التعليق على ما أورده الذهبي في كتابه " العلو" عن البخاري في مسألة العلو ، ومسألة خلق القرآن:
مرسل: الأحد إبريل 14, 2024 8:59 pm
التعليق على ما أورده الذهبي في كتابه " العلو" عن البخاري في مسألة العلو ، ومسألة خلق القرآن:
قال الذهبي في كتابه "العلو" النص رقم(464):
[ البخـاري (194 ـ 256):
464- قال الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل رضي الله عنه في آخر الجامع الصحيح في كتاب الرد على الجهمية باب قوله تعالى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}هود:7، قال أبو العالية: استوى إلى السماء ارتفع. وقال مجاهد في استوى: علا على العرش. وقالت زينب أم المؤمنين: زوَّجني الله من فوق سبع سماوات.
ثمَّ إنَّه بوَّب على أكثر ما تنكره الجهمية من العلو والكلام واليدين والعينين، محتجاً بالآيات والأحاديث، فمن ذلك قوله: باب قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}فاطر:10، وباب قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}ص:75، باب قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}طه:39، باب كلام الرب عزَّ وجل مع الأنبياء، ونحو ذلك مما إذا تعقَّله اللبيب عرف تبويبه أنَّ الجهمية ترد ذلك وتحـرّف الكلم عن مواضعها، وله مصنَّف مفرد سماه: ((كتاب أفعال العباد)) في مسألة القرآن، وكان حافظاً علامة، يتوقَّد ذكاءً، وكان ورعاً تقياً كبير الشأن عديم النظير، مات سنة ست وخمسين ومائتين، لقي مكي بن إبراهيم بخراسان وأبا عاصم بالبصرة، وعبيدالله بن موسى بالكوفة، والمقري بمكة، والفريابي بالشام، وعاش اثنتين وستين سنة].
أقول في التعليق على ما نقله الذهبي:
أولاً:
مختصر الكلام في البخاري أنه عالم أصاب في أمور وأخطـأ في أخرى!! أصاب في تأليفه هذا الكتاب الجامع الفذ وتلك التواليف المفيدة الفائقة كما أصاب في قوله بأنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، وأخطأ في تبويب تلك الأبواب التي تفيد التشبيه والتجسيم في كتاب التوحيد من صحيحه!! وكل ذلك منه لأنَّه واقع تحت الضغوط والتوجهات السياسية التي فرضتها الدولة يومئذٍ – وخاصة الخليفة المتوكل - على العلماء وعلى أهل الحديث خاصة، وإليكم نبذة عن ذلك الجو وعن تلك الضغوطات: قال الخطيب البغدادي في "تاريخه" (10/67): [سنة أربع وثلاثين ومائتين: فيها أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين فكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل وإبراهيم بن عبد الله الهروي وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان وهما من بنى عبس وكانا من حفاظ الناس فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق وأمرهم المتوكل ان يجلسوا للناس وان يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية وأن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية... أخبرنا البرقاني قال قرئ على أبى علي بن الصواف وأنا اسمع حدثكم جعفر بن محمد الفريابي قال: سألت محمد بن عبيد الله بن نمير عن بنى أبي شيبة ثلاثتهم؟ فقال فيهم قولاً لم أحب أن أذكره...]. وقال الذهبي في "سير النبلاء" (12/34) والحافظ السيوطي في "تاريخ الخلفاء" (1/346) ما نصه: [فأظهر (المتوكل) الميل إلى السُّنَّة ونصر أهلها ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق وذلك في سنة أربع وثلاثين واستقدم المحدثين إلى سامرا وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدِّثوا بأحاديث الصفات والرؤية]. وقول الذهبي والسيوطي (فأظهر المتوكل الميل إلى السنة) يثبت أنه كذاب دجال ظالم عسوف وهو لم يهتم إلا بسنة الأمويين الإسرائيلية لتحقيق مصالحه ومآربه لأنه مشغول بالسُّكْر والعَرْبدة بين الجواري والغلمان. ودليله قول الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (12/35): [وفي سنة ستٍ وثلاثين (236هـ) هدم المتوكل قبر الحسين رضي الله عنه، فقال البَسَّاميُّ أبياتاً منها:
أسِفُوا عَلَى أنْ لا يكونوا شارَكوا في قَتْلِـهِ فَتَتَّبعـوهُ رَمِيمَـــاً
