بيان مفصل لبطلان تثليث أو تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام (1)
مرسل: الثلاثاء نوفمبر 21, 2023 11:05 am
تقسيم التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية وتوحيد أسماء وصفات تقسيم مُحْدَث مخترع، وهو تقسيم باطل معارض للنصوص، والذي تَبَنَّى هذا التقسيم هو ابن تيمية الحَرَّاني، حيث زعم أنَّ الأنبياء بُعِثوا لدعوة الناس إلى توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة، أما توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأن لهذه المخلوقات خالقاً موجداً لها فهذا كان يعرفه ويعترف به الكفار ـ بزعمه ـ(1)!! وهدف الحَرَّاني من هذا التقسيم هو رمي مخالفيه بالشرك والبدعة والضلال بحجة وجود نقص وخلل في بعض أنواع التوحيد، فالهدف من توحيد الألوهية عند مَنْ أَسَّسَه ونافح عنه هو رمي المتوسلين والمستغيثين بالأنبياء والأولياء والذين يزورون قبور الأنبياء والأولياء والصالحين بالشرك والبدعة والضلال، وهذا أمر حاصل مشاهد ملموس اليوم من أتباعه. والهدف من إحداث القسم الثالث من التوحيد ـ وهو ما يسمونه بتوحيد الأسماء والصفات ـ هو رمي الذين لا يوافقونهم في إثبات الصفات التي يزعمها المجسمة والمشبهة وهي الأعضاء كالوجه والعينين واليدين والأصابع والقدم وكالنزول والصعود لله تعالى بالابتداع والتَّجَهُّم. حتى قال ابن قيم الجوزية في آخر صحيفة من كتابه ((اجتماع الجيوش الإسلامية)): ((أفيظنُّ أفراخ المعتزلة(2) ومخانيث الجهمية ومقلدوا اليونان أن يضعوا لواءً رفعه الله تعالى ويُنَكِّسوا عَلَماً نصبه الله تعالى))!
وقد احتجَّ من أحدث هذا التقسيم بأنَّ الكفار الذين بُعِثَ فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يُقِرُّون بوجود الله تعالى وأنه الخالق ولكنهم اتخذوا معه شركاء فعبدوهم معه واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } العنكبوت: 61، وبقوله تعالى { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } الزمر: 3 ونحوها.
والجواب على ذلك: أنَّ هذه الأقوال مثل: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ونحوها إنما صدرت من أولئك المشركين عند إقامة الحجة عليهم، أي في مجلس المناظرة عندما أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم الحجة على وجود الله تعالى ولم يجدوا بُدَّاً من الجواب بذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأموراً بمناظرتهم ومجادلتهم في مثل قوله تعالى: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } النحل: 125، فأولئك المشركون كانوا لا يعتقدون بما تتضمنه تلك الكلمات الصادرة عنهم والمذكورة في الآيتين السابقتين من الاعتراف بالله تعالى بدليل قوله تعالى في آية الزُّمَر السابقة: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }، فهم كاذبون فيما قالوه لأنهم اضطروا إليه، وهم كفار فلا يصح بعد هذا أن يقال بأنهم موحدون توحيد ربوبية، وبدليل قوله تعالى في آخر آية العنكبوت السابقة { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } والإفك أشد الكذب، أي أنَّ هذا القول كذب منهم فهو من باب { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } التوبة: 8.
والذي يؤكد ما قلناه ويقطع بما ذهبنا إليه آيات أخرى في القرآن الكريم تنص على أنَّ هؤلاء الكفار ما كانوا يعترفون بالله تعالى، ومنها قوله تعالى:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } الفرقان: 60 فهل هؤلاء يقولون بوجود الرحمن الرحيم، وقوله تعالى:
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي ءَامَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } الأعراف: 46. وقال تعالى:
{ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } الجاثية: 24. وقال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ } يس: 78. وقول سيدنا يوسف لقومه: { ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } يوسف: 39، وقول سيدنا إبراهيم عليه السلام: { أَئِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } الصافات: 86، وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً } يس: 74، وقول كفار مكة حينما دعاهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كلمة التوحيد: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً } ص: 5، وللعبد الفقير رسالة خاصة في إبطال تقسيم التوحيد سميتها ((التنديد بمن عدَّدَ التوحيد)) فليرجع إليها مَنْ شاء التوسع.
