قضية الميثاق في عالم الذر وبيان عدم ثبوتها:
مرسل: الثلاثاء نوفمبر 21, 2023 11:03 am
استدل القائلون بها بقوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } الأعراف: 172.
أقول: ذهب قوم من أهل السنة ومن غيرهم إلى أن الله تعالى عندما خلق سيدنا آدم عليه السلام وأهبطه الأرض أخرج ذريته من صُلْبِهِ وهو في عرفات بقرب مكة وخاطبهم فقال لهم ألست بربكم.... وأجابوه: بلى شهدنا.... وذهب قوم من أكابر أهل العلم من أهل السنة وغيرهم إلى أن شيئاً من ذلك لم يكن! لأن الآية ليس فيها أن الله أخرج من ظهر سيدنا آدم وإنما من ظهور بني آدم ذريتهم وليس (ذريته).... الخ
وإنما فُسِّرت الآية بأن الله أخرج من ظهر سيدنا آدم ذريته بناء على آثار ونصوص من الإسرائيليات فليس ذلك بثابت!
قال العلامة البزدوي الحنفي في (أصول الدين) ص (218) ـ هو من شيوخ نجم الدين محمد النسفي صاحب العقائد النسفية، توفي في بخارى سنة (493هـ) ـ:
[وقالت القدرية.... إن أخذ الميثاق لم يكن، وبه قال بعض أهل السنة والجماعة فيهم الشيخ أبو منصور الماتريدي، فهؤلاء قالوا: إنه لا فائدة في أخذ الميثاق على الذرية لأنه لو كان كذلك كان حكم الكفار حكم المرتدين وليس كذلك بإجماع الأمة.....].
ومعنى الآية عندنا هو ما ذكره الحافظ أبو حيان وغيره وهو قوله في تفسيره البحر المحيط (5/218):
[{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } روي في الحديث من طرق: أخذ - الله - من ظهر آدم ذريته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه. واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه، وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية، وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو مُتَكَلَّف في التأويل، وأحسن ما تُكُلِّمَ به على هذه الآية ما فَسَّرَه به الزمخشري قال:
هي من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركَّبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه { أشهدهم على أنفسهم } وقررهم وقال { ألست بربكم } وكأنهم { قالوا بلى } أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفي كلام العرب، ونظيره قول الله عز وجل { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }. { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا آتينا طائعين } وقول الشاعر:
إذاً قالت الأنساع للبطن إلْحَقِي تقول له ريح الصباً قرقـــار
ومعلوم أنه لا قول ثَمَّ ؛ وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى، وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها كراهة أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين لم نُنَبَّهْ عليه، أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نُبِّهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم!
(فإن قلتَ): بنو آدم وذريتهم مَنْ هم، قلتُ: عنى ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا: { عزير ابن الله } وبذريتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عُطِفَتْ عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله { واسألهم عن القرية } و { إذ قالت أمة منهم } { وإذ تأذن ربك } { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام مَنْ تَقَدَّمه].
انتهى كلام الحافظ أبو حيان.
وهذا أيضاً هو الذي اعتمده الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية حيث ذكر ذلك في أول تفسيرها (6/ الجزء التاسع/ص110) وكذا في آخرها ص (118). وكذلك ابن كثير في تفسيره. وكذلك الإمام القرطبي حيث قال في تفسيره (7/314) ما نصه:
[{وقوله تعالى { وإذ أخذ ربك } أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أَخَذْتُ من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه الآية مُشْكَلَة.
وقد تَكَلَّمَ العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: ومعنى { أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم } دَلَّهُم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً. { ألست بربكم } أي: قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في خلق السموات والأرض { قالتا أتينا طائعين }، ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها)). انتهى من القرطبي.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى قول ضعيف مرجوح عندنا في تفسير هذه الآية وهو أنهم قالوا بأن الله تعالى أخرج حقيقةً جميع ذرية سيدنا آدم من صلبه
(أي الأرواح) وأنه خاطبهم وقال لهم: ألستُ بربكم ؟ قالوا: بلى. ثم أعادهم في صلب سيدنا آدم عليه السلام.
