بيان مفصل لبطلان تثليث أو تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام (2)
مرسل: الثلاثاء نوفمبر 21, 2023 11:06 am
تكملة إبطال تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية وأسماء وصفات:
واستكمالاً لهذا الموضوع وليطلع القارىء الكريم على جلية الأمر ننقل هنا بعض أقوال مَنْ يدَّعي أن دعاء غير الله تعالى والطلب منه كفر وشرك وضلال ثم نفندها، فمن ذلك:
قول الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب في كتاب
((تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)) ص (639):
[ولقد جرَّدَ السلفُ الصالحُ التوحيدَ وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلَّمَ على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر(1)، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره:
((الدعاء هو العبادة))، فجرَّد السلفُ العبادةَ لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحُّم عليهم،.. ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيره على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك..](2).
وهذا الذي قاله سليمان بن عبدالله هنا منقول ومأخوذ برمته من كتاب ابن قيم الجوزية ((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) (1/200)، وإضافة إلى ذلك فإننا نزيد هنا بعض ما قاله ابن تيمية الحَرَّاني في هذه الباب فإنه إمام هذه الطائفة ومرجعهم، فقد جاء في ((مجموع الفتاوى)) (15/12):
[وقال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على قول الله عز وجل:
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف: 55، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف: 65: هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة ؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما ؛ وهما متلازمان. فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره ودفعه. وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود لا بُدَّ أن يكون مالكاً للنفع والضر(3). ولهذا أنكر تعالى على مَنْ عبد مِنْ دونه (أي غيره)(4) ما لا يملك ضراً ولا نفعاً(5). وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } يونس: 106، وقال: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } يونس: 18، فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضُّرَّ والنَّفع القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم(6). وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضُّر فهو يدعو للنفع والضُّر دعاء المسألة ويدعو خوفاً ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة. وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة(7). ومن ذلك قوله تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } غافر: 60، فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ؛ ولهذا أعقبه: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي.. } الآية. ويُفَسَّر الدعاء في الآية بهذا وهذا. وروى الترمذي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ((إن الدعاء هو العبادة)). ثم قرأ قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }.. الآية. قال الترمذي حديث حسن صحيح. وأما قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } الحج:73. وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } الآية النساء:117. وقوله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ } الآية فصلت: 48. وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر ؛ لوجوه ثلاثة: أحدها: أنهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } الزمر: 3، فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم....].
انتهى المقصود من قول ابن تيمية في هذه القضية وهو والقول الذي قبله ـ الذي نقله كاتبه عن ابن القيم ـ يعطي لمحة موجزة عن رأي هذه الطائفة وتفكيرهم وأدلتهم في هذه المسألة(!
وإذا تَفَحَّصْنا الآيات التي ذكرها ابن تيمية وغيره من شيعته الموافقين له في آرائه فإننا نجدها لا توافق مُدَّعاهم في أن نداء الأموات أو الأحياء والطلب منهم والاستعانة بهم كفر وشِرْك أكبر! ويكفي في مستهل عرضنا لتلك الآيات أن نورد لهم قول بعض الحفاظ والمحدثين الذين يعترفون بعلمهم وإيمانهم ويحترمونهم في هذه القضية! ومن ذلك قول الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (10/107) في ترجمة السيدة نفيسة:
[والدعاء مستجاب عند قبرها، بل وعند قبور الانبياء والصالحين، وفي المساجد،.... ولا ينهى الداعي عن الدعاء في وقت إلا وقت ـ قضاء ـ الحاجة، وفي الجماع، وشبه ذلك].
وقال الذهبي في ((السير)) (17/77) أيضاً: [قلت: والدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والأولياء، وفي سائر البقاع، لكن سبب الإجابة حضور الداعي، وخشوعه وابتهاله، وبلا ريب في البقعة المباركة،..].
أما حديث ((الدعاء هو العبادة)) فهو مع ضعفه ـ وإن صححه من صححه ـ إن سلَّمنا بثبوته جدلاً لا يدل على أن كل دعاء عبادة بل يدل على أن دعاء الله تعالى من جملة عبادته سبحانه، أي من جملة العبادات، وأما دعاء غير الله تعالى فلا يُعَدُّ عبادةً لهذا الغير إلا إذا اعتقد الداعي فيه أنه إله من دون الله تعالى، كما اعتقد أولئك المشركون في أصنامهم أنها آلهة من دون الله تعالى.
