوَّل فيه رجحان بالنسبة إلى الطرف الآخر والقدر المشترك، وهو عدم الرجحان بالنسبة إليه، وهو المسمى بالمتشابه، لأن عدم الفهم حاصل فيه.
ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، فههنا يتوقف الذهن، مثل القُرْء بالنسبة للحيض والطهر، وإنما الصعب المُشْكِل أن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المفهومين ومرجوحاً في الآخر، ثم إن الراجح يكون باطلاً، والمرجوح يكون حقاً، مثاله من القران: قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}الإسراء: 16، فظاهر هذا الكلام: أنهم يؤمرون بأن يفسقوا. ومحكمه: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}الأعراف: 28، رداً على الكفار فيما حكى عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}الأعراف: 28. وكذلك قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}التوبة: 67، ومحكمه قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}مريم: 64، وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}طه: 52. فهذا تلخيص الكلام في تفسير المحكم والمتشابه. وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية والمراجع:
(1) قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (1/325): [وفي حديث النَّخَعِيّ (حَكِّم اليتيم كما تُحَكِّم وَلَدك) أي امْنَعه من الفساد كما تمنع ولدك. وقيل: أرادَ حَكّمه في ماله إذا صلح كما تُحَكّم ولدك].
(2) الشاعر هو جرير بن عطية الكلبي اليربوعي التميمي النجدي (33-110هـ):
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهاءَكُمْ إني أَخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا
(3) هذا حديث النعمان بن بشير. رواه البخاري (52) بلفظ: (وبينهما أمور مُشَبَّهات). ورواه الدارمي (2531) بلفظ: (متشابهات). ومسلم (1599) وغيره بلفظ: (مُشْتَبِهَات). ورواية النعمان عن رسول الله | ليست متصلة عند أهل المدينة كما في ترجمته.
(4) وهذا عندنا تعقيد في العبارة، ومختصره أن المُحْكَم هو ما لا يحتمل إلا معنى واحد، والمتشابه ما يحتمل أكثر من معنى.