صفحة 1 من 1

بطلان نسبة القول بالتجسيم للخطيب البغدادي:

مرسل: الأحد مايو 19, 2024 7:45 pm
بواسطة عود الخيزران
بطلان نسبة القول بالتجسيم للخطيب البغدادي:

قال الذهبي في كتابه " العلو" النص رقم(549):
[ الخطيـب (392 ـ 463):
549- أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن العدل، أنا عبد الله بن أحمد الفقيه، أنا المبارك بن علي الصيرفي في كتابه، أنا محمد بن مرزوق الزعفراني، أنا الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه الله قال:
أما الكلام في الصفات: فأما ما رُوِيَ منها في السنن الصحاح فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والأصل في هذا أنَّ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، وإذا كان معلوماً إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، فإنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول أنَّ معنى اليد القدرة، ولا أنَّ معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح وأدوات للفعل، ولا نشبهها للأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول إنما وجب إثباتها لأنَّ التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
وقال نحو هذا القول قبل الخطيب: الخطَّابي أحد الأعلام، وهذا الذي علمت من مذهب السلف والمراد بظاهرها: أي لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة غير ما وضعت له، كما قال مالك وغيره (الاستواء معلوم) وكذلك القول في السمع والبصر والعلم والكلام والإرادة والوجه ونحو ذلك، هذه الأشياء معلومة فلا تحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في جميعها مجهول عندنا والله أعلم.
وقد كان الخطيب رحمه الله الدارقطني الثاني، لم يكن ببغداد بعده مثله في معرفة هذا الشأن، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وأوَّل سماعاته بعد الأربعمائة].

أقول في بطلان هذه النسبة للخطيب البغدادي:

ما سينقله الذهبي عن الخطيب البغدادي هنا غير ثابت عنه وسنبرهن في التعليق التالي بعد هذا أن الثابت في كتب الخطيب ينقض هذا الذي سينقله الذهبي عنه من أساسه ويدحضه! كان الخطيب أشعري المذهب في العقيدة!! بعدما كان حنبلياً!! فهو من جملة الحنابلة الذين رجعوا عن مذهبهم!! ففي " السير" (18/277) عن الحافظ الكتاني قال عن الخطيب: ((وكان يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري)) وقال الحافظ السبكي في " طبقات الشافعية الكبرى" (4/34): ((قال المؤتمن الساجي: تحاملت الحنابلة عليه. قلت: وابتلي منهم بوضع أكاذيب عليه لا ينبغي شرحها)). قلت: فإذا كان الأمر كذلك فيحتمل أن تلك العقيدة التي ذكرها الذهبي أو بعضها وخاصة قوله فيها: (إثباتها وإجراؤها على ظواهرها) من وضعهم ودسهم عليه!! لا سيما وأنَّ لهم قدم راسخة في هذا الأمر!! أو كان حين تصنيفها حنبلياً! وقد ذكرت فيما مضى هنا في التعليق على ترجمة ابن قتيبة (الترجمة رقم99) أن محاولات الذهبي في الدفاع عن ابن قتيبة محاولات فاشلة وتشبثه بتوثيق الخطيب له تشبّث واهٍٍ!! فإنه إنما يدافع عنه لأن ابن قتيبة ناصبي كبير ومجسم كرَّامي شهير!! قال الحافظ ابن حجر وقبله الدارقطني: إنَّ في ابن قتيبة انحرافاً عن أهل البيت؛ ويكفي هذا للحكم عليه بالسقوط!! ثم في توثيق الخطيب له ما يفيدنا أنه لا يجوز التعويل على توثيق الخطيب لأناس من المجسمة والحنابلة أو وصفهم بالصدق لِتَمْشِيَةِ رواياتهم أو مذهبهم أو تحسين صورتهم، فإنه كان عند تصنيفه ذلك التاريخ حنبلياً ثم تشفَّع وتمشعر! حتى قال الذهبي عنه في "الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم" ص (51): [أحمد بن علي بن ثابت الحافظ أبو بكر الخطيب تَكَلَّمَ فيه بعضُهم وهو وأبو نُعَيم وكثير من علماء المتأخرين لا أعلم لهم ذنباً أكبر من روايتهم الأحاديث الموضوعة في تآليفهم غير محذرين منها وهذا إثم وجناية على السنن فالله يعفو عنا وعنهم]. وإنما ذكر هذين الرجلين لأنهما أشعريان! ولم يذكر الخلال أو اللالكائي أو ابن أبي حاتم أو عثمان الدارمي أو ابن أبي شيبة ونحوهم معهم مع أنهم ملأوا كتبهم العقائدية بالأحاديث الموضوعة والواهية! وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (31/92): [وقال عبد العزيز الكتاني: ... وكان – أي الخطيب - يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله. قلتُ: مذهب الخطيب في الصفات أنها تُمَرُّ كما جاءت صرَّح بذلك في تصانيفه... وقال المؤتمن الساجي: تحاملت الحنابلة على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه... وقال ابن طاهر: سألت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي هل كان الخطيب كتصانيفه في الحفظ؟ قال: لا، كنا إذا سألناه عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب، وكانت له بادرة وحشة ولم يكن حفظه على قدر تصانيفه. وقال أبو الحسين الطيوري: أكثر كتب الخطيب سوى تاريخ بغداد مستقاة من كتب الصوري، كان الصوري ابتدأ بها وكانت له أختٌ بِصُور خَلَّف أخوها عندها اثني عشر عِدْلاً من الكتب فحصَّل الخطيب من كتبه أشياء. أخبرنا أبو علي بن الخلال أنا جعفر أنا السِّلَفي أنا محمد بن مرزوق الزعفراني ثنا الحافظ أبو بكر الخطيب قال: أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله تعالى وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف تعالى الله عن ذلك، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه، والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوم أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا لله يد وسمع وبصر فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد القدرة ولا إن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}..]. انتهى كلام الذهبي.
وأقول: بأنه يُحتمل احتمالاً كبيراً أن يكون الخطيب قال تلك العقيدة في طور حنبليته وقبل انتقاله للأشعرية! ثم إن هذه العقيدة من رواية السِّلَفي ولا أطمئن لها لأن السِّلَفي أصبهاني وعندي أنه متأثر بمذهب أهل بلده الذين يكثر فيهم المجسمة كما بيناه في ترجمة ابن مَنْدَه وأبي نُعَيم صاحب "الحلية"!
[قاعدة مهمة جداً]: تبيَّن لي من خلال تتبع الرجال في هذا الكتاب "تاريخ بغداد" أنَّ الخطيب البغدادي لا يعوَّل عليه إذا تفرَّد في توثيق الحنابلة المجسمة أو ناقلي تلك المقالات عن أولئك الأئمة، وذلك لأنه يتفرَّد أحياناً هو وبعض المجسمة بتوثيـق أفراد ليسوا في عصره بل بينه وبينهم مفاوز كبيرة ولم يوثقهم علماء عصرهم!! وكان الرَّجل في أوَّل أمره حنبلياً ثمَّ رجع فصار شافعياً معدوداً من أهل التنزيه ينسبونه للأشعري كما تقدَّم!! والظاهر أنه وثَّق أولئك وكتب ما كتب عنهم عندما كان في الطور الأول فيما يظهر!! فتنبه!! فهذا ابن قتيبة ما الداعي إلى توثيقه مع هذه الطعون الواردة فيه؟! وقد شعر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/298) في موضع هناك أنَّ تمحله في الدفاع عن ابن قتيبة من طعن الدارقطني فيه غير منطقي فرجع وقال: [وإن صحَّ (أي طعن الدارقطني فيه) فسحقاً له فما في الدين مُحَاباة]!! وأهدر توثيق الخطيب له! وقد ذكر الإمام الكوثري تفصيل حال ابن قتيبة في مقدمته وتعليقه على كتابه الأخير "الاختلاف في اللفظ" وبيَّن أنه رجع في آخر حياته عن كثير مما قاله في شبابه وارتدع برادع الزمن حيث شاهد في عصره من التطورات الشائنة ما حمله على الاعتدال. فليرجع إليه من شاء الاستبصار بحقيقة الحال وما انقلب إليه في المآل!! فتبين بهذا أن الأمور تحتاج لوعي واطلاع ودراسة وتتبع!
وما نقله