والآيات التي يوردها ابن تيمية وشيعته لا تدل على أن دعاء ـ أي نداء وطلب الحاجة من مخلوق يصح الطلب منه ـ غير الله تعالى عبادة لذلك المدعو ولا أنه من جملة الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى كما يزعم ابن تيمية ومقلدوه، وذلك لأن الذي يسأل أحداً من الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو الشهداء أن يدعو الله له بقضاء حوائجه لم يعبدهم ولم يتخذهم أرباباً ولا آلهة من دون الله تعالى! والداعي أو المنادي أو الطالب أو المستغيث أو المتوسل لا يعبد إلا الله ولا يعترف ويقر بالألوهية إلا لله تعالى وحده، فكيف يقيسه ابن تيمية ويشبهه بأولئك المشركين الذين جعلوا الأصنام والحجارة والشمس ونحوها آلهة من دون الله تعالى ؟!
ومن تأمل في آيات القرآن الكريم عرف أن ما يهذي به هؤلاء الذين يرمون الناس بالكفر والشِرْك وعبادة غير الله تعالى باطل من القول بنص الكتاب المبين، وذلك في مثل قوله سبحانه:
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } مريم: 81،
وقوله تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ } يس: 74،
وقوله تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } هود: 101،
وقال تعالى: { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } الأنبياء: 29،
وقال تعالى: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ } الأنبياء: 66،
وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ } الفرقان: 55، وقال تعالى: { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } النمل: 24،
وقال تعالى: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } العنكبوت: 17،
وهؤلاء الذين عبدوا غير الله تعالى واتخذوهم آلهة دون الله تعالى إذا قيل لهم اعبدوا الرحمن استنكروا ذلك كما أخبر الله تعالى عنهم حيث قال سبحانه: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } ص: 5-6،
وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } الفرقان: 60،
وقال تعالى: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } الرعد: 30.
وبذلك يظهر بطلان قول من قال: إن دعاء غير الله تعالى ـ أي نداءه والطلب منه ـ عبادة له وهو من جملة الكفر والشِرْك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية:
(1) في كتاب ((خلاصة الوفا في أخبار دار المصطفى)) للعلامة علي بن عبد الله السمهودي خلاف هذا عن الأئمة الأربعة، وهناك روايات أخرى عن بعض الأئمة الأربعة تخالف ذلك وقد بين السمهودي أنها شاذة مردودة! فمما قاله هناك: [وفي المستوعب لأبي عبد الله السامريّ الحنبلي ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره وذكر السلام والدعاء.. وقال عياض: قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلَّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم،.. وقال إبراهيم الحربيّ في مناسكه تولّي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه يعني القبر وفي مسند أبي حنيفة رحمه الله لأبي القاسم طلحة عن أبي حنيفة جاء أيوب السختيانيّ فدنا من قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستدبر القبلة وأقبل بوجهه إلى القبر وبكى بكاء غير متباك.. وعن أصحاب الشافعيّ وغيره يقف وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحضرة وهو قول ابن حنبل انتهى]. وسيأتي إن شاء الله تعالى أنه ثبت عن أحمد بن حنبل بالإسناد الصحيح أنه لا بأس باستلام القبر وتقبيله. روى الخطيب البغدادي في تاريخه (1/120) بإسناد صحيح عن أبي علي الخلال قال: [ما هَمَّني أمرٌ فقصدتُ قبرَ موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهَّل الله تعالى لي ما أحبُّ].
(2) إلى آخر ما قاله ذلك المؤلف من تضخيم زيارة قبور الأنبياء والصالحين وتصويرها بغير صورتها وحقيقتها، ولسنا بصدد الرد على كل ما قاله الآن.
