صفحة 1 من 1

بطلان ادعاء أن المجاز لا يؤكد وعلاقة ذلك بقوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما}:

مرسل: السبت يناير 27, 2024 7:09 pm
بواسطة cisayman3
قال تلميذنا العالم النبيه نذير عطاونة في كتابه "القواعد اللغوية المبتدعة":
تأكيد المجاز
ظهرت هذه المسألة في أثناء النقاش الدائر في مسألة خلق القرآن، فزعم القائلون بقدم القرآن أن الله تعالى كلم سيدنا موسى عليه سلام الله على الحقيقة وذلك في قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً}(النساء/164)، ووجه استدلالهم أن المجاز لا يؤكد، وبما أن نص الآية الكريمة جاء فيه تأكيد الفعل (كلّم) بالمصدر (تكليماً) وزعموا انتفاء المجاز عن التكليم وأن نسبة الكلام إليه تعالى نسبة حقيقية على معنى أنها صفة من صفاته، وهم بذلك يَرَون دليلاً على قدم كلام الله تعالى أي قدم القرآن الكريم.
وهنا نرى أننا أمام القاعدة المزعومة: أن المجاز لا يؤكد.
ومن العجيب أن قوماً قالوا بهذه القاعدة ومنهم ابن قتيبة في كتابه ((تأويل مشكل القرآن)) في باب القول في المجاز (ص 111) حيث قال: [وتبين له أيضاً أن أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر ولا تؤكد بالتكرار... والله تعالى يقول: { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فوكد بالمصدر معنى الكلام ونفى عنه المجاز].
وادعى ابن تيمية ذلك ناقلاً ومقراً كما في ((الفتاوى الكبرى)) (1/297) قائلاً: [قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز].
وقال ابن القيم في ((الصواعق المرسلة)) (1/389): [فمن ذلك قوله تعالى { وكلم الله موسى تكليماً }، رفع سبحانه توهم المجاز في تكليمه لكليمه بالمصدر المؤكد الذي لا يشك عربي القلب واللسان أن المراد به إثبات تلك الحقيقة، كما تقول العرب: مات موتاً، ونزل نزولاً، ونظيره التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع والتأكيد بقوله حقاً].
وبهذه القاعدة قال أيضاً ابن أبي العز في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص170).
والأغرب من ذلك أن يدّعي الباقلاني إجماع أهل العربية على ذلك، فقال في ((التمهيد)) (ص 274): [ومما يدل على أنه لا يجوز أن يكون قوله: { أن نقول له كن فيكون } مجازاً واتساعاً وعلى معنى أنه يكونه من غير أن يقول له، اتفاق أهل العربية على أن العرب إذا ذكرت المصدر وأكدت به الفعل وجب أن يكون حقيقة، كقولهم: كلمته تكليماً، وضربته ضرباً، وأنه لذلك لم يجز أن يؤكدوا شيئاً من المجاز الذي سألتم عنه، فيقولوا: قال الحائط قولاً، وتخبرني العينان إخباراً، لأن ذلك يوجب أن تكون هذه الأوصاف حقائق فيما أجريت عليه، ولذلك صار قوله: {وكلم الله موسى تكليماً} حقيقة ودلالة على أنه متولٍ لكلامه بنفسه لما أكد وصفه بكلامه له بالمصدر الذي هو قوله: { تكليماً } وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون قوله: { أن نقول له كن فيكون } حقيقة، لأن { قولنا } مصدر أول، و { أن نقول له } مصدر ثان قد وكد به المصدر الأول، فلم يجز أن يكون مجازاً وثبت أنه حقيقة].
وذكر أبو حيان في تفسيره هذه القاعدة، إلا أنه ادَّعى أنها غالبية وليست كلية وهذا منه كلام جيد ينقض عموم هذه القاعدة، قال أبو حيان في ((البحر المحيط)):
[وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه، هذا هو الغالب وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز إلا أنه قليل].
بل هو كثير، فهو في كتاب الله في أكثر من موضع، وكلام العرب وشعرهم طافح به بما يتكفل إبطال مثل هذه القواعد المزعومة!!
قلت: إن تأكيد المجاز ثابت لا شك فيه ولا ريب، ومن زعم إبطاله وادعى الإجماع على منعه ألزَمَتْه البراهين وقطعته الأدلة، إذ أنه جاء في كتاب الله وفي أشعار العرب ومن ذلك:
1. قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (الأحزاب/33)، والتطهير كان تأكيداً هنا وهو مجاز بلا ريب، لأن الطُّهر: نقيض النجاسة، فاستعار للذنوب: الرجس وللتقوى: الطُّهر.