والمقصود هنا: أن نبين بأن دعاء أو سؤال غير الله تعالى ليس شِرْكاً ولا كفراً ولا إثم فيه، بل ولا هو مكروه كما يزعم من يقول بأن دعاء أي نداء الأموات أو غير الله تعالى كفر وشِرْك به سبحانه.
فالتوسل هو: أن يطلب الداعي من الله تعالى بمنزلة أو بجاه نبي أو ولي أو مَلَك أو غير ذلك. والاستغاثة هي: أن يتوجه السائل والداعي بالخطاب إلى النبي أو غيره ممن يعتقد قربهم ومنزلتهم عند الله تعالى أن يدعوا الله تعالى له في تحقيق غرضه ومقصوده.
ونقصد هنا بيان أن الاستغاثة ليست شركاً ولا كفراً كما يدَّعي بعضهم، ومختصر إثبات ذلك أن معنى الدعاء هو السؤال(3)، ويجوز شرعاً أن تسأل غير الله تعالى، وذلك مثلاً بأن تسأل أخاك أو ولدك أو أباك أو صديقك أن يعينك في أمر من الأمور الدنيوية أو الدينية، والأمر الذي لا يجوز في ذلك هو سؤال غير الله تعالى مع اعتقاد أنه إله أو رب دون الله تعالى.
أما سؤال الأنبياء والأئمة والأولياء ونحوهم والدعاء عندهم فإنما هو ليدعوا الله لهؤلاء السائلين أو ليتوسل بهم السائلون إلى الله سبحانه، فالداعون عند الأنبياء والأولياء أو الداعون لهم الطالبون منهم أن يدعوا الله تعالى ليقضيَ حوائجهم لا يعتقدون أنهم آلهة من دون الله تعالى ولا يعبدونهم، بل يعتقدون أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وإذا لم يكونوا أحياء فإنهم يسمعون كلام من يطلب منهم، وكل هذا لا يعارض الشرع وإنما هو مبني على أدلة ثابتة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، سواء قبلها المتمسلفون أم رفضوها.
فسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً كان يحيي الموتى بإذن الله تعالى ويبرىء الأكمه والأبرص وغير ذلك فلو سأله شخص من قومه أن يحيي له ميته لم يكفر مع أن إحياء الموتى خصيصة من خصائص الألوهية، لكن لما اعتقد ذلك الشخص الطالب أنه ليس إلهاً ولم يعبده لم يكن ذلك كفراً ولا شركاً ولا منابذاً للتوحيد. قال تعالى حكاية عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام:
{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } آل عمران: 49.
فإذا جاز أن يعطيَ الله تعالى هذه الخصائص بإذنه لبعض خلقه وعبيده مثل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو عبد فقير لله تعالى فَلِمَ يمنع هؤلاء بعض الخصائص مثل أن يسمع الموتى استغاثة من يستغيث بهم في حاجته فيدعون الله تعالى له ؟ ونحن نقول بأن المستغيثين والمتوسلين بالأنبياء والصالحين من عباد الله تعالى لا يقصدون إلا أن يطلبوا منهم أن يدعو الله لهم! فدعاء المستغيثين الأنبياء لقضاء حوائجهم إنما هو لاعتقادهم بعظيم منزلتهم عند الله تعالى وهم لا يعبدون إلا الله ولا يعتقدون أن هناك إلهاً غير الله تعالى، وهذا خلاف حال المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتخذونها آلهة من دون الله تعالى! فقد أخطأ المتمسلفون الذين يوردون الآيات النازلة في عبدة الأصنام والأوثان فيجعلونها في عباد الرحمن ويزعمون أنهم سواء!! { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } الكهف: 5 !