(3) ومما يبطل هذه القاعدة الفاسدة أن الناس يملكون لبعضهم نفعاً وضراً، إذ يستطيع بعض الناس أن يساعدوا آخرين بإسعافهم بالطعام والشراب والمال وبناء المساكن وإيواء المضطرين، وإذا دعا ـ أي طلب وسأل ـ المحتاجون وأصحاب الضرورات المقتدرين على إسعافهم فهل يُعْتَبر المقتدرون معبوداً لأولئك السائلين حسب ما يدَّعيه ابن تيمية ؟! مع ملاحظة أن الله تعالى أثبت وكذلك رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن هناك من الخلق مَنْ يضر أو ينفع! ومن ذلك ما جاء في البخاري (927) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبةٍ: ((مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ)). وقال تعالى:
{ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ } الرعد: 17!
(4) تذكَّر أن معنى (مِنْ دونه): أي غيره، وفي تفسير الجلالين: [{ إن الله يعلم ما } بمعنى الذي { يدعون } يعبدون بالياء والتاء { من دونه } غيره..].
(5) المراد بذلك الأصنام التي كانوا يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع وابن تيمية يحملها على أمور أخرى مغالطاً!
(6) المقصودون بذلك كما ترى في الآيات التي ذكرها ابن تيمية إنما هم الكفار الذين اتخذوا من دون الله آلهة فكانوا يعبدون الحجارة والأصنام ويطلبون منها قضاء حوائجهم وهي حجارة لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، أما المؤمنون الموحدون الذين يطلبون من الأنبياء والأئمة والأولياء ـ الأحياء عند ربهم والذين يسمعون صلاة من يصلي ويسلِّم عليهم ـ أن يدعوا الله تعالى لهم ويتوسلون بهم ليغفر الله لهم أو لقضاء حوائجهم فهم لا يعرفون ولا يعتقدون رباً وإلهاً لهم غير الله تعالى، فقياس المؤمنين الموحدين لله تعالى بعابدي الأوثان والأصنام الذين اتخذوها آلهة من دون الله تعالى قياس فاسد باطل عقلاً ونقلاً!
(7) لاحظ أنه هنا لم يقيده بدعاء الأحياء ولا الأموات بل أطلق ذلك!
(8)وابن تيمية يغالط في هذه المسائل عند الحجاج! فيحتج بالأحاديث الواهية والضعيفة لتأييد مقصده ومراده! ويعيب على غيره احتجاجه بالأحاديث الضعيفة! قال ابن تيمية في رده على الشيخ البكري (1/50) الذي رد عليه في مسألة الاستغاثة: [إن مثل هذا لا يخاطب خطاب العلماء و إنما يستحق التأديب البليغ و النكال الوجيع الذي يليق بمثله من السفهاء إذا سلم من التكفير فإنه لجهله ليس له خبرة بالأدلة الشرعية التي تتلقى منها الأحكام]. يقصد أنه لا يعرف ما ثبت من الأحاديث وما لم يثبت! كما يتبجّح بذلك أيضاً الألباني المتناقض! ثم نجد ابن تيمية يحتج بأحاديث مردودة ضعيفة أو واهية في هذه البابة أو لا تدل على مقصوده كحديث ((الدعاء هو العبادة))! ومن أمثلة ذلك أيضاً: قول ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/104): [وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ ؛ فَقَالَ: (شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ لا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ) فَأَقَرَّهُ عَلَى قَوْلِهِ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك]. وهو حديث واهي الإسناد موضوع المتن مشهور بحديث الأطيط كما بينته في التعليق على كتاب ((العلو)) للذهبي النص رقم (56) ص (193) وتجد الكلام عليه هناك. وقال في ((مجموع الفتاوى)) (1/329): [وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ: اغْفِرْ لِي وَاسْقِنَا الْغَيْثَ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أَوْ اهْدِ قُلُوبَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الصِّدِّيقُ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالَ: ((إنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ)) وَهَذَا فِي الإسْتِعَانَةِ مِثْلُ ذَلِكَ]. وهذا حديث واهٍ، رواه أحمد في مسنده (5/317) بلفظ (لا يقام لي إنما يقام لله تعالى) وليس (لا يستغاث بي..)، ورواه الطبراني باللفظ الذي ذكره ابن تيمية، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (10/246)، وفي إسناده عند جميعهم ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد، وهو ضعيف والحديث منكر. وبذلك يستدل ابن تيمية بالموضوعات والواهيات ويخترع معانٍ باطلة للآيات تؤيد هواه ومراده!