2. وقال تعالى: { والله أنبتكم من الأرض نباتاً }(سورة سيدنا نوح/17)، فـ (نباتاً) نائب مفعول مطلق لأنه ملاق لـ (إنباتاً) في الاشتقاق()، وكما هو معلوم فالمفعول المطلق يكون توكيداً لعامله أو بياناً لنوعه أو عدده()، و(نباتاً) جاءت هنا توكيداً وهي من قبيل المجاز لأن الإنسان لا يخرج من الأرض، وعبر عنه كذلك لأن أصل خلقته من الأرض وهذا من قبيل المجاز كما لا يخفى.
ومثله قول الله عز وجل: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا }(آل عمران/37).
3. وقال تعالى عن الظل: { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً }(الفرقان/46).
ففي هذه الآية الكريمة مجاز في استخدام القبض فكأن ذهاب الظل بواسطة نور الشمس وزواله قد قُبض فزال وتلاشى، فالقبض هنا مجاز لأن حقيقته استخدام اليد في إمساك الأشياء، فقد قال ابن منظور في ((لسان العرب)): [القبض: خلاف البسط]، وقال الراغب الأصفهاني في كتابه ((المفردات في غريب القرآن)): [القبض: تناول الشيء بجميع الكف نحو قبض السيف وغيره].
2. وقالت حميدة بنت بشير بن النعمان الأنصاري(توفيت سنة 85هـ):
بَكى الخزّ مِن روحٍ وأنكر جلدهُ وَعجّت عَجيجاً من جذامَ المطارفُ
فالعجّ معناه رفع الصوت كما في ((مختار الصحاح))، والمطارف جمع المُطْرَف وهو: رِداءٌ من خَزٍّ مُرَبَّعٌ ذو أعْلامٍ كما ذكره الفيروزآبادي في ((القاموس المحيط))، والرداء لا يتكلم ولا يرفع صوتاً على الحقيقة وإنما ذلك مجاز في أن قبيلة جذام لم تكن أهلاً للباس الخز والمطارف، قال البَطَلْيُوْسي في كتابه ((الحلل في إصلاح الخلل من كتاب الجمل)): [تقول: إن روحاً وقبيلته لم يكونوا أهلاً للباس الخز والمطارف، وإنما كانوا بدويين يلبسون الأكسية المخرقة].
واحتج بهذا البيت أبو حيان في تفسيره على جواز التأكيد بالمصدر.
3. وقال الشاعر:
نُمَيْرٌ جَمْرةُ العربِ الَّتي لمْ تَزَلْ في الحَرْب تَلْتهبُ الْتِهَابَا
فالجمرة هنا كناية أشار فيه الشاعر إلى قبيلة نمير، وأصل التجمير: التجميع، وسموا بذلك لأنهم متوافرون في أنفسهم لم يدخلوا معهم غيرهم، والالتهاب هنا مجاز عبر فيه الشاعر عن شدة البأس وأكده بقوله: (التهاباً)!!!
4. وقال بشر بن أبي خازم:
فَإِنَّ أَباكِ قَد لاقى غُلاماً مِنَ الأَبناءِ يَلتَهِبُ اِلتِهابا
5. وقال ربيعة بن مقروم الضبي:
6. فَإِن أَهلِك فَذي حَنَقٍ لَظاهُ عَلَيّ يَكادُ يَلتَهِبُ التِهابا
وبهذا كله يتبين أن القاعدة اللغوية الناصة على أن التوكيد يدل على الحقيقة لا على المجاز منخرمة لا يصح الاستدلال بها.
انتهى والحمد لله رب العالمين
_____________(تعليقات مفيدة)___________
تعليق لتلميذنا العالم النحرير عبد الله المالكي الأشعري:
جَزَاكُمُ اللهُ خَيْراً سَيّدي، لَقَدِ اطَّلَعتُ مِنْ خِلَالِ تَعْلِيقِكُمِ السَّابقِ عَلَى كَلَامِ الأُسْتَاذِ العَالِم (نَذير العَطَاونَة) وَهُوَ كَلَامٌ قَيّمٌ مُفِيدٌ، وَقَد اخْتَارَهُ وَرَجَّحَهُ كَثيرٌ مِنَ الأَئِمَّةِ أَذْكُرُ منْهُمْ:
(القَرَافِيَّ) وَ(ابْنَ بُرْهَانَ) وَ(الصَّبَّانَ) وَ(ابْنَ عَاشُورَ) وَغَيْرَهُمْ....