ودليل المبتدعة في ادّعائهم بأن دعاء غير الله تعالى عبادة له وبالتالي فهو شِرْك وكفر هو: بعض الآيات التي يُذْكَر فيها لفظ الدعاء فيخلطون بين معاني الدعاء تدليساً ويضيفون لها حديث النعمان بن بشير قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))(4)، وَقَرَأَ { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إِلَى قَوْلِهِ { دَاخِرِينَ }(5)، فيمزجون ما بين ظواهر بعض الآيات وهذا الحديث ليموهوا بذلك على الناس.
والمقصود بالحديث هنا ـ إن صحَّ ـ أن دعاء الله تعالى من أعظم
العبادة(6)، وهذا ليس فيه أن دعاء (أي نداء) غير الله تعالى عبادةٌ سواء كان المنادَى حياً أو ميتاً ولو كان الدعاء مع خضوعٍ وذلَّة، فالولد مثلاً قد يدعو أي يسأل أباه شيئاً وهو يخاطبه مُبجِّلاً ومُعظِّماً إيّاه، أو الطالب مع أستاذه وشيخه، أو الجندي مع قائده، ونحوهم، ولا يعتبر ذلك عبادة لهم شرعاً، كما لا يُعتبر السجود على الحجر الأسود واستلامه وتقبيله من الشرك والكفر في شيء، وكذلك سجود إخوة سيدنا يوسف وأبوه ـ النبي ـ عليهم الصلاة والسلام وأمه له على وجه التحية عبادة له ولا من الشرك والكفر كذلك(7)! وكذلك أَمَرَ اللهُ تعالى الملائكة بالسجود لسيدنا آدم عليه الصلاة والسلام والله سبحانه لا يأمر بالفحشاء!
وقد بيَّن القرآن الكريم أن دعاء أي نداء غير الله تعالى ليس عبادة في مثل قوله تعالى لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الطير اللاتي أمره أن يذبحهن: { ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } البقرة: 260، وقوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } آل عمران: 61، وقوله تعالى: { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } آل عمران: 153، وكل نص جاء فيه النهي عن دعاء غير الله تعالى فالمراد به النهي عن عبادة غير الله سبحانه وتعالى واتخاذه آلهة، أما مجرد الدعاء الذي هو النداء سواء كان بطلب أم بغير طلب فإنه ليس من الشرك والكفر في شيء، بل هو سنة مستحبة أحياناً يثاب المرء عليها، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعَلّم من يزور القبور من أصحابه أن يدعو أصحاب القبور من الأموات أي يناديهم ويوجّه لهم الخطاب بالعبارة التالية:
((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية))(9).
وفي رواية أخرى صحيحة كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أَتَى عَلَى الْمَقَابِرِ قَالَ: ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ لَنَا وَلَكُمْ))(10).
فخطاب الأموات ونداؤهم ـ أي دعاؤهم ـ ليس كفراً ولا شركاً ولا بدعة بل هو مستحب أحياناً، خلاف ما يشيعه ويذيعه المبتدعة، وقد ثبت أيضاً في الصحيحين من طرق عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلاثاً ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: ((يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا)). فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا(11) وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا ؟ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا)).. الحديث(12).
فمن خلال هذه الأدلة يتبين لنا أن الدعاء أي النداء أو الطلب من غير الله تعالى لا يكون كفراً ولا شركاً ولا بدعة ضلالة كما يدَّعيه بعض الناس.
....... يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية:
(1) ذكر ذلك في ((مجموع فتاواه)) (3/443).
(2) مقصوده بأفراخ المعتزلة: الأشاعرة، لأنَّ الأشعري كان تلميذاً ـ كما يقال ـ عند المعتزلة دهراً طويلاً. والذي يؤكد هذا عندي ويؤكد نظرتهم هذه للأشاعرة قول الألباني في صحيحته (6/676) ضمن عبارة هناك: ((أعداء السنة من المتمذهبة والأشاعرة والمتصوفة وغيرهم))!! وأقول: إنَّ أعداء سنة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هم الكفار والمنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار لا هؤلاء الموحدون من السادة الأشعرية وغيرهم.
