يستدّل بعض الناس اليوم وفي السابق بما يسمونه (الفطرة) فيقول أحدهم مثلاً: لا أرغب أن أتعلم علم التوحيد وهذه المسائل التي تعرضونها في كتب العقيدة وعلم الكلام إنما أحب أن أبقى على الفطرة!!
ويستدلّ من يقول بالفطرة بالحديث الصحيح:
((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) رواه البخاري (3/246) ومسلم (4/2047).
فيقولـــون: هذا الحديث يدلُّ على أن المولود يولد على الإسلام لأنه لم يذكر الإسلام فيه فهو الأصل وإنما ذكر تأثير الأبوبين أنهما قد يحرفانه إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية قالوا: فيكون معنى الفطرة هنا: الإسلام.
ونقول لهم: أخطأتم في الاستدلال!! لأن هذا الحديث ورد في رواية أخرى صحيحة في صحيح مسلم (2658) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه ((فإن كانا مسلمين فمسلم))!!
فاتضح بهذه الرواية فساد احتجاج من احتج بحديث الفطرة وقال ما قال
فيه!! وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن نوضح ما هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (يولد على الفطرة) فنقول:
معنى الفطرة هنا أي الخلقة الأصلية التي لم يَشُبْهَا شيء بعدُ، لأن المولود يولد ويخرج من بطن أمه لا علم عنده وخالياً من المعلومات بدليل قوله تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } النحل: 78، أي لتكسبوا المعلومات وتَعْقِلوا الحقائق بهذه الحواس، فهذه الآية الكريمة قاطعة للشغب في هذه المسألة قطعاً تاماً والحمد لله.
فمعنى الحديث أن المولود يولد على الخلقة الأصلية السليمة وهي المراد بالفطرة، إذ لا يعتبر هذا المولود مُشَبَّعاً بأي فكر من الأفكار وخاصة أفكار الكفر والإلحاد أو الشرك، فتؤثر فيه بعد ذلك عادات وأحوال واعتقادات المجتمع الذي يعيش فيه فتجعله ينقاد إليها، فإذا بقي كذلك لم يتنبّه إلى عقيدة الإسلام الصحيحة الحقة إلا بمن يُنَبّهه عليها، ولذلك بعث الله تعالى الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين وأمر العلماء والدعاة بل جميع المسلمين بالتبليغ!!
وبعض الناس يقولون كما تقدم: لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبواه يجعلانه مسلماً ونقول لهم: بل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((فإن كانا مسلمين فمسلم)) فقوله صلى الله عليه وآله وسلم ((كل مولود يولد على الفطرة)) لا يعني أن المولود عندما يولد تولد معه معلومات دينية في مختلف النواحي من العقيدة والفقه والحديث والتفسير وغيرها ؛ كما لا يعني ذلك ما يقولونه: من إن معرفة الله تعالى أمر مركوز في الفِطَر ؛ لقوله تعالى كما تقدم
{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً }!!
حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولدوا ولم تكن معهم معلومات إلا مَنْ أنطقهم الله تعالى في المهد على سبيل المعجزة والعبرة للخلق، ومن ذلك قول الله تعالى { ووجدك ضالاً فهدى } أي: ووجدك لا تعرف ما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها، وقال تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الإيمان } { وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً }!!
وبعضهم يورد مع الحديث الذي تكلمنا عليه وبيّنا معناه قوله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وليس معناه ما يتوهَّمون ويوهِمُون!!
فلو كان الناس قد خُلِقُوا وفُطِرُوا وَطُبِعُوا على الإيمان (والتوحيد ومعلومات العلو!!) التي قال الله عنها { لا تبديل لخلق الله } لم يستطع أحد أن يكفر ويخرج من الإسلام لأنه لا طاقة لمخلوق أن يغيّر ما قال الله تعالى
عنه: لا تبديل له، ونحن نرى الأمر في الواقع بخلاف ذلك فنرى من الناس مَنْ يكفر ويرتدّ عن دينه فيبدل الإيمان إلى الكفر!!