وكان المتوكِّل فيه نَصْبٌ وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور، وأمر أن يُزْرَعَ ومنعَ الناسَ من انتيابه]. تأملوا كيف يفعل المتوكل بالعلماء! قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (18/551): [يعقوب بن إسحاق بن السِّكِّيت. أبو يوسف البغدادي النَّحْوي، صاحب كتاب إصلاح المنطق. كان دَيِّناً فاضلاً، موثَّقاً في نقل العربية.... ويروى أنَّ المتوكِّل نظر إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت: مَنْ أحبُّ إليك، هما، أو الحسن والحسين؟ قال: قَنْبَرُ، يعني مولى علي، خير منهما. قال: فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى كاد يهلك، فبقي يوماً ومات. ومنهم من قال: حمل ميتاً في بساط، وبعث إلى ابنه بديته. وكان في المتوكل نصب بلا خلاف]. وقال ابن الوردي في تاريخه (1/219): [وفيهَا (سنة 244هـ):.. قتل – المتوكل- أَبَا يُوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن السّكيت مُصَنف إصْلَاح الْمنطق، قَالَ: لَهُ، أَيّمَا أحب إِلَيْك ابناي المعتز والمؤيد أم الْحسن وَالْحُسَيْن؟ فغضَّ ابْن السّكيت من ابنيه وَذكر من الْحسن وَالْحُسَيْن مَا هما أَهله، فداسوا بَطْنه وَحمل إِلَى دَاره فَمَاتَ، وَقيل: قَالَ: إِن قَنْبَرَ خَادِم عَليٍّ خير مِنْك وَمن ابنيك، فَسَلُوا لِسَانه من قَفاهُ، وعمره ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ]. وقال الذهبي في كتاب "العبر" (1/85): [سنة سبع وأربعين ومائتين:... وفيها في شوال قُتِلَ (المتوكلُ أبو الفضل جعفر بن المعتصم بالله محمد ابن الرشيد هارون العباسي). فتكوا به في مجلس لهوه بأمر ابنه المنتصر. وعاش أربعين سنة. وكان أسمر نحيفاً، مليح العينين. خفيف العارضين، ليس بالطويل. وهو الذي أحيا السنة وأمات التجهم، ولكنه كان فيه نصب ظاهر، وانهماك على اللذات والمكاره]. وفي "تهذيب الكمال" للحافظ المزي (29/360) وغيره في ترجمة الإمام الحافظ نصر بن علي الجهضمي وهو من رجال الستة أنه لما حدَّث بأن: [النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين، فقال: ((من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)). قال عبدالله بن أحمد: لما حدَّث نصر بن علي بهذا الحديث أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه]. قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/314) في حوادث سنة (235هـ): [وفيها أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي، وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مِقْرَعَة ثم حبس في المُطْبِق]. في شرح القاموس: المُطْبِق: سجن تحت الأرض. والمقرعة: عصا تُضرَبُ بها البِغالُ والحميرُ. كما في كتب اللغة. وأما كيفية ولحظة موت هذا الخليفة الناصر للسنة فنختصرها بقول الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (12/39): [وَسَكِرَ المُتَوَكِّلُ سُكْراً شَدِيْداً، وَمَضَى مِنَ اللَّيْلِ إِذْ أَقْبَلَ بَاغِرُ فِي عَشْرَةِ مُتَلَثِمِيْنَ تَبْرُقُ أَسْيَافُهُم (فقطعوه وقتلوه)...قَالَ: وَقَدْ أَنْفَقَ المُتَوَكِّلُ - فِيْمَا قِيْلَ - عَلَى الجَوْسَقِ وَالجَعْفَرِيِّ وَالهَارُوْنِيِّ أَكْثَرَ مِنْ مَائَتَي أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ آلاَفِ سُرِّيَّةٍ وَطِئَ الجَمِيْعَ...]. والجوسق والجعفري والهاروني قصور اللهو والمجون التي بناها المتوكل (ناصر السنة! الذي مات سكراناً في مجونه) بمائتي مليون درهم! والكلام في ذلك طويل الذيل! وهذا غيض من فيض! ففي هذا الجو المشحون وتحت هذا الضغط السياسي القاهر ألف البخاري صحيحه وكتب ما كتب! ثم بقي الحنابلة في بغداد والشام مُمَكَّنين وكل من خالفهم يؤذونه ويضربونه ويقتلونه، كما آذوا الحافظ الإمام ابن جرير الطبري أذى شديداً لأنه لم يذكر خلاف إمامهم أحمد في الفقه لما ذكر اختلاف الفقهاء، وقُتِلَ الإمام النَّسائي في الشام لأنه ذم معاوية، وقد حاول البخاري أن يرضيهم فأورد في صحيحه (باب ذكر معاوية) ولم يقل (باب فضل معاوية) كما فعل في غيره من الصحابة! ومع ذلك لم يرضوا عنه وحاربوه خاصة الذهلي وأبو حاتم وأبو زُرعة الرازيين، وأغرى بعضهم الحكام به لقوله (لفظي بالقرآن مخلوق) كما في ترجمته في "الجرح والتعديل" فشردوه ومات مشرداً رحمه الله تعالى! ثم إن البخاري بَيَّنَ أن خبر الواحد يؤخذ في أبواب الفروع ولم يذكر التوحيد والاعتقاد لأن المطلوب في الاعتقاد - خاصة في ذات الله تعالى – القطع، وخبر الواحد يفيد الظن، قال في صحيحه رحمه الله تعالى في كتاب أخبار الآحاد: [بَاب مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ فِي الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَلَوْ اقْتَتَلَ رَجُلَانِ دَخَلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ].