(3) قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/94): [والدعاء الطلب، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله، ودعوت فلاناً سألته، ودعوته استغثته، ويطلق أيضاً على رفعة القدر كقوله تعالى { ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة }، كذا قال الراغب، ويمكن ردُّه إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضاً على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء].
(4) حديث ضعيف. رواه الترمذي (2969و3247و3372)، وأبو داود (1479)، وابن ماجه (3828)، وأحمد (4/267)، وصححه الترمذي، لكن النعمان بن بشير لا يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الحافظ المزي في ((تهذيب الكمال)) (29/412) في ترجمة النعمان بن بشير: ((وقال يحيى بن معين: أهل المدينة يقولون: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل العراق يصححون سماعه منه)). قلت: أهل المدينة التي وُلِد فيها هم أعلم به منهم، فيثبت بهذا أنه كان من صغار الصحابة وممن له رؤية دون سماع، ولأنهم اختلفوا في عمره عند وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل كان عمره ست أو ثماني سنوات. وتجد الكلام عليه في التعليق على النص (90) في كتاب العلو بتحقيقنا. وفي إسناد الحديث أيضاً يُسَيع الحضرمي الكندي وهو وإن وثقه النسائي إلا أنه لم يرو عنه إلا واحد وهو ذر الهَمْداني. وهذا يحكم على الحديث أنه ليس بذاك. فلا يجوز أن يبنى عليه مثل هذا الأمر العظيم الذي يقوم على تكفير المسلمين الموحدين بدعوى أن لديهم خللاً في توحيد الألوهية المخترع.
(5) لاحظ هنا أن ظاهر هذا النص عام وإن كان عمومه غير مراد، والقَرْنيون يحتجون به على أن من دعا غير الله تعالى فقد كفر وأشرك على وجه العموم، دون أن يميزوا بين من يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر الله له أو ليدعو الله تعالى له بقضاء حاجة، وبين من يعتقد أن النبي يقضي الحوائج من دون الله أو بغير إذن الله تعالى.
(6) وقد بيَّن الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/94) معنى هذا الحديث عند الجمهور فقال: [وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر
((الحج عرفة))، أي معظم الحج وركنه الأكبر].
(7) وما يتوهمه المتمسلفون بأن ما أذن الله تعالى به كتعظيم الحجر الأسود أو الكعبة المشرفة أو سجود آل سيدنا يوسف له لا يكون كفراً ولا شركاً وما لم يأذن الله به فهو كفر وشرك توهم فاسد مردود! لأن الكفرَ كُفْرٌ في أي حال ولا يميزه هنا عن غيره إلا النية والقصد! وقد روى عبدالله بن أبي أوفى قال: قَدِمَ مُعَاذٌ الْيَمَنَ ـ أَوْ قَالَ الشَّامَ ـ فَرَأَى النَّصَارَى تَسْجُدُ لِبَطَارِقَتِهَا وَأَسَاقِفَتِهَا فَرَوَّأَ فِي نَفْسِهِ (أي رأى ذلك وألزم نفسه به) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَحَقُّ أَنْ يُعَظَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ النَّصَارَى تَسْجُدُ لِبَطَارِقَتِهَا وَأَسَاقِفَتِهَا فَرَوَّأْتُ فِي نَفْسِي أَنَّكَ أَحَقُّ أَنْ تُعَظَّمَ. فَقَالَ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)). رواه أحمد (4/381)، وعبد الرزاق (11/301)، وصححه الألباني في صحيحته (3/202أثناء تخريج الحديث 1203). ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ما فعله من السجود كفر وشرك لأن معاذاً رضي الله عنه معترف بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله فلم يعبده ولم يتخذه آلهة، وإنما نهاه صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وقال له لو كنت آمراً أحداً لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول ذلك لو كان كفراً!
( روى مسلم في صحيحه (2404) ـ من جملةِ حديثٍ ـ عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: [لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ.. } دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسَلَّمَ عَلِيّاً وَفَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلِي))].