وإنني أنقل ثلاثة أحاديث هي عمدة أدلتهم على تفسير هذه الآية الكريمة بإخراج الذرية من صلب سيدنا آدم عليه السلام، والتي خالفوا لأجلها المعنى الذي قررناه ونقلناه عن أهل العلم الذين تقدَّم ذكرهم:
(الحديث الأول): روى ابن جرير في تفسيره عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان)) يعني عرفة
((فأخرج من صُلْبِهِ كل ذرية ذَرَأَها فنثرهم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلَّمهم فتلا فقال: { ألست بربكم ؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا..... } الآية - إلى ما فعل المبطلون)).
قلت: هذا الحديث لم يثبت رَفْعُه بل الصواب أنه موقوف على سيدنا ابن عباس رضي الله عنه (أي أنه كلام ابن عباس وليس هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صَرَّح بذلك جماعة من الحفاظ وأهل العلم، منهم ابن كثير في تفسيره، وجزم الطبري بالقول الذي اخترناه كما تقدَّم.
والصواب أن هذا الحديث من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب فهذا الأَثَر لا تقوم به حجة في الاستدلال لا سيما وقد تقرَّر في علم الأصول بأن الراجح أن مذهب الصحابي ليس بحجة يجب الأخذ بها.
(الحديث الثاني): ما رواه البخاري (11/416) ومسلم (4/2161) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: ((يقول الله تعالى لأَهْوَنِ أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟ فيقول: نعم. فيقول: أردتُ منك أهون من هذا وأنت في صُلْبِ آدم: أن لا تشرك بي شيئاً فأبيتَ إلا أن تشرك بي)).
قلت: هذه اللفظة ((وأنت في صلب آدم)) مُدْرَجَة، وهي من زيادات أبى عمران الجوني أحد رواته، وذلك لأن البخاري ومسلماً رويا هذا الحديث من طرق عن قتادة عن سيدنا أنس وليس فيه هذه الزيادة (انظرالبخاري 11/400 ومسلم 4/2161 وغيرهما).
(الحديث الثالث): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وممن رواه ابن جرير في تفسيره (6/9/113) وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال: ((أُخِذُوا من ظَهْرِه كما يؤخذ بالمِشْط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم ؟ قالوا بلى، قالت
الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)).
وهذا الحديث لا يصح سنده لأن في سنده أحمد بن أبى طيبة حدث بأحاديث كثيرة أكثرها غرائب كما قال ابن عَدِيٍّ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه.
كما في ((تهذيب التهذيب)) (1/39) وهذا تضعيف من أبي حاتم لهذا الرجل. قال الذهبي في ((السير)) (6/360): ((قلت: قد علمتُ بالاستقرار التام أن أبا حاتم الرازي إذا قال في رجل: يُكْتَبُ حديثه، أنه عنده ليس بحجة..)).
قلت: وقد شذَّ في روايته لهذا الحديث عن غيره فزاد فيه.
وقد اعتمد ما قلته فيه ابن كثير في ((تفسيره)) (2/273) وقال الحافظ ابن جرير الطبري عن هذا الحديث في ((تفسيره)) (9/6/118): ((ولا أعلمه
صحيحاً)). فتأمل جيداً!!
وبذلك يتبين ضعف ووهاء أدلة المستدلين لتفسير الآية بإخراج الذرية من صلب سيدنا آدم المخالف لظاهر الآية وصحة ما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق.
ومن الأحاديث الموضوعة في هذا الموضوع أيضاً حديث:
((إني سألت ربي أولاد المشركين فاعطانيهم خدماً لأهل الجنة، لأنهم لم يدركوا ما أدرك آباؤهم من الشرك، ولأنهم على الميثاق الأول)). رواه أبو الحسن بن مُلَّة في أماليه عن أنس رضي الله عنه.