_________________________
واستكمالاً لهذا الموضوع وليطلع القارىء الكريم على جلية الأمر ننقل هنا بعض أقوال مَنْ يدَّعي أن دعاء غير الله تعالى والطلب منه كفر وشرك وضلال ثم نفندها، فمن ذلك:
قول الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب في كتاب
((تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)) ص (639):
[ولقد جرَّدَ السلفُ الصالحُ التوحيدَ وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلَّمَ على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر(1)، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره:
((الدعاء هو العبادة))، فجرَّد السلفُ العبادةَ لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحُّم عليهم،.. ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيره على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك..](2).
وهذا الذي قاله سليمان بن عبدالله هنا منقول ومأخوذ برمته من كتاب ابن قيم الجوزية ((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) (1/200)، وإضافة إلى ذلك فإننا نزيد هنا بعض ما قاله ابن تيمية الحَرَّاني في هذه الباب فإنه إمام هذه الطائفة ومرجعهم، فقد جاء في ((مجموع الفتاوى)) (15/12):
[وقال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على قول الله عز وجل:
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف: 55، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف: 65: هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة ؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما ؛ وهما متلازمان. فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره ودفعه. وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود لا بُدَّ أن يكون مالكاً للنفع والضر(3). ولهذا أنكر تعالى على مَنْ عبد مِنْ دونه (أي غيره)(4) ما لا يملك ضراً ولا نفعاً(5). وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } يونس: 106، وقال: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } يونس: 18، فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضُّرَّ والنَّفع القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم(6). وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضُّر فهو يدعو للنفع والضُّر دعاء المسألة ويدعو خوفاً ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة. وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة(7). ومن ذلك قوله تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } غافر: 60، فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ؛ ولهذا أعقبه: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي.. } الآية. ويُفَسَّر الدعاء في الآية بهذا وهذا. وروى الترمذي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ((إن الدعاء هو العبادة)). ثم قرأ قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }.. الآية. قال الترمذي حديث حسن صحيح. وأما قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } الحج:73. وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } الآية النساء:117. وقوله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ } الآية فصلت: 48. وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر ؛ لوجوه ثلاثة: أحدها: أنهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } الزمر: 3، فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم....].
انتهى المقصود من قول ابن تيمية في هذه القضية وهو والقول الذي قبله ـ الذي نقله كاتبه عن ابن القيم ـ يعطي لمحة موجزة عن رأي هذه الطائفة وتفكيرهم وأدلتهم في هذه المسألة(!
وإذا تَفَحَّصْنا الآيات التي ذكرها ابن تيمية وغيره من شيعته الموافقين له في آرائه فإننا نجدها لا توافق مُدَّعاهم في أن نداء الأموات أو الأحياء والطلب منهم والاستعانة بهم كفر وشِرْك أكبر! ويكفي في مستهل عرضنا لتلك الآيات أن نورد لهم قول بعض الحفاظ والمحدثين الذين يعترفون بعلمهم وإيمانهم ويحترمونهم في هذه القضية! ومن ذلك قول الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (10/107) في ترجمة السيدة نفيسة:
[والدعاء مستجاب عند قبرها، بل وعند قبور الانبياء والصالحين، وفي المساجد،.... ولا ينهى الداعي عن الدعاء في وقت إلا وقت ـ قضاء ـ الحاجة، وفي الجماع، وشبه ذلك].
وقال الذهبي في ((السير)) (17/77) أيضاً: [قلت: والدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والأولياء، وفي سائر البقاع، لكن سبب الإجابة حضور الداعي، وخشوعه وابتهاله، وبلا ريب في البقعة المباركة،..].
أما حديث ((الدعاء هو العبادة)) فهو مع ضعفه ـ وإن صححه من صححه ـ إن سلَّمنا بثبوته جدلاً لا يدل على أن كل دعاء عبادة بل يدل على أن دعاء الله تعالى من جملة عبادته سبحانه، أي من جملة العبادات، وأما دعاء غير الله تعالى فلا يُعَدُّ عبادةً لهذا الغير إلا إذا اعتقد الداعي فيه أنه إله من دون الله تعالى، كما اعتقد أولئك المشركون في أصنامهم أنها آلهة من دون الله تعالى.
والآيات التي يوردها ابن تيمية وشيعته لا تدل على أن دعاء ـ أي نداء وطلب الحاجة من مخلوق يصح الطلب منه ـ غير الله تعالى عبادة لذلك المدعو ولا أنه من جملة الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى كما يزعم ابن تيمية ومقلدوه، وذلك لأن الذي يسأل أحداً من الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو الشهداء أن يدعو الله له بقضاء حوائجه لم يعبدهم ولم يتخذهم أرباباً ولا آلهة من دون الله تعالى! والداعي أو المنادي أو الطالب أو المستغيث أو المتوسل لا يعبد إلا الله ولا يعترف ويقر بالألوهية إلا لله تعالى وحده، فكيف يقيسه ابن تيمية ويشبهه بأولئك المشركين الذين جعلوا الأصنام والحجارة والشمس ونحوها آلهة من دون الله تعالى ؟!
ومن تأمل في آيات القرآن الكريم عرف أن ما يهذي به هؤلاء الذين يرمون الناس بالكفر والشِرْك وعبادة غير الله تعالى باطل من القول بنص الكتاب المبين، وذلك في مثل قوله سبحانه:
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } مريم: 81،
وقوله تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ } يس: 74،
وقوله تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } هود: 101،
وقال تعالى: { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } الأنبياء: 29،
وقال تعالى: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ } الأنبياء: 66،
وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ } الفرقان: 55، وقال تعالى: { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } النمل: 24،
وقال تعالى: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } العنكبوت: 17،
وهؤلاء الذين عبدوا غير الله تعالى واتخذوهم آلهة دون الله تعالى إذا قيل لهم اعبدوا الرحمن استنكروا ذلك كما أخبر الله تعالى عنهم حيث قال سبحانه: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } ص: 5-6،
وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } الفرقان: 60،
وقال تعالى: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } الرعد: 30.
وبذلك يظهر بطلان قول من قال: إن دعاء غير الله تعالى ـ أي نداءه والطلب منه ـ عبادة له وهو من جملة الكفر والشِرْك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية:
(1) في كتاب ((خلاصة الوفا في أخبار دار المصطفى)) للعلامة علي بن عبد الله السمهودي خلاف هذا عن الأئمة الأربعة، وهناك روايات أخرى عن بعض الأئمة الأربعة تخالف ذلك وقد بين السمهودي أنها شاذة مردودة! فمما قاله هناك: [وفي المستوعب لأبي عبد الله السامريّ الحنبلي ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره وذكر السلام والدعاء.. وقال عياض: قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلَّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم،.. وقال إبراهيم الحربيّ في مناسكه تولّي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه يعني القبر وفي مسند أبي حنيفة رحمه الله لأبي القاسم طلحة عن أبي حنيفة جاء أيوب السختيانيّ فدنا من قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستدبر القبلة وأقبل بوجهه إلى القبر وبكى بكاء غير متباك.. وعن أصحاب الشافعيّ وغيره يقف وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحضرة وهو قول ابن حنبل انتهى]. وسيأتي إن شاء الله تعالى أنه ثبت عن أحمد بن حنبل بالإسناد الصحيح أنه لا بأس باستلام القبر وتقبيله. روى الخطيب البغدادي في تاريخه (1/120) بإسناد صحيح عن أبي علي الخلال قال: [ما هَمَّني أمرٌ فقصدتُ قبرَ موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهَّل الله تعالى لي ما أحبُّ].
(2) إلى آخر ما قاله ذلك المؤلف من تضخيم زيارة قبور الأنبياء والصالحين وتصويرها بغير صورتها وحقيقتها، ولسنا بصدد الرد على كل ما قاله الآن.
(3) ومما يبطل هذه القاعدة الفاسدة أن الناس يملكون لبعضهم نفعاً وضراً، إذ يستطيع بعض الناس أن يساعدوا آخرين بإسعافهم بالطعام والشراب والمال وبناء المساكن وإيواء المضطرين، وإذا دعا ـ أي طلب وسأل ـ المحتاجون وأصحاب الضرورات المقتدرين على إسعافهم فهل يُعْتَبر المقتدرون معبوداً لأولئك السائلين حسب ما يدَّعيه ابن تيمية ؟! مع ملاحظة أن الله تعالى أثبت وكذلك رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن هناك من الخلق مَنْ يضر أو ينفع! ومن ذلك ما جاء في البخاري (927) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبةٍ: ((مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ)). وقال تعالى:
{ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ } الرعد: 17!
(4) تذكَّر أن معنى (مِنْ دونه): أي غيره، وفي تفسير الجلالين: [{ إن الله يعلم ما } بمعنى الذي { يدعون } يعبدون بالياء والتاء { من دونه } غيره..].
(5) المراد بذلك الأصنام التي كانوا يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع وابن تيمية يحملها على أمور أخرى مغالطاً!
(6) المقصودون بذلك كما ترى في الآيات التي ذكرها ابن تيمية إنما هم الكفار الذين اتخذوا من دون الله آلهة فكانوا يعبدون الحجارة والأصنام ويطلبون منها قضاء حوائجهم وهي حجارة لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، أما المؤمنون الموحدون الذين يطلبون من الأنبياء والأئمة والأولياء ـ الأحياء عند ربهم والذين يسمعون صلاة من يصلي ويسلِّم عليهم ـ أن يدعوا الله تعالى لهم ويتوسلون بهم ليغفر الله لهم أو لقضاء حوائجهم فهم لا يعرفون ولا يعتقدون رباً وإلهاً لهم غير الله تعالى، فقياس المؤمنين الموحدين لله تعالى بعابدي الأوثان والأصنام الذين اتخذوها آلهة من دون الله تعالى قياس فاسد باطل عقلاً ونقلاً!
(7) لاحظ أنه هنا لم يقيده بدعاء الأحياء ولا الأموات بل أطلق ذلك!
(8)وابن تيمية يغالط في هذه المسائل عند الحجاج! فيحتج بالأحاديث الواهية والضعيفة لتأييد مقصده ومراده! ويعيب على غيره احتجاجه بالأحاديث الضعيفة! قال ابن تيمية في رده على الشيخ البكري (1/50) الذي رد عليه في مسألة الاستغاثة: [إن مثل هذا لا يخاطب خطاب العلماء و إنما يستحق التأديب البليغ و النكال الوجيع الذي يليق بمثله من السفهاء إذا سلم من التكفير فإنه لجهله ليس له خبرة بالأدلة الشرعية التي تتلقى منها الأحكام]. يقصد أنه لا يعرف ما ثبت من الأحاديث وما لم يثبت! كما يتبجّح بذلك أيضاً الألباني المتناقض! ثم نجد ابن تيمية يحتج بأحاديث مردودة ضعيفة أو واهية في هذه البابة أو لا تدل على مقصوده كحديث ((الدعاء هو العبادة))! ومن أمثلة ذلك أيضاً: قول ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/104): [وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ ؛ فَقَالَ: (شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ لا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ) فَأَقَرَّهُ عَلَى قَوْلِهِ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك]. وهو حديث واهي الإسناد موضوع المتن مشهور بحديث الأطيط كما بينته في التعليق على كتاب ((العلو)) للذهبي النص رقم (56) ص (193) وتجد الكلام عليه هناك. وقال في ((مجموع الفتاوى)) (1/329): [وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ: اغْفِرْ لِي وَاسْقِنَا الْغَيْثَ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أَوْ اهْدِ قُلُوبَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الصِّدِّيقُ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالَ: ((إنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ)) وَهَذَا فِي الإسْتِعَانَةِ مِثْلُ ذَلِكَ]. وهذا حديث واهٍ، رواه أحمد في مسنده (5/317) بلفظ (لا يقام لي إنما يقام لله تعالى) وليس (لا يستغاث بي..)، ورواه الطبراني باللفظ الذي ذكره ابن تيمية، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (10/246)، وفي إسناده عند جميعهم ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد، وهو ضعيف والحديث منكر. وبذلك يستدل ابن تيمية بالموضوعات والواهيات ويخترع معانٍ باطلة للآيات تؤيد هواه ومراده!
_________________________