(9) رواه مسلم (975) وغيره.
(10) رواه النسائي (2040) وأبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (3/53).
(11) قال النووي في ((شرح صحيح مسلم)) (17/207): [هَكَذَا هُوَ فِي عَامَّة النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة (كَيْف يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا) مِنْ غَيْر نُون، وَهِيَ لُغَة صَحِيحَة وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة الاسْتِعْمَال، وَسَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات، وَمِنْهَا: الْحَدِيث السَّابِق فِي كِتَاب الإيمَان: ((لا تَدْخُلُوا الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا))]. وما قاله النووي هنا فيه نظر. وتأمل ما قاله في ((شرح مسلم)) (13/196) و (16/76) في أمر لغوي آخر مشابه لهذا.
(12) هذا لفظ مسلم في الصحيح (2875) وهو أيضاً فيه برقم (2873)، وهو في البخاري بألفاظ وطرق متعددة بالأرقام التالية: (1370و3976و3981و4026).
...... يتبع
وقد احتجَّ من أحدث هذا التقسيم بأنَّ الكفار الذين بُعِثَ فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يُقِرُّون بوجود الله تعالى وأنه الخالق ولكنهم اتخذوا معه شركاء فعبدوهم معه واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } العنكبوت: 61، وبقوله تعالى { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } الزمر: 3 ونحوها.
والجواب على ذلك: أنَّ هذه الأقوال مثل: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ونحوها إنما صدرت من أولئك المشركين عند إقامة الحجة عليهم، أي في مجلس المناظرة عندما أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم الحجة على وجود الله تعالى ولم يجدوا بُدَّاً من الجواب بذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأموراً بمناظرتهم ومجادلتهم في مثل قوله تعالى: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } النحل: 125، فأولئك المشركون كانوا لا يعتقدون بما تتضمنه تلك الكلمات الصادرة عنهم والمذكورة في الآيتين السابقتين من الاعتراف بالله تعالى بدليل قوله تعالى في آية الزُّمَر السابقة: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }، فهم كاذبون فيما قالوه لأنهم اضطروا إليه، وهم كفار فلا يصح بعد هذا أن يقال بأنهم موحدون توحيد ربوبية، وبدليل قوله تعالى في آخر آية العنكبوت السابقة { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } والإفك أشد الكذب، أي أنَّ هذا القول كذب منهم فهو من باب { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } التوبة: 8.
والذي يؤكد ما قلناه ويقطع بما ذهبنا إليه آيات أخرى في القرآن الكريم تنص على أنَّ هؤلاء الكفار ما كانوا يعترفون بالله تعالى، ومنها قوله تعالى:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } الفرقان: 60 فهل هؤلاء يقولون بوجود الرحمن الرحيم، وقوله تعالى:
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي ءَامَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } الأعراف: 46. وقال تعالى:
{ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } الجاثية: 24. وقال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ } يس: 78. وقول سيدنا يوسف لقومه: { ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } يوسف: 39، وقول سيدنا إبراهيم عليه السلام: { أَئِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } الصافات: 86، وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً } يس: 74، وقول كفار مكة حينما دعاهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كلمة التوحيد: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً } ص: 5، وللعبد الفقير رسالة خاصة في إبطال تقسيم التوحيد سميتها ((التنديد بمن عدَّدَ التوحيد)) فليرجع إليها مَنْ شاء التوسع.
والمقصود هنا: أن نبين بأن دعاء أو سؤال غير الله تعالى ليس شِرْكاً ولا كفراً ولا إثم فيه، بل ولا هو مكروه كما يزعم من يقول بأن دعاء أي نداء الأموات أو غير الله تعالى كفر وشِرْك به سبحانه.
فالتوسل هو: أن يطلب الداعي من الله تعالى بمنزلة أو بجاه نبي أو ولي أو مَلَك أو غير ذلك. والاستغاثة هي: أن يتوجه السائل والداعي بالخطاب إلى النبي أو غيره ممن يعتقد قربهم ومنزلتهم عند الله تعالى أن يدعوا الله تعالى له في تحقيق غرضه ومقصوده.