فالمحدثين الذين تتلمذ عليهم البخاري في المجتمع الذي كان يعيش فيه!! كلٌّ له اتجاهه الفكري من فريق الرأي والحديث ولفريق الحديث أتجاهات كما بين أحمد وأبي ثور! وكل أحد يؤخذ من قوله ويردُّ عليه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام!! ومما طعن به المحدثون على البخاري قول ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (7/191) في ترجمته: ((محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبدالله، قدم عليهم الري سنة مائتين وخمسين، روى عن عبدان المروزي وأبي همام الصلت بن محمد والفريابي وابن أبي أويس، سمع منه أبي وأبو زُرعة ثمَّ تركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى النيسابوري أنه أظهر عندهم أنَّ لفظه بالقرآن مخلوق)) وانظر قصة محنته مع الذهلي في ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)) (12/453). وكان البخاري ومسلم والكرابيسي وعبدالله بن كلاب وأبو ثور وداود بن علي الظاهري والحارث المحاسبي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم يقولون إنَّ اللفظ بالقرآن مخلوق وقد خالفوا بذلك أحمد بن حنبل وشيعته!! كما تجد ذلك في بعض تراجمهم مروية بالأسانيد الصحيحة ونقله عنهم الحافظ ابن عبدالبر في كتاب ((الانتقاء)) ص (106) وقد ذكرت ذلك في ((صحيح شرح العقيدة الطحاوية)) ص (216و286) فليرجع إليه من شاء الاستزادة. فهذا هو الجو والعصر القهري الذي عاش فيه البخاري وصنَّفَ فيه كتبه ومؤلفاته.
ثانياً:
قول الذهبي نقلاًعن البخاري :قال أبو العالية:( استوى إلى السماء ارتفع، وقال مجاهد في استوى: علا على العرش، وقالت زينب أم المؤمنين: زوَّجني الله من فوق سبع سماوات):
خبر أبي العالية لا يثبت من ناحية الإسناد وهو مؤول بارتفاع الملك والسلطان. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/75) قال: [حدثنا عصام بن رواد، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية..] فذكره. وعصام بن رواد قال عنه أبو حاتم: صدوق. كما في "الجرح" (7/26)، ولينه أبو أحمد الحاكم كما في "لسان الميزان" (4/167). وهو في "المغني في الضعفاء" (4108) للذهبي. و(الربيع بن أنس) قال الحافظ في ترجمته في "تهذيب التهذيب" (3/207): [وذكره ابن حِبَّان في الثقات وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً]. وأخرجه ابن جرير (1/429) قال: [حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس] فذكره من قول الربيع بن أنس، ولم يذكر أبا العالية. وعبد الله بن أبي جعفر الرازي فيه ضعف كما في "الكامل في الضعفاء" لابن عَدِي (4/216). ثم قال الطبري هناك: [ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء]. ثم ذكر ابن جرير معاني الاستواء في اللغة وعد منها الاستيلاء فقال: [ومنها: الاحتياز والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه. وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن}، علا عليهن وارتفع فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات. والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله:"ثم استوى إلى السماء"، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله"استوى" أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال]. وقال أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك (ت237هـ) في كتابه "غريب القرآن وتفسيره" ما نصه: [{الرحمن على العرش استوى} استوى: استولى].
وأما قول مجاهد (علا على العرش) فقد تقدَّم في التعليق على النص رقم (287) أنه لا يثبت من ناحية الإسناد، فارجع إليه إن شئت.
وأما حديث: (زوجني الله من فوق سبع سماوات) فقد تقدَّم الكلام عليه في التعليق على النص رقم (16) من كتاب "العلو" ، ومن ذلك: أن الحافظ ابن حجر ذكر في "الفتح" (13/412) لفظاً آخر للحديث فقال: ((.... ومن وجه آخر موصول عن أم سلمة: قالت زينب: ما أنا كأحد من نساء النبي إنَّهُنَّ زُوِّجْنَ بالمهور زوَّجَهُنَّ الأولياء وأنا زوجني الله ورسوله وأنزلَ اللهُ فيَّ الكتاب)). ورواه البخاري (7421): عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: (نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ.. وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ). وهذه الألفاظ مع اختلاف الرواة فيها تكشف لنا معنى (زوجني الله من فوق سبع سماوات). أي أنزل الله عز وجل تزويجي في القرآن الكريم الذي جاء به سيدنا جبريل من فوق السماء السابعة؛ أي: من اللوح المحفوظ، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}البروج:21_22، فليس المعنى ما توهمته المجسمة في أذهانها!! بل المعنى: أنَّ الله تعالى قضى تزويجي وأراده فأنزل به القرآن من فوق سبع سماوات، وإلا فجميع الخلق الذين يجوز عليهم الزواج قضى الله زواجهم وأراده من فوق سبع سماوات - على اعتقاد المجسمة بأنَّ معبودهم فوق سبع سماوات أو في السماء - والحق أنَّ معنى (من فوق سبع سماوات) أي في اللوح المحفوظ، إن صحت الرواية. والله تعالى منزه عن الحلول في المكان بقواطع أدلة النقل والعقل. ثم إن البخاري قد ذكر في صحيحه ما مفاده أنَّ خبر الآحاد لا يؤخذ به في الاعتقادات ويعني هذا أن ما أورده في كتاب التوحيد منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود!! وهذا النص ثابت في البخاري لكنه لا يفيد بأنَّ منهجه في هذا كان مثل منهج هؤلاء الذين يتشبَّث الذهبي بأقوالهم!! فالبخاري في صحيحه لا يذكـر تلك الطامات التي حكاها غيره من مجسمة الحنابلة والمشبهة!! كالجلوس على العرش وغير ذلك!! وعلى كل فالبخاري رجل من رجال الأمة وليس كلامه شرعاً يجب اتباعه وما جاء به من النصوص فينبغي أن نعرضه على القواعد العلمية الثابتة في الكتاب والسنة المضبوطة بالعقل السليم!! فما وافق الحق أخذنا به وما خالف الحق رددناه ولم نقبله !! كما قال أبو بكر الصدّيق: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم) هذا وهو مَنْ هو من الصحابة فما بالك بالبخاري!! ومن الكوارث المستشنعة إخراجه لمثل حديث حريز بن عثمان وعمران بن حطان وأمثالهما من أكابر المجرمين النواصب وإعراضه عن مثل الإمام جعفر الصادق وطعنه الخفي بالنفس الزكية عليهما السلام والرضوان. ومن أقوال العلماء في أحاديث الصحيحين قول الفخر الرازي الشافعي الأشعري في كتابه "أساس التقديس" ص (170): [اشتهر فيما بين الأمة أن جماعة من الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة واحتالوا في ترويجها على المحدثين، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها بل قَبِلُوها، وأيُّ منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح في الإلهية ويبطل الربوبية؟ فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة. وأما البخاري ومسلم فهما ما كانا عالمين بالغيوب، بل اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهما، فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا فذلك لا يقوله عاقل، غاية ما في الباب أنا نحسن الظن بهما وبالذين رويا عنهم، إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملاً على منكر لا يمكن إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قطعنا بأنه من أوضاع الملاحدة، ومن ترويجاتهم على أولئك المحدّثين]. وبذلك أوضحنا الأمر على قدر الطاقة والوسع ههنا باختصار لضرورته. والله المستعان.
ثالثاً:
قوله:( أنَّ الجهمية ترد ذلك وتحـرّف الكلم عن مواضعها):
أقول : بل إن المجسمة هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويذهبون في معنى الكلام بغير ما تفهمه العرب وتذهب إليه قواعد التنزيه في الكتاب والسنة الصحيحة!! ولذلك نجدهم يجمعون الإسرائيليات والآثار التالفة والأحاديث الواهية والموضوعة في كتاب واحد ويجعلونها عقيدة الإسلام المعتمدة ويسمونها السنة! {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}آل عمران:7، أي: تأويله حسب أهوائهم، والجهمية عند المجسمة هم أهل التنزيه من أهل السنة ومن الفرق الأخرى، فالمجسمة يلقبون حتى الأشاعرة بالجهمية، فهذا ابن تيمية يرد على الفخر الرازي الأشعري بكتاب يسميه (بيان تلبيس الجهمية) وتلميذه ابن القيم له كتاب (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ويقصد بهم الأشاعرة وأهل التنزيه من أهل السنة خاصة! إذ لم يكن في زمانه جهمية!
رابعاً:
أقول في التعليق على كتاب "أفعال العباد": الذي أراه أنَّ هذا الكتاب وضعه وصنَّفه البخاري لإثبات أنَّ اللفظ بالقرآن مخلوق لأنه عَمَلٌ للعبد وكسب له وهذا مذهبه المشهور عنه ولأجل تبنيه لهذا المذهب وقع ما وقع له من قِبَل الذهلي وأبي حاتم وأبي زُرعة!! وما في الكتاب الموجود بين أيدينا يخالف هذا!! فالذي أراه أنه قد زيد في الكتاب وحذف منه أشياء!! أي أن الكتاب تم تحريفه والتزوير فيه! أو أنه ليس له، كما أنَّ كتاب الرد على الجهمية المنسوب إلى أحمد بن حنبل ليس من تصنيفه كما قال الذهبي لجهالة رجال في إسناده وشناعة ما فيه من الأقوال!! وأحمد كان ينهى عن الخوض في مثل ذلك وحارب أناساً وقاطعهم لأجل أنهم خاضوا في الكلام!! فكيف بعد هذا يقول ما يقوله من المستشنعات المثبتة في ذلك الكتاب؟! وغاية ما في كتاب التوحيد من صحيح البخاري أحاديث أكثرها أو جلها غير صريح في إثبات التشبيه والتجسيم ويمكن تأويلها، وإن كان تأويل بعضها بعيداً ومستهجناً والأولى ردها والحكم عليها بالضعف أو الوضع والبطلان، وفيها مردودات ومستشنعات جزماً كحديث شريك بن أبي نمر في الإسراء الذي استشنعه الشراح وأنكروه وكذا غيره!! ومما يستنكر فيه أيضاً حديث وضع الرب قدمه في النار وهو في الصحيحين وقد ردَّه أبو منصور الماتريدي في كتابه "تأويلات أهل السنة" (4/566) عند قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}ق:30، حيث قال: [وقال أهل التأويل - أي التأويل الباطل -: إنها تسأل الزيادة حتى يضع قدمه فيها، فتضيق بأهلها حتى لا يبقى فيها مدخل لرجل واحد، ورووا خبراً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك. وإنه فاسد، وقول بالتشبيه، وقد قامت الدلائل العقلية على إبطال التشبيه، فكل خبر ورد مخالفاً للدلائل العقلية يجب ردّه لأنه مخالف لنص التنزيل وهو قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ثم هذا القول على قول المشبهة على ما توهموا مخالف للكتاب لأن الله عز وجل قال: {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}هود:119، وعندهم لا تمتلىء بهم ما لم يضع الرحمن قدمه فيها!].