فصار إذاً أن لها معنى آخر غير ما خطر ببال المجسمة والمشبهة وأذاعوه!! وهو ما قاله الحذاق من أن الفطرة هنا هي القابلية التي خلقها الله تعالى في الإنسان للنظر في مصنوعات الله تعالى، والاستدلال بها على موجده، فيؤمن به ويتبع شرائعه، لكن قد تَعْرُضُ له عوارض تصرفه عن ذلك كتهويد أبويه له وتنصيرهما وإغوائهما له وإغواء شياطين الإنس والجن { لا تبديل لخلق الله } أي (لا تبديل لهذه القابلية) من جهة الخالق. أفاده الحافظ أبوحيان الأندلسي في ((البحر المحيط)) (8/389) وعقول المجسمة لا تصل لفهم كتاب الله الكريم ولا لسنة النبي الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم!! فتنبهوا!!
ومَنْ ذهب إلى غير ما قلناه وقررناه هنا لزمه القول بتناقض الآيات وحاشاه من ذلك!!
بل إن الاستدلال بالفطرة التي يزعمونها يستلزم هدم كثير من الآيات والأحاديث!! فالآيات الحاثة على التفكر في خلق السموات والأرض والآيات التي فيها الأمر بالنظر في المخلوقات لا قيمة لها ولا معنى من إيرادها ساعتئذ ما دام أن معرفة الله تعالى والإيمان بوجوده أمر مركوز في الفِطَرِ كما يزعمون، ولماذا أرسل الله تعالى الرسل يثبتون للكفار وجود الله تعالى حتى يؤمنوا به ما دام أن الأمر مركوز في النفوس ؟!
ومنه قول الله تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } إلى قوله
{ فَبُهِتَ الذي كفر } وقوله تعالى في قصة سيدنا موسى عليه السلام إن فرعون قال له: { قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } طه: 49 ـ 50 ؟!!
فقول مَنْ قال: ((أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم من حيث الأصل فكل مَنْ يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدرسوه كتبهم فليس من حق أي فرقة أن تدّعيه إلا أهل السنة والجماعة)) انتهى!!!
وما فائدة إرسال الأنبياء والمرسلين إذن إذا كان الناس ينشأون على عقيدة السلف المباركة!! بلا تلقين ولا تعليم ؟!! ما هذا إلا هراء!!
هو قول متهافت!!! وهو خطأ مجانب لنصوص الكتاب والسنة!! بل هو مجانب للواقع تماماً! فإن الله تعالى أرسل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليعلّموا الناس التوحيد والشرائع ولم يأت في نصٍ واحد أن الله تعالى قال: إذا أردتم أن تعرفوا عقيدة السلف الحقة فعليكم أن تسألوا الأطفال الصغار لأنهم وُلدوا عليها بفطرتهم، كما لم يأت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص واحد يقول ذلك!!
وما فائدة إرسال الرسل حينئذٍ إذا كان الناس يولدون على عقيدة السلف التي يدّعيها هؤلاء ؟!! ولماذا إذاً بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة يُعلِّم الناس العقيدة الصحيحة التي أرسله الله تعالى بها ويزرعها ويغرسها في قلوب أصحابه الكرام رضي الله عنهم ؟!!
زد على ذلك أن هناك أقواماً كُثُراً كانوا في الجاهلية الجهلاء قبل إرسال الرسل إليهم وآخرين عاشوا في وسط الأدغال ولم يخرجوا على عقيدة السلف ولا على عقيدة الإسلام، وإنما كانوا على عقيدة عبادة العِجْل أو النار أو الأصنام أو الكواكب أو غير ذلك مع أن أهل البدعة لم يلقنوهم ذلك!! وإنما تُرِكُوا بلا تلقين ولا تعليم!! فلعل عقيدة أصحاب الأدغال تلك هي عقيدة المجسمة والمشبهة الذين يحتجون بالفطرة!! وينشرون الاستدلال بها اليوم في المشرق والمغرب!! مستغلين الضحالة العلمية الملموسة عند غالب المسلمين من أهل هذا العصر!!
وبذلك تبين لنا بكل وضوح أن ما يسمونه دليل الفطرة ليس دليلاً شرعياً معتبراً ولا يصح لأي إنسان أن يستدل به لأنه إذا استدل به خالف نصوص الكتاب والسنة كما قدّمنا.
....... يتبع إن شاء الله الرد على موضوع عالم الذر والاستدلال على ذلك من قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم...] الآية.... والله الموفق
تكملة قضية الفطرة وتفنيد أدلتها ومنها الميثاق وعالم الذر:
معنى قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } الأعراف: 172.