ونقصد هنا بيان أن الاستغاثة ليست شركاً ولا كفراً كما يدَّعي بعضهم، ومختصر إثبات ذلك أن معنى الدعاء هو السؤال(3)، ويجوز شرعاً أن تسأل غير الله تعالى، وذلك مثلاً بأن تسأل أخاك أو ولدك أو أباك أو صديقك أن يعينك في أمر من الأمور الدنيوية أو الدينية، والأمر الذي لا يجوز في ذلك هو سؤال غير الله تعالى مع اعتقاد أنه إله أو رب دون الله تعالى.
أما سؤال الأنبياء والأئمة والأولياء ونحوهم والدعاء عندهم فإنما هو ليدعوا الله لهؤلاء السائلين أو ليتوسل بهم السائلون إلى الله سبحانه، فالداعون عند الأنبياء والأولياء أو الداعون لهم الطالبون منهم أن يدعوا الله تعالى ليقضيَ حوائجهم لا يعتقدون أنهم آلهة من دون الله تعالى ولا يعبدونهم، بل يعتقدون أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وإذا لم يكونوا أحياء فإنهم يسمعون كلام من يطلب منهم، وكل هذا لا يعارض الشرع وإنما هو مبني على أدلة ثابتة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، سواء قبلها المتمسلفون أم رفضوها.
فسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً كان يحيي الموتى بإذن الله تعالى ويبرىء الأكمه والأبرص وغير ذلك فلو سأله شخص من قومه أن يحيي له ميته لم يكفر مع أن إحياء الموتى خصيصة من خصائص الألوهية، لكن لما اعتقد ذلك الشخص الطالب أنه ليس إلهاً ولم يعبده لم يكن ذلك كفراً ولا شركاً ولا منابذاً للتوحيد. قال تعالى حكاية عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام:
{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } آل عمران: 49.
فإذا جاز أن يعطيَ الله تعالى هذه الخصائص بإذنه لبعض خلقه وعبيده مثل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو عبد فقير لله تعالى فَلِمَ يمنع هؤلاء بعض الخصائص مثل أن يسمع الموتى استغاثة من يستغيث بهم في حاجته فيدعون الله تعالى له ؟ ونحن نقول بأن المستغيثين والمتوسلين بالأنبياء والصالحين من عباد الله تعالى لا يقصدون إلا أن يطلبوا منهم أن يدعو الله لهم! فدعاء المستغيثين الأنبياء لقضاء حوائجهم إنما هو لاعتقادهم بعظيم منزلتهم عند الله تعالى وهم لا يعبدون إلا الله ولا يعتقدون أن هناك إلهاً غير الله تعالى، وهذا خلاف حال المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتخذونها آلهة من دون الله تعالى! فقد أخطأ المتمسلفون الذين يوردون الآيات النازلة في عبدة الأصنام والأوثان فيجعلونها في عباد الرحمن ويزعمون أنهم سواء!! { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } الكهف: 5 !
ودليل المبتدعة في ادّعائهم بأن دعاء غير الله تعالى عبادة له وبالتالي فهو شِرْك وكفر هو: بعض الآيات التي يُذْكَر فيها لفظ الدعاء فيخلطون بين معاني الدعاء تدليساً ويضيفون لها حديث النعمان بن بشير قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))(4)، وَقَرَأَ { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إِلَى قَوْلِهِ { دَاخِرِينَ }(5)، فيمزجون ما بين ظواهر بعض الآيات وهذا الحديث ليموهوا بذلك على الناس.