قال الذهبي في كتابه "العلو" النص رقم(464):
[ البخـاري (194 ـ 256):
464- قال الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل رضي الله عنه في آخر الجامع الصحيح في كتاب الرد على الجهمية باب قوله تعالى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}هود:7، قال أبو العالية: استوى إلى السماء ارتفع. وقال مجاهد في استوى: علا على العرش. وقالت زينب أم المؤمنين: زوَّجني الله من فوق سبع سماوات.
ثمَّ إنَّه بوَّب على أكثر ما تنكره الجهمية من العلو والكلام واليدين والعينين، محتجاً بالآيات والأحاديث، فمن ذلك قوله: باب قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}فاطر:10، وباب قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}ص:75، باب قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}طه:39، باب كلام الرب عزَّ وجل مع الأنبياء، ونحو ذلك مما إذا تعقَّله اللبيب عرف تبويبه أنَّ الجهمية ترد ذلك وتحـرّف الكلم عن مواضعها، وله مصنَّف مفرد سماه: ((كتاب أفعال العباد)) في مسألة القرآن، وكان حافظاً علامة، يتوقَّد ذكاءً، وكان ورعاً تقياً كبير الشأن عديم النظير، مات سنة ست وخمسين ومائتين، لقي مكي بن إبراهيم بخراسان وأبا عاصم بالبصرة، وعبيدالله بن موسى بالكوفة، والمقري بمكة، والفريابي بالشام، وعاش اثنتين وستين سنة].
أقول في التعليق على ما نقله الذهبي:
أولاً:
مختصر الكلام في البخاري أنه عالم أصاب في أمور وأخطـأ في أخرى!! أصاب في تأليفه هذا الكتاب الجامع الفذ وتلك التواليف المفيدة الفائقة كما أصاب في قوله بأنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، وأخطأ في تبويب تلك الأبواب التي تفيد التشبيه والتجسيم في كتاب التوحيد من صحيحه!! وكل ذلك منه لأنَّه واقع تحت الضغوط والتوجهات السياسية التي فرضتها الدولة يومئذٍ – وخاصة الخليفة المتوكل - على العلماء وعلى أهل الحديث خاصة، وإليكم نبذة عن ذلك الجو وعن تلك الضغوطات: قال الخطيب البغدادي في "تاريخه" (10/67): [سنة أربع وثلاثين ومائتين: فيها أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين فكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل وإبراهيم بن عبد الله الهروي وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان وهما من بنى عبس وكانا من حفاظ الناس فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق وأمرهم المتوكل ان يجلسوا للناس وان يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية وأن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية... أخبرنا البرقاني قال قرئ على أبى علي بن الصواف وأنا اسمع حدثكم جعفر بن محمد الفريابي قال: سألت محمد بن عبيد الله بن نمير عن بنى أبي شيبة ثلاثتهم؟ فقال فيهم قولاً لم أحب أن أذكره...]. وقال الذهبي في "سير النبلاء" (12/34) والحافظ السيوطي في "تاريخ الخلفاء" (1/346) ما نصه: [فأظهر (المتوكل) الميل إلى السُّنَّة ونصر أهلها ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق وذلك في سنة أربع وثلاثين واستقدم المحدثين إلى سامرا وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدِّثوا بأحاديث الصفات والرؤية]. وقول الذهبي والسيوطي (فأظهر المتوكل الميل إلى السنة) يثبت أنه كذاب دجال ظالم عسوف وهو لم يهتم إلا بسنة الأمويين الإسرائيلية لتحقيق مصالحه ومآربه لأنه مشغول بالسُّكْر والعَرْبدة بين الجواري والغلمان. ودليله قول الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (12/35): [وفي سنة ستٍ وثلاثين (236هـ) هدم المتوكل قبر الحسين رضي الله عنه، فقال البَسَّاميُّ أبياتاً منها:
أسِفُوا عَلَى أنْ لا يكونوا شارَكوا في قَتْلِـهِ فَتَتَّبعـوهُ رَمِيمَـــاً