(1)- قَالَ (القَرَافيُّ) وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى (المَازِرِيِّ):
[ورُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ ((التَّأْكِيدَ لَا يَمْنَعُ المَجَازَ))، وَلَا التَّخْصِيصَ؛ لأن قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) مُؤَكَّدٌ بالمَصْدَرِ، ((وَهُوَ مَجَازٌ)) ((خِلافًا لِلْأَكْثَرِينَ))؛ لأَنَّ تَكْلِيمَ اللهِ تَعَالَى خَلَقَ عِلْمًا ضَرُورِيًا فِي نَفْسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرِهِ، تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى مَا قَامَ بِذَاتِ اللهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ السَّمَاعِ لِلْأَصْوَاتِ، وَخَلْقُ العِلْمِ فِي اللُّغَةِ لَا يُسَمَّى تَكْلِيمًا فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً، ((بَلْ مَجَازًا))؛ ((مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِوَاءِ النِّسْبَةِ)).
(*)- وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّطْهِيرُ هَاهُنَا لَيْسَ إِِزَالَةَ النَّجَاسَةِ حَقِيقَةً، إِنَّمَا هِيَ مَعنَوِيَّةٌ، فَهُوَ مَجَازٌ مَعَ التَّأْكِيدِ، وَالمَجَازُ أَبْعَدُ مِنَ التَّخْصِيصِ، فَجَوَازُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى.
(*)- وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) مَعَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالكُفْرِ إِجْمَاعًا، وَبِأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِنِّهَا دَلَّتْ عَلَى دُخُولِ جَمَاعَةٍ النَّارَ، وَلَا مَغْفِرَةَ مَعَ العَذَابِ.
وَأَكْثَرُ المُتَقَدِّمِينَ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ يَمْنَعُ المَجَازَ، ((فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَرِّفَ أَنَّ الوَاقِعَ خِلَافُهُ))، وَيَقُولُونَ: (التَّكْلِيمُ فِي الآيَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً)؛ لِأَنَّهُ أُكِّدَ بِالمَصْدَرِ، ((وَالأَمْرُ كَمَا تَرَى))] اهـــ.
---------
(2)- وَحَكَى (الزَّركََشِيُّ) عَنِ (ابْن برْهَانَ):
أَنْشَدَ (ابْنُ بَرْهَان):
قَرَعْت طَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ....... وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْت الْهَوَى قَسْرَا
وَقَالَ: ((فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ)) اهــــ.
-----------
(3)- قَالَ (الصَّبَّانُ) عَنْْ تَأْكِيدِ المَجَازِ:
[والحَقُّ أَنَّهُ قَلِيلٌ لَا مَمْنُوعٌ] اهـــــ.
-----------
(4)- وَقَال (ابْنُ عَاشُورَ):
[قَوْلُهُ: (تَكْلِيماً) مَصْدَرٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَالتَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَرْجِعُ إِلَى تَأْكِيدِ النِّسْبَةِ وَتَحْقِيقِهَا مِثْلَ (قَدْ) وَ (إِنَّ)، ((وَلَا يُقْصَدُ بِهِ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ))، ((وَلِذَلِكَ أَكَّدَتِ الْعَرَبُ بِالْمَصْدَرِ أَفْعَالًا لَمْ تُسْتَعْمَلْ إِلَّا مَجَازًا)).
- كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُطَهِّرُهُمُ الطَّهَارَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، أَيِ الْكَمَالَ النَّفْسِيَّ، ((فَلَمْ يُفِدِ التَّأْكِيدُ رَفْعَ الْمَجَازِ)). وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ تَذُمُّ زَوْجَهَا رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ:
بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدُهُ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ الْمَطَارِفُ
وَلَيْسَ الْعَجِيجُ إِلَّا مَجَازًا، فَالْمَصْدَرُ يُؤَكِّدُ، أَيْ يُحَقِّقُ حُصُول الْفِعْل الموكّد عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى قَبْلَ التَّأْكِيدِ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: (تَكْلِيماً) هُنَا: أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ بِكَلَامٍ، أَوْ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ] اهــــ.

___________________________________