والمقصود بالحديث هنا ـ إن صحَّ ـ أن دعاء الله تعالى من أعظم
العبادة(6)، وهذا ليس فيه أن دعاء (أي نداء) غير الله تعالى عبادةٌ سواء كان المنادَى حياً أو ميتاً ولو كان الدعاء مع خضوعٍ وذلَّة، فالولد مثلاً قد يدعو أي يسأل أباه شيئاً وهو يخاطبه مُبجِّلاً ومُعظِّماً إيّاه، أو الطالب مع أستاذه وشيخه، أو الجندي مع قائده، ونحوهم، ولا يعتبر ذلك عبادة لهم شرعاً، كما لا يُعتبر السجود على الحجر الأسود واستلامه وتقبيله من الشرك والكفر في شيء، وكذلك سجود إخوة سيدنا يوسف وأبوه ـ النبي ـ عليهم الصلاة والسلام وأمه له على وجه التحية عبادة له ولا من الشرك والكفر كذلك(7)! وكذلك أَمَرَ اللهُ تعالى الملائكة بالسجود لسيدنا آدم عليه الصلاة والسلام والله سبحانه لا يأمر بالفحشاء!
وقد بيَّن القرآن الكريم أن دعاء أي نداء غير الله تعالى ليس عبادة في مثل قوله تعالى لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الطير اللاتي أمره أن يذبحهن: { ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } البقرة: 260، وقوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } آل عمران: 61، وقوله تعالى: { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } آل عمران: 153، وكل نص جاء فيه النهي عن دعاء غير الله تعالى فالمراد به النهي عن عبادة غير الله سبحانه وتعالى واتخاذه آلهة، أما مجرد الدعاء الذي هو النداء سواء كان بطلب أم بغير طلب فإنه ليس من الشرك والكفر في شيء، بل هو سنة مستحبة أحياناً يثاب المرء عليها، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعَلّم من يزور القبور من أصحابه أن يدعو أصحاب القبور من الأموات أي يناديهم ويوجّه لهم الخطاب بالعبارة التالية:
((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية))(9).
وفي رواية أخرى صحيحة كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أَتَى عَلَى الْمَقَابِرِ قَالَ: ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ لَنَا وَلَكُمْ))(10).
فخطاب الأموات ونداؤهم ـ أي دعاؤهم ـ ليس كفراً ولا شركاً ولا بدعة بل هو مستحب أحياناً، خلاف ما يشيعه ويذيعه المبتدعة، وقد ثبت أيضاً في الصحيحين من طرق عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلاثاً ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: ((يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا)). فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا(11) وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا ؟ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا)).. الحديث(12).
فمن خلال هذه الأدلة يتبين لنا أن الدعاء أي النداء أو الطلب من غير الله تعالى لا يكون كفراً ولا شركاً ولا بدعة ضلالة كما يدَّعيه بعض الناس.
....... يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية:
(1) ذكر ذلك في ((مجموع فتاواه)) (3/443).
(2) مقصوده بأفراخ المعتزلة: الأشاعرة، لأنَّ الأشعري كان تلميذاً ـ كما يقال ـ عند المعتزلة دهراً طويلاً. والذي يؤكد هذا عندي ويؤكد نظرتهم هذه للأشاعرة قول الألباني في صحيحته (6/676) ضمن عبارة هناك: ((أعداء السنة من المتمذهبة والأشاعرة والمتصوفة وغيرهم))!! وأقول: إنَّ أعداء سنة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هم الكفار والمنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار لا هؤلاء الموحدون من السادة الأشعرية وغيرهم.
(3) قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/94): [والدعاء الطلب، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله، ودعوت فلاناً سألته، ودعوته استغثته، ويطلق أيضاً على رفعة القدر كقوله تعالى { ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة }، كذا قال الراغب، ويمكن ردُّه إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضاً على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء].
(4) حديث ضعيف. رواه الترمذي (2969و3247و3372)، وأبو داود (1479)، وابن ماجه (3828)، وأحمد (4/267)، وصححه الترمذي، لكن النعمان بن بشير لا يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الحافظ المزي في ((تهذيب الكمال)) (29/412) في ترجمة النعمان بن بشير: ((وقال يحيى بن معين: أهل المدينة يقولون: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل العراق يصححون سماعه منه)). قلت: أهل المدينة التي وُلِد فيها هم أعلم به منهم، فيثبت بهذا أنه كان من صغار الصحابة وممن له رؤية دون سماع، ولأنهم اختلفوا في عمره عند وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل كان عمره ست أو ثماني سنوات. وتجد الكلام عليه في التعليق على النص (90) في كتاب العلو بتحقيقنا. وفي إسناد الحديث أيضاً يُسَيع الحضرمي الكندي وهو وإن وثقه النسائي إلا أنه لم يرو عنه إلا واحد وهو ذر الهَمْداني. وهذا يحكم على الحديث أنه ليس بذاك. فلا يجوز أن يبنى عليه مثل هذا الأمر العظيم الذي يقوم على تكفير المسلمين الموحدين بدعوى أن لديهم خللاً في توحيد الألوهية المخترع.