وكان المتوكِّل فيه نَصْبٌ وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور، وأمر أن يُزْرَعَ ومنعَ الناسَ من انتيابه]. تأملوا كيف يفعل المتوكل بالعلماء! قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (18/551): [يعقوب بن إسحاق بن السِّكِّيت. أبو يوسف البغدادي النَّحْوي، صاحب كتاب إصلاح المنطق. كان دَيِّناً فاضلاً، موثَّقاً في نقل العربية.... ويروى أنَّ المتوكِّل نظر إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت: مَنْ أحبُّ إليك، هما، أو الحسن والحسين؟ قال: قَنْبَرُ، يعني مولى علي، خير منهما. قال: فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى كاد يهلك، فبقي يوماً ومات. ومنهم من قال: حمل ميتاً في بساط، وبعث إلى ابنه بديته. وكان في المتوكل نصب بلا خلاف]. وقال ابن الوردي في تاريخه (1/219): [وفيهَا (سنة 244هـ):.. قتل – المتوكل- أَبَا يُوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن السّكيت مُصَنف إصْلَاح الْمنطق، قَالَ: لَهُ، أَيّمَا أحب إِلَيْك ابناي المعتز والمؤيد أم الْحسن وَالْحُسَيْن؟ فغضَّ ابْن السّكيت من ابنيه وَذكر من الْحسن وَالْحُسَيْن مَا هما أَهله، فداسوا بَطْنه وَحمل إِلَى دَاره فَمَاتَ، وَقيل: قَالَ: إِن قَنْبَرَ خَادِم عَليٍّ خير مِنْك وَمن ابنيك، فَسَلُوا لِسَانه من قَفاهُ، وعمره ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ]. وقال الذهبي في كتاب "العبر" (1/85): [سنة سبع وأربعين ومائتين:... وفيها في شوال قُتِلَ (المتوكلُ أبو الفضل جعفر بن المعتصم بالله محمد ابن الرشيد هارون العباسي). فتكوا به في مجلس لهوه بأمر ابنه المنتصر. وعاش أربعين سنة. وكان أسمر نحيفاً، مليح العينين. خفيف العارضين، ليس بالطويل. وهو الذي أحيا السنة وأمات التجهم، ولكنه كان فيه نصب ظاهر، وانهماك على اللذات والمكاره]. وفي "تهذيب الكمال" للحافظ المزي (29/360) وغيره في ترجمة الإمام الحافظ نصر بن علي الجهضمي وهو من رجال الستة أنه لما حدَّث بأن: [النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين، فقال: ((من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)). قال عبدالله بن أحمد: لما حدَّث نصر بن علي بهذا الحديث أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه]. قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/314) في حوادث سنة (235هـ): [وفيها أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي، وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مِقْرَعَة ثم حبس في المُطْبِق]. في شرح القاموس: المُطْبِق: سجن تحت الأرض. والمقرعة: عصا تُضرَبُ بها البِغالُ والحميرُ. كما في كتب اللغة. وأما كيفية ولحظة موت هذا الخليفة الناصر للسنة فنختصرها بقول الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (12/39): [وَسَكِرَ المُتَوَكِّلُ سُكْراً شَدِيْداً، وَمَضَى مِنَ اللَّيْلِ إِذْ أَقْبَلَ بَاغِرُ فِي عَشْرَةِ مُتَلَثِمِيْنَ تَبْرُقُ أَسْيَافُهُم (فقطعوه وقتلوه)...قَالَ: وَقَدْ أَنْفَقَ المُتَوَكِّلُ - فِيْمَا قِيْلَ - عَلَى الجَوْسَقِ وَالجَعْفَرِيِّ وَالهَارُوْنِيِّ أَكْثَرَ مِنْ مَائَتَي أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ آلاَفِ سُرِّيَّةٍ وَطِئَ الجَمِيْعَ...]. والجوسق والجعفري والهاروني قصور اللهو والمجون التي بناها المتوكل (ناصر السنة! الذي مات سكراناً في مجونه) بمائتي مليون درهم! والكلام في ذلك طويل الذيل! وهذا غيض من فيض! ففي هذا الجو المشحون وتحت هذا الضغط السياسي القاهر ألف البخاري صحيحه وكتب ما كتب! ثم بقي الحنابلة في بغداد والشام مُمَكَّنين وكل من خالفهم يؤذونه ويضربونه ويقتلونه، كما آذوا الحافظ الإمام ابن جرير الطبري أذى شديداً لأنه لم يذكر خلاف إمامهم أحمد في الفقه لما ذكر اختلاف الفقهاء، وقُتِلَ الإمام النَّسائي في الشام لأنه ذم معاوية، وقد حاول البخاري أن يرضيهم فأورد في صحيحه (باب ذكر معاوية) ولم يقل (باب فضل معاوية) كما فعل في غيره من الصحابة! ومع ذلك لم يرضوا عنه وحاربوه خاصة الذهلي وأبو حاتم وأبو زُرعة الرازيين، وأغرى بعضهم الحكام به لقوله (لفظي بالقرآن مخلوق) كما في ترجمته في "الجرح والتعديل" فشردوه ومات مشرداً رحمه الله تعالى! ثم إن البخاري بَيَّنَ أن خبر الواحد يؤخذ في أبواب الفروع ولم يذكر التوحيد والاعتقاد لأن المطلوب في الاعتقاد - خاصة في ذات الله تعالى – القطع، وخبر الواحد يفيد الظن، قال في صحيحه رحمه الله تعالى في كتاب أخبار الآحاد: [بَاب مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ فِي الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَلَوْ اقْتَتَلَ رَجُلَانِ دَخَلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ].
