صفحة 1 من 1

عرض نماذج من كلام ابن الجوزي ومقابله قول البيهقي في ذلك لزيادة كشفٍ عن حقيقة مسألة الأخذ بالظاهر في الصفات

مرسل: الاثنين ديسمبر 04, 2023 8:45 am
بواسطة cisayman3
قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن مجسمة الحنابلة في كتابه دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه:
[وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا بأنْ يقولوا صفة فعل، حتى قالوا صفة ذات، ثم لـمّا أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ومجيء وإتيان على معنى بِرٍّ ولطف، وساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن، ثم يتحرّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوامَّ.. فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم أحد، إنما حَمْلكم إيّاها على الظاهر قبيح.. فقد ابتدع من سمى المضاف صفة.. قالوا: إن هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم قالوا: نحملها على ظواهرها، فواعجباً!! ما لا يعلمه إلا الله أيُّ ظاهرٍ له.. ؟! فهل ظاهر الاستواء إلا القعود، وظاهر النزول إلا الانتقال..].
بينما نجد الحافظ البيهقي يقول خلاف ذلك وإليكم مقتطفات من كلامه من كتابه ((الأسماء والصفات)): قال ص (353):
[والأصل أن كل صفة جاء بها الكتاب أو صحت بأخبار التواتر أو رويت من طريق الآحاد وكان لها أصل في الكتاب، أو خرجت على بعض معانيه فإنَّا نقول بها ونجريها على ظاهرها من غير تكييف وما لم يكن له في الكتاب ذكر، ولا في التواتر أصل، ولا له بمعاني الكتاب تعلق، وكان مجيئه من طريق الآحاد وأفضى بنا القول إذا أجريناه على ظاهره إلى التشبيه، فإنَّا نتأوله على معنى يحتمله الكلام ويزول معه معنى التشبيه، وهذا هو الفرق بين ما جاء من ذكر القَدَم والرِّجْل والسَّاق، وبين اليد والوجه والعين، وبالله العصمة].
تأمل كيف يقول بإجراء ما كان في القرآن وما تواتر على ظاهره وأما ما جاء من طريق الآحاد فيؤوِّله إذا أفضى إجراؤه على ظاهر معناه إلى التشبيه ؟ فيثبت الوجه واليد والعين ويؤول القدم والرِّجل والساق ؟! وأين هذا الاضطراب من القول المتين الذي قاله ابن الجوزي ؟! ثم يعود بعد ذلك إلى حديث النزول وهو آحاد فيقول بأنه يجريه على ظاهر لفظه ؟!
قال البيهقي في ((الأسماء والصفات)) ص (453) عند الكلام على حديث النزول:
[قال أبو سليمان الخطابي: هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان مذهب السلف فيها الإيمانَ بها وإجراءَها على ظاهرها ونفيَ الكيفية عنها].
فكيف يجرى على ظاهره مع نفي الكيفية ؟!
وقال البيهقي في ((الأسماء والصفات)) ص (345):
[وقال في هذا الحديث ((يكشف ربنا عن ساقه)) رواه مسلم عن عيسى بن حماد عن الليث. كما رواه ابن بكير، وروى ذلك أيضاً عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: هذا الحديث مما تهيب القول فيه شيوخنا، فأجروه على ظاهر لفظه، ولم يكشفوا عن باطن معناه، على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل مالا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب، وقد تأوله بعضهم على معنى قوله يوم يكشف عن ساق، فروى عن ابن عباس أنه قال: عن شدة وكرب].
فكيف يُجْرونه على ظاهر لفظه مع عدم الكشف عن باطن معناه ؟! هذا تناقض! وقد قال في النص السابق لهذا النص بأن الساق يؤوَّل! ثم كيف يعترف ـ أو يعترفون ـ بأن ابن عباس يؤوله بالشدة ثم يخالفونه فيجرونه على ظاهر لفظه بعكس ما عليه الصحابة ؟! فهذه هي الطريقة المحرمة المردودة عندنا التي لا يجوز سلوكها البتة.
وفي المقابل يقول الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (3/30) عند شرح حديث النزول:
[وقد اختلف في معنى النزول على أقوال: فمنهم مَنْ حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم].
فأين هذا مما قاله البيهقي ونقله عن الخطَّابي ؟!
وقد تقدَّم في الكلام على صفة الإرادة قول العلامة شرف الدين التلمساني الأشعري (ت658هـ) في ((شرح معالم أصول الدين)) للفخر الرازي ص (327):
[وقد أثبت بعض الأشعرية لله تعالى صفات وراء ما ذُكِر من صفات المعاني سمَّاها صفات سمعية، وهي مدلول الوجه واليدين، وزعم أن ذلك يرجع إلى صفات زائدة، وهو ضعيف إذ لا يمتنع ردُّ ذلك إلى ما علمناه، فيرد الوجه إلى الوجود أو إلى أخص وصفه، واليدين إلى يدي القدرة والنعمة..].
وقد تلطف العلامة التلمساني معهم هنا بقوله (ضعيف) وإن كان حقيقة القول في ذلك أنه (باطل فاسد) و (تشبيه وتجسيم) كما قال الحافظ ابن حجر وغيره.
وبذلك يتبيَّن أن القول بالتفويض يسوق إلى التشبيه والتجسيم وأنه مذهب مضطرب خطير بعيد عن السلامة وصحة الاعتقاد المبني على تنزيه الله تعالى الواحد الأحد الذي { ليس كمثله شيء } { ولم يكن له كفواً أحد }.
مناقشة ما جاء عن البيهقي والخَطَّابي ونحوهما كالبغوي في القول بالظاهر:
وهؤلاء الثلاثة لهم قول متناقض في هذه المسألة وربما كان هؤلاء من أهم من أدخل في المذهب الأشعري فكرة أن مذهب السلف كان التفويض أو الإجراء على الظاهر، لكن قضية إجراء نصوص الصفات على ظاهرها لم يقل به أحد من السلف، وقد ذكر الحنابلة عن أحمد بن حنبل أنه قال في حديث من أحاديث الرؤية: (ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره ولا نناظر فيه
أحداً)، وهذا ذكره عنه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة، وعبدوس في روايته عنه.
وقال البيهقي في ((الأسماء والصفات)) ص (453) عن حديث النزول:
((قال أبو سليمان الخطَّابي: هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان مذهبُ السلف فيها الإيمانَ بها، وإجراءَها على ظاهرها ونفيَ الكيفية عنها)).
قال البيهقي في ((الأسماء والصفات)) ص (419) عن حديث الأطيط:
((وقد جعله أبو سليمان الخطَّابي (ت 388هـ) ثابتاً واشتغل بتأويله، فقال: هذا الكلام إذا أُجْرِيَ على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله تعالى وعن صفاته منفية)).
وقال الخطابي أيضاً ما مختصره كما في ((الأسماء والصفات)) ص (350) عند الكلام على أحاديث القَدَم والرِّجْل:
((.. الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين: منكر لما يروى من نوع هذه الأحاديث رأساً ومكذب به أصلاً.. والطائفة الأخرى مسلمة للرواية فيها ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهباً يكاد يفضي بهم إلى القول بالتشبيه ونحن نرغب عن الأمرين معاً، ولا نرضى بواحد منهما مذهباً، فيحق علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحت من طريق النقل والسند تأويلاً يخرج على معاني أصول الدين، ومذاهب العلماء.. قال أبو سليمان: وذكر القَدَم ههنا يحتمل أن يكون المراد به مَنْ قَدَّمهم الله للنار من أهلها، فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار. وكل شيء قَدَّمته فهو قَدَم، كما قيل لما هدمته هدم، ولما قبضته قبض، ومن هذا قوله عز وجل: { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } يونس: 2، أي ما قَدَّموه من الأعمال الصالحة. وقد روي معنى هذا عن الحسن..)).
وقال البغوي (ت 516هـ) في تفسيره المسمى ((معالم التنزيل)) (1/18):
[كل ما جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل في صفاته تعالى كالنفس والوجه والعين والإصبع واليد والرجل. والإيتان والمجيء والنزول إلى السماء والاستواء على العرش والضحك والفرح فهذه ونظائرها صفات لله تعالى عز وجل ورد بها السمع. فيجب الإيمان بها وإبقاؤها على ظاهرها معرضاً فيها عن التأويل مجتنباً عن التشبيه].
وهذا خلاف ما قاله السلف والخلف.
ومن العجائب أن البغوي نفسه قال في تفسيره ((معالم التنزيل))
(7/379): [{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } الذاريات:47 : بقوة وقدرة].
ومنه يظهر لنا اضطراب أقوالهم في هذه المسائل مما يوجب علينا عدم التعويل على ما يقولونه مما نرى أنه يخالف وجهة الصواب، فلا يجوز الالتفات إليه ولا التأثر به، ولا الاشتغال بتأويله والتسويغ لهم فيما قالوه، فإنه خطأ محض.
والله تعالى أعلم.