(5) لاحظ هنا أن ظاهر هذا النص عام وإن كان عمومه غير مراد، والقَرْنيون يحتجون به على أن من دعا غير الله تعالى فقد كفر وأشرك على وجه العموم، دون أن يميزوا بين من يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر الله له أو ليدعو الله تعالى له بقضاء حاجة، وبين من يعتقد أن النبي يقضي الحوائج من دون الله أو بغير إذن الله تعالى.
(6) وقد بيَّن الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/94) معنى هذا الحديث عند الجمهور فقال: [وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر
((الحج عرفة))، أي معظم الحج وركنه الأكبر].
(7) وما يتوهمه المتمسلفون بأن ما أذن الله تعالى به كتعظيم الحجر الأسود أو الكعبة المشرفة أو سجود آل سيدنا يوسف له لا يكون كفراً ولا شركاً وما لم يأذن الله به فهو كفر وشرك توهم فاسد مردود! لأن الكفرَ كُفْرٌ في أي حال ولا يميزه هنا عن غيره إلا النية والقصد! وقد روى عبدالله بن أبي أوفى قال: قَدِمَ مُعَاذٌ الْيَمَنَ ـ أَوْ قَالَ الشَّامَ ـ فَرَأَى النَّصَارَى تَسْجُدُ لِبَطَارِقَتِهَا وَأَسَاقِفَتِهَا فَرَوَّأَ فِي نَفْسِهِ (أي رأى ذلك وألزم نفسه به) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَحَقُّ أَنْ يُعَظَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ النَّصَارَى تَسْجُدُ لِبَطَارِقَتِهَا وَأَسَاقِفَتِهَا فَرَوَّأْتُ فِي نَفْسِي أَنَّكَ أَحَقُّ أَنْ تُعَظَّمَ. فَقَالَ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)). رواه أحمد (4/381)، وعبد الرزاق (11/301)، وصححه الألباني في صحيحته (3/202أثناء تخريج الحديث 1203). ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ما فعله من السجود كفر وشرك لأن معاذاً رضي الله عنه معترف بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله فلم يعبده ولم يتخذه آلهة، وإنما نهاه صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وقال له لو كنت آمراً أحداً لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول ذلك لو كان كفراً!
( روى مسلم في صحيحه (2404) ـ من جملةِ حديثٍ ـ عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: [لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ.. } دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسَلَّمَ عَلِيّاً وَفَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلِي))].
(9) رواه مسلم (975) وغيره.
(10) رواه النسائي (2040) وأبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (3/53).
(11) قال النووي في ((شرح صحيح مسلم)) (17/207): [هَكَذَا هُوَ فِي عَامَّة النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة (كَيْف يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا) مِنْ غَيْر نُون، وَهِيَ لُغَة صَحِيحَة وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة الاسْتِعْمَال، وَسَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات، وَمِنْهَا: الْحَدِيث السَّابِق فِي كِتَاب الإيمَان: ((لا تَدْخُلُوا الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا))]. وما قاله النووي هنا فيه نظر. وتأمل ما قاله في ((شرح مسلم)) (13/196) و (16/76) في أمر لغوي آخر مشابه لهذا.
(12) هذا لفظ مسلم في الصحيح (2875) وهو أيضاً فيه برقم (2873)، وهو في البخاري بألفاظ وطرق متعددة بالأرقام التالية: (1370و3976و3981و4026).
...... يتبع