فالمحدثين الذين تتلمذ عليهم البخاري في المجتمع الذي كان يعيش فيه!! كلٌّ له اتجاهه الفكري من فريق الرأي والحديث ولفريق الحديث أتجاهات كما بين أحمد وأبي ثور! وكل أحد يؤخذ من قوله ويردُّ عليه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام!! ومما طعن به المحدثون على البخاري قول ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (7/191) في ترجمته: ((محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبدالله، قدم عليهم الري سنة مائتين وخمسين، روى عن عبدان المروزي وأبي همام الصلت بن محمد والفريابي وابن أبي أويس، سمع منه أبي وأبو زُرعة ثمَّ تركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى النيسابوري أنه أظهر عندهم أنَّ لفظه بالقرآن مخلوق)) وانظر قصة محنته مع الذهلي في ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)) (12/453). وكان البخاري ومسلم والكرابيسي وعبدالله بن كلاب وأبو ثور وداود بن علي الظاهري والحارث المحاسبي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم يقولون إنَّ اللفظ بالقرآن مخلوق وقد خالفوا بذلك أحمد بن حنبل وشيعته!! كما تجد ذلك في بعض تراجمهم مروية بالأسانيد الصحيحة ونقله عنهم الحافظ ابن عبدالبر في كتاب ((الانتقاء)) ص (106) وقد ذكرت ذلك في ((صحيح شرح العقيدة الطحاوية)) ص (216و286) فليرجع إليه من شاء الاستزادة. فهذا هو الجو والعصر القهري الذي عاش فيه البخاري وصنَّفَ فيه كتبه ومؤلفاته.
ثانياً:
قول الذهبي نقلاًعن البخاري :قال أبو العالية:( استوى إلى السماء ارتفع، وقال مجاهد في استوى: علا على العرش، وقالت زينب أم المؤمنين: زوَّجني الله من فوق سبع سماوات):
خبر أبي العالية لا يثبت من ناحية الإسناد وهو مؤول بارتفاع الملك والسلطان. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/75) قال: [حدثنا عصام بن رواد، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية..] فذكره. وعصام بن رواد قال عنه أبو حاتم: صدوق. كما في "الجرح" (7/26)، ولينه أبو أحمد الحاكم كما في "لسان الميزان" (4/167). وهو في "المغني في الضعفاء" (4108) للذهبي. و(الربيع بن أنس) قال الحافظ في ترجمته في "تهذيب التهذيب" (3/207): [وذكره ابن حِبَّان في الثقات وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً]. وأخرجه ابن جرير (1/429) قال: [حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس] فذكره من قول الربيع بن أنس، ولم يذكر أبا العالية. وعبد الله بن أبي جعفر الرازي فيه ضعف كما في "الكامل في الضعفاء" لابن عَدِي (4/216). ثم قال الطبري هناك: [ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء]. ثم ذكر ابن جرير معاني الاستواء في اللغة وعد منها الاستيلاء فقال: [ومنها: الاحتياز والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه. وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن}، علا عليهن وارتفع فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات. والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله:"ثم استوى إلى السماء"، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله"استوى" أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال]. وقال أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك (ت237هـ) في كتابه "غريب القرآن وتفسيره" ما نصه: [{الرحمن على العرش استوى} استوى: استولى].
وأما قول مجاهد (علا على العرش) فقد تقدَّم في التعليق على النص رقم (287) أنه لا يثبت من ناحية الإسناد، فارجع إليه إن شئت.
وأما حديث: (زوجني الله من فوق سبع سماوات) فقد تقدَّم الكلام عليه في التعليق على النص رقم (16) من كتاب "العلو" ، ومن ذلك: أن الحافظ ابن حجر ذكر في "الفتح" (13/412) لفظاً آخر للحديث فقال: ((.... ومن وجه آخر موصول عن أم سلمة: قالت زينب: ما أنا كأحد من نساء النبي إنَّهُنَّ زُوِّجْنَ بالمهور زوَّجَهُنَّ الأولياء وأنا زوجني الله ورسوله وأنزلَ اللهُ فيَّ الكتاب)). ورواه البخاري (7421): عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: (نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ.. وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ). وهذه الألفاظ مع اختلاف الرواة فيها تكشف لنا معنى (زوجني الله من فوق سبع سماوات). أي أنزل الله عز وجل تزويجي في القرآن الكريم الذي جاء به سيدنا جبريل من فوق السماء السابعة؛ أي: من اللوح المحفوظ، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}البروج:21_22، فليس المعنى ما توهمته المجسمة في أذهانها!! بل المعنى: أنَّ الله تعالى قضى تزويجي وأراده فأنزل به القرآن من فوق سبع سماوات، وإلا فجميع الخلق الذين يجوز عليهم الزواج قضى الله زواجهم وأراده من فوق سبع سماوات - على اعتقاد المجسمة بأنَّ معبودهم فوق سبع سماوات أو في السماء - والحق أنَّ معنى (من فوق سبع سماوات) أي في اللوح المحفوظ، إن صحت الرواية. والله تعالى منزه عن الحلول في المكان بقواطع أدلة النقل والعقل. ثم إن البخاري قد ذكر في صحيحه ما مفاده أنَّ خبر الآحاد لا يؤخذ به في الاعتقادات ويعني هذا أن ما أورده في كتاب التوحيد منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود!! وهذا النص ثابت في البخاري لكنه لا يفيد بأنَّ منهجه في هذا كان مثل منهج هؤلاء الذين يتشبَّث الذهبي بأقوالهم!! فالبخاري في صحيحه لا يذكـر تلك الطامات التي حكاها غيره من مجسمة الحنابلة والمشبهة!! كالجلوس على العرش وغير ذلك!! وعلى كل فالبخاري رجل من رجال الأمة وليس كلامه شرعاً يجب اتباعه وما جاء به من النصوص فينبغي أن نعرضه على القواعد العلمية الثابتة في الكتاب والسنة المضبوطة بالعقل السليم!! فما وافق الحق أخذنا به وما خالف الحق رددناه ولم نقبله !! كما قال أبو بكر الصدّيق: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم) هذا وهو مَنْ هو من الصحابة فما بالك بالبخاري!! ومن الكوارث المستشنعة إخراجه لمثل حديث حريز بن عثمان وعمران بن حطان وأمثالهما من أكابر المجرمين النواصب وإعراضه عن مثل الإمام جعفر الصادق وطعنه الخفي بالنفس الزكية عليهما السلام والرضوان. ومن أقوال العلماء في أحاديث الصحيحين قول الفخر الرازي الشافعي الأشعري في كتابه "أساس التقديس" ص (170): [اشتهر فيما بين الأمة أن جماعة من الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة واحتالوا في ترويجها على المحدثين، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها بل قَبِلُوها، وأيُّ منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح في الإلهية ويبطل الربوبية؟ فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة. وأما البخاري ومسلم فهما ما كانا عالمين بالغيوب، بل اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهما، فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا فذلك لا يقوله عاقل، غاية ما في الباب أنا نحسن الظن بهما وبالذين رويا عنهم، إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملاً على منكر لا يمكن إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قطعنا بأنه من أوضاع الملاحدة، ومن ترويجاتهم على أولئك المحدّثين]. وبذلك أوضحنا الأمر على قدر الطاقة والوسع ههنا باختصار لضرورته. والله المستعان.