ذهب قوم من أهل السنة ومن غيرهم ومن الصوفية خاصة إلى أن الله تعالى عندما خلق سيدنا آدم عليه السلام وأهبطه الأرض أخرج ذريته من صُلْبِهِ وهو في عرفات بقرب مكة وخاطبهم فقال لهم ألست بربكم.... وأجابوه: بلى شهدنا.... وذهب قوم من أكابر أهل العلم من أهل السنة وغيرهم إلى أن شيئاً من ذلك لم يكن! لأن الآية ليس فيها أن الله أخرج من ظهر سيدنا آدم وإنما من ظهور بني آدم ذريتهم وليس (ذريته).... الخ
وإنما فُسِّرت الآية بأن الله أخرج من ظهر سيدنا آدم ذريته بناء على آثار ونصوص من الإسرائيليات فليس ذلك بثابت!
قال العلامة البزدوي الحنفي المتوفى سنة 493هـ في ((أصول الدين)) ص (218):
((وقالت القدرية.... إن أخذ الميثاق لم يكن، وبه قال بعض أهل السنة والجماعة فيهم الشيخ أبو منصور الماتريدي، فهؤلاء قالوا: إنه لا فائدة في أخذ الميثاق على الذرية لأنه لو كان كذلك كان حكم الكفار حكم المرتدين وليس كذلك بإجماع الأمة.....)).
ومعنى الآية عندنا هو ما ذكره الحافظ أبو حيان وغيره وهو قوله في تفسيره ((البحر المحيط)) (5/218):
[{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } روي في الحديث من طرق: أخذ - الله - من ظهر آدم ذريته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه. واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه، وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية، وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو مُتَكَلَّف في التأويل، وأحسن ما تُكُلِّمَ به على هذه الآية ما فَسَّرَه به الزمخشري قال:
هي من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركَّبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه { أشهدهم على أنفسهم } وقررهم وقال
{ ألست بربكم } وكأنهم { قالوا بلى } أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفي كلام العرب، ونظيره قول الله عز وجل { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }. { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا آتينا طائعين } وقول الشاعر:
إذاً قالت الأنساع للبطن إلْحَقِي تقول له ريح الصباً قرقـــار
ومعلوم أنه لا قول ثَمَّ ؛ وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى، وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها كراهة أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين لم نُنَبَّهْ عليه، أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نُبِّهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم!
(فإن قلتَ): بنو آدم وذريتهم مَنْ هم، قلتُ: عنى ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا: { عزير ابن الله } وبذريتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عُطِفَتْ عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله { واسألهم عن القرية } و { إذ قالت أمة
منهم } { وإذ تأذن ربك } { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام مَنْ تَقَدَّمه].
وهذا أيضاً هو الذي اعتمده الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية حيث ذكر ذلك في أول تفسيرها (6/ الجزء التاسع/ص110) وكذا في آخرها ص (118). وكذلك ابن كثير في تفسيره. وكذلك الإمام القرطبي حيث قال في تفسيره (7/314) ما نصه:
((وقوله تعالى { وإذ أخذ ربك } أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أَخَذْتُ من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه الآية مُشْكَلَة().
وقد تَكَلَّمَ العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: ومعنى { أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم } دَلَّهُم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً. { ألست بربكم }
أي: قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في خلق السموات والأرض { قالتا أتينا طائعين }، ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها)). انتهى من القرطبي.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى قول ضعيف مرجوح عندنا في تفسير هذه الآية وهو أنهم قالوا بأن الله تعالى أخرج حقيقةً جميع ذرية سيدنا آدم من صلبه
(أي الأرواح) وأنه خاطبهم وقال لهم: ألستُ بربكم ؟ قالوا: بلى. ثم أعادهم في صلب سيدنا آدم عليه السلام.
استكمال بيان معنى قوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم..} وأنها لا تدل على عالم الذر المزعوم:
وإنني أنقل ثلاثة أحاديث هي عمدة أدلتهم على تفسير هذه الآية الكريمة بإخراج الذرية من صلب سيدنا آدم عليه السلام، والتي خالفوا لأجلها المعنى الذي قررناه ونقلناه عن أهل العلم الذين تقدَّم ذكرهم:
(الحديث الأول): روى ابن جرير في تفسيره عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان)) يعني عرفة
((فأخرج من صُلْبِهِ كل ذرية ذَرَأَها فنثرهم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلَّمهم فتلا فقال: { ألست بربكم ؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا..... } الآية - إلى ما فعل المبطلون)).