والله تعالى أعلم.
أقول: ذهب قوم من أهل السنة ومن غيرهم إلى أن الله تعالى عندما خلق سيدنا آدم عليه السلام وأهبطه الأرض أخرج ذريته من صُلْبِهِ وهو في عرفات بقرب مكة وخاطبهم فقال لهم ألست بربكم.... وأجابوه: بلى شهدنا.... وذهب قوم من أكابر أهل العلم من أهل السنة وغيرهم إلى أن شيئاً من ذلك لم يكن! لأن الآية ليس فيها أن الله أخرج من ظهر سيدنا آدم وإنما من ظهور بني آدم ذريتهم وليس (ذريته).... الخ
وإنما فُسِّرت الآية بأن الله أخرج من ظهر سيدنا آدم ذريته بناء على آثار ونصوص من الإسرائيليات فليس ذلك بثابت!
قال العلامة البزدوي الحنفي في (أصول الدين) ص (218) ـ هو من شيوخ نجم الدين محمد النسفي صاحب العقائد النسفية، توفي في بخارى سنة (493هـ) ـ:
[وقالت القدرية.... إن أخذ الميثاق لم يكن، وبه قال بعض أهل السنة والجماعة فيهم الشيخ أبو منصور الماتريدي، فهؤلاء قالوا: إنه لا فائدة في أخذ الميثاق على الذرية لأنه لو كان كذلك كان حكم الكفار حكم المرتدين وليس كذلك بإجماع الأمة.....].
ومعنى الآية عندنا هو ما ذكره الحافظ أبو حيان وغيره وهو قوله في تفسيره البحر المحيط (5/218):
[{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } روي في الحديث من طرق: أخذ - الله - من ظهر آدم ذريته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه. واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه، وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية، وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو مُتَكَلَّف في التأويل، وأحسن ما تُكُلِّمَ به على هذه الآية ما فَسَّرَه به الزمخشري قال:
هي من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركَّبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه { أشهدهم على أنفسهم } وقررهم وقال { ألست بربكم } وكأنهم { قالوا بلى } أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفي كلام العرب، ونظيره قول الله عز وجل { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }. { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا آتينا طائعين } وقول الشاعر:
إذاً قالت الأنساع للبطن إلْحَقِي تقول له ريح الصباً قرقـــار
ومعلوم أنه لا قول ثَمَّ ؛ وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى، وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها كراهة أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين لم نُنَبَّهْ عليه، أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نُبِّهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم!
(فإن قلتَ): بنو آدم وذريتهم مَنْ هم، قلتُ: عنى ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا: { عزير ابن الله } وبذريتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عُطِفَتْ عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله { واسألهم عن القرية } و { إذ قالت أمة منهم } { وإذ تأذن ربك } { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام مَنْ تَقَدَّمه].
انتهى كلام الحافظ أبو حيان.
وهذا أيضاً هو الذي اعتمده الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية حيث ذكر ذلك في أول تفسيرها (6/ الجزء التاسع/ص110) وكذا في آخرها ص (118). وكذلك ابن كثير في تفسيره. وكذلك الإمام القرطبي حيث قال في تفسيره (7/314) ما نصه:
[{وقوله تعالى { وإذ أخذ ربك } أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أَخَذْتُ من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه الآية مُشْكَلَة.
وقد تَكَلَّمَ العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: ومعنى { أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم } دَلَّهُم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً. { ألست بربكم } أي: قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في خلق السموات والأرض { قالتا أتينا طائعين }، ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها)). انتهى من القرطبي.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى قول ضعيف مرجوح عندنا في تفسير هذه الآية وهو أنهم قالوا بأن الله تعالى أخرج حقيقةً جميع ذرية سيدنا آدم من صلبه
(أي الأرواح) وأنه خاطبهم وقال لهم: ألستُ بربكم ؟ قالوا: بلى. ثم أعادهم في صلب سيدنا آدم عليه السلام.
وإنني أنقل ثلاثة أحاديث هي عمدة أدلتهم على تفسير هذه الآية الكريمة بإخراج الذرية من صلب سيدنا آدم عليه السلام، والتي خالفوا لأجلها المعنى الذي قررناه ونقلناه عن أهل العلم الذين تقدَّم ذكرهم:
(الحديث الأول): روى ابن جرير في تفسيره عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان)) يعني عرفة
((فأخرج من صُلْبِهِ كل ذرية ذَرَأَها فنثرهم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلَّمهم فتلا فقال: { ألست بربكم ؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا..... } الآية - إلى ما فعل المبطلون)).
قلت: هذا الحديث لم يثبت رَفْعُه بل الصواب أنه موقوف على سيدنا ابن عباس رضي الله عنه (أي أنه كلام ابن عباس وليس هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صَرَّح بذلك جماعة من الحفاظ وأهل العلم، منهم ابن كثير في تفسيره، وجزم الطبري بالقول الذي اخترناه كما تقدَّم.
والصواب أن هذا الحديث من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب فهذا الأَثَر لا تقوم به حجة في الاستدلال لا سيما وقد تقرَّر في علم الأصول بأن الراجح أن مذهب الصحابي ليس بحجة يجب الأخذ بها.
(الحديث الثاني): ما رواه البخاري (11/416) ومسلم (4/2161) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: ((يقول الله تعالى لأَهْوَنِ أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟ فيقول: نعم. فيقول: أردتُ منك أهون من هذا وأنت في صُلْبِ آدم: أن لا تشرك بي شيئاً فأبيتَ إلا أن تشرك بي)).
قلت: هذه اللفظة ((وأنت في صلب آدم)) مُدْرَجَة، وهي من زيادات أبى عمران الجوني أحد رواته، وذلك لأن البخاري ومسلماً رويا هذا الحديث من طرق عن قتادة عن سيدنا أنس وليس فيه هذه الزيادة (انظرالبخاري 11/400 ومسلم 4/2161 وغيرهما).
(الحديث الثالث): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وممن رواه ابن جرير في تفسيره (6/9/113) وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال: ((أُخِذُوا من ظَهْرِه كما يؤخذ بالمِشْط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم ؟ قالوا بلى، قالت
الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)).
وهذا الحديث لا يصح سنده لأن في سنده أحمد بن أبى طيبة حدث بأحاديث كثيرة أكثرها غرائب كما قال ابن عَدِيٍّ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه.
كما في ((تهذيب التهذيب)) (1/39) وهذا تضعيف من أبي حاتم لهذا الرجل. قال الذهبي في ((السير)) (6/360): ((قلت: قد علمتُ بالاستقرار التام أن أبا حاتم الرازي إذا قال في رجل: يُكْتَبُ حديثه، أنه عنده ليس بحجة..)).
قلت: وقد شذَّ في روايته لهذا الحديث عن غيره فزاد فيه.
وقد اعتمد ما قلته فيه ابن كثير في ((تفسيره)) (2/273) وقال الحافظ ابن جرير الطبري عن هذا الحديث في ((تفسيره)) (9/6/118): ((ولا أعلمه
صحيحاً)). فتأمل جيداً!!
وبذلك يتبين ضعف ووهاء أدلة المستدلين لتفسير الآية بإخراج الذرية من صلب سيدنا آدم المخالف لظاهر الآية وصحة ما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق.
ومن الأحاديث الموضوعة في هذا الموضوع أيضاً حديث:
((إني سألت ربي أولاد المشركين فاعطانيهم خدماً لأهل الجنة، لأنهم لم يدركوا ما أدرك آباؤهم من الشرك، ولأنهم على الميثاق الأول)). رواه أبو الحسن بن مُلَّة في أماليه عن أنس رضي الله عنه.
والله تعالى أعلم.