ثالثاً:
قوله:( أنَّ الجهمية ترد ذلك وتحـرّف الكلم عن مواضعها):
أقول : بل إن المجسمة هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويذهبون في معنى الكلام بغير ما تفهمه العرب وتذهب إليه قواعد التنزيه في الكتاب والسنة الصحيحة!! ولذلك نجدهم يجمعون الإسرائيليات والآثار التالفة والأحاديث الواهية والموضوعة في كتاب واحد ويجعلونها عقيدة الإسلام المعتمدة ويسمونها السنة! {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}آل عمران:7، أي: تأويله حسب أهوائهم، والجهمية عند المجسمة هم أهل التنزيه من أهل السنة ومن الفرق الأخرى، فالمجسمة يلقبون حتى الأشاعرة بالجهمية، فهذا ابن تيمية يرد على الفخر الرازي الأشعري بكتاب يسميه (بيان تلبيس الجهمية) وتلميذه ابن القيم له كتاب (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ويقصد بهم الأشاعرة وأهل التنزيه من أهل السنة خاصة! إذ لم يكن في زمانه جهمية!
رابعاً:
أقول في التعليق على كتاب "أفعال العباد": الذي أراه أنَّ هذا الكتاب وضعه وصنَّفه البخاري لإثبات أنَّ اللفظ بالقرآن مخلوق لأنه عَمَلٌ للعبد وكسب له وهذا مذهبه المشهور عنه ولأجل تبنيه لهذا المذهب وقع ما وقع له من قِبَل الذهلي وأبي حاتم وأبي زُرعة!! وما في الكتاب الموجود بين أيدينا يخالف هذا!! فالذي أراه أنه قد زيد في الكتاب وحذف منه أشياء!! أي أن الكتاب تم تحريفه والتزوير فيه! أو أنه ليس له، كما أنَّ كتاب الرد على الجهمية المنسوب إلى أحمد بن حنبل ليس من تصنيفه كما قال الذهبي لجهالة رجال في إسناده وشناعة ما فيه من الأقوال!! وأحمد كان ينهى عن الخوض في مثل ذلك وحارب أناساً وقاطعهم لأجل أنهم خاضوا في الكلام!! فكيف بعد هذا يقول ما يقوله من المستشنعات المثبتة في ذلك الكتاب؟! وغاية ما في كتاب التوحيد من صحيح البخاري أحاديث أكثرها أو جلها غير صريح في إثبات التشبيه والتجسيم ويمكن تأويلها، وإن كان تأويل بعضها بعيداً ومستهجناً والأولى ردها والحكم عليها بالضعف أو الوضع والبطلان، وفيها مردودات ومستشنعات جزماً كحديث شريك بن أبي نمر في الإسراء الذي استشنعه الشراح وأنكروه وكذا غيره!! ومما يستنكر فيه أيضاً حديث وضع الرب قدمه في النار وهو في الصحيحين وقد ردَّه أبو منصور الماتريدي في كتابه "تأويلات أهل السنة" (4/566) عند قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}ق:30، حيث قال: [وقال أهل التأويل - أي التأويل الباطل -: إنها تسأل الزيادة حتى يضع قدمه فيها، فتضيق بأهلها حتى لا يبقى فيها مدخل لرجل واحد، ورووا خبراً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك. وإنه فاسد، وقول بالتشبيه، وقد قامت الدلائل العقلية على إبطال التشبيه، فكل خبر ورد مخالفاً للدلائل العقلية يجب ردّه لأنه مخالف لنص التنزيل وهو قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ثم هذا القول على قول المشبهة على ما توهموا مخالف للكتاب لأن الله عز وجل قال: {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}هود:119، وعندهم لا تمتلىء بهم ما لم يضع الرحمن قدمه فيها!].