قلت: هذا الحديث لم يثبت رَفْعُه بل الصواب أنه موقوف على سيدنا ابن عباس رضي الله عنه (أي أنه كلام ابن عباس وليس هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صَرَّح بذلك جماعة من الحفاظ وأهل العلم، منهم ابن كثير في تفسيره(1)، وجزم الطبري بالقول الذي اخترناه كما تقدَّم.
والصواب أن هذا الحديث من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب فهذا الأَثَر لا تقوم به حجة في الاستدلال لا سيما وقد تقرَّر في علم الأصول بأن الراجح أن مذهب الصحابي ليس بحجة يجب الأخذ بها.
(الحديث الثاني): ما رواه البخاري (11/416) ومسلم (4/2161) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: ((يقول الله تعالى لأَهْوَنِ أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟ فيقول: نعم. فيقول: أردتُ منك أهون من هذا وأنت في صُلْبِ آدم: أن لا تشرك بي شيئاً فأبيتَ إلا أن تشرك بي)).
قلت: هذه اللفظة ((وأنت في صلب آدم)) مُدْرَجَة، وهي من زيادات أبى عمران الجوني أحد رواته، وذلك لأن البخاري ومسلماً رويا هذا الحديث من طرق عن قتادة عن سيدنا أنس وليس فيه هذه الزيادة (انظرالبخاري 11/400 ومسلم 4/2161 وغيرهما).
(الحديث الثالث): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وممن رواه ابن جرير في تفسيره (6/9/113) وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال: ((أُخِذُوا من ظَهْرِه كما يؤخذ بالمِشْط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم ؟ قالوا بلى، قالت
الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)).
وهذا الحديث لا يصح سنده لأن في سنده أحمد بن أبى طيبة حدث بأحاديث كثيرة أكثرها غرائب كما قال ابن عَدِيٍّ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه(2).
قلت: وقد شذَّ في روايته لهذا الحديث عن غيره فزاد فيه.
وقد اعتمد ما قلته فيه ابن كثير في ((تفسيره)) (2/273) وقال الحافظ ابن جرير الطبري عن هذا الحديث في ((تفسيره)) (9/6/118): ((ولا أعلمه
صحيحاً)). فتأمل جيداً!!
وبذلك يتبين ضعف ووهاء أدلة المستدلين لتفسير الآية بإخراج الذرية من صلب سيدنا آدم المخالف لظاهر الآية وصحة ما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق.
ومن الأحاديث الموضوعة في هذا الموضوع أيضاً حديث:
((إني سألت ربي أولاد المشركين فاعطانيهم خدماً لأهل الجنة، لأنهم لم يدركوا ما أدرك آباؤهم من الشرك، ولأنهم على الميثاق الأول))(3).
ومن هذا البيان يتبين أن استدلالاتهم على اثبات الفطرة بالمعنى الذي بينا بطلانه مبنية على جرف هار لا تثبت مقصودهم والله تعالى أعلم.
_________
الحواشي السفلية:
(1) حيث قال ابن كثير في تفسيره (2/272) عن روايات الموقوف: ((فهذا أكثر وأثبت)).
(2) كما في ((تهذيب التهذيب)) (1/39) وهذا تضعيف من أبي حاتم لهذا الرجل. قال الذهبي في ((السير)) (6/360): ((قلت: قد علمتُ بالاستقرار التام أن أبا حاتم الرازي إذا قال في رجل: يُكْتَبُ حديثه، أنه عنده ليس بحجة..)).
(3) أورده الحافظ السيوطي في ((الجامع الصغير)) برقم (2641) وعزاه للحكيم الترمذي من حديث سيدنا أنس!! وتعقَّبه المُنَاوي في ((فيض القدير)) (3/18) فقال: [إطلاق المصنف عزوه إليه غير سديد فإنه إنما ساقه بلفظ: ((يروى عن أنس ولم يذكره له إسناداً)) كما أورده الحافظ السيوطي برقم (3225) وأوله ((سألت ربي فأعطاني أولاد المشركين)) وقال عقبه: ((رواه أبو الحسن بن مُلَّة في أماليه عن أنس)) قلت: وهو هو الأول ؛ الموضوع لا غير. والصواب فيما أرى أن اسمه: أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن مِيْلَه الأصبهاني. مترجم في ((سير أعلام النبلاء)) (18/297) قال الذهبي هناك: ((وأملى عدة مجالس وقع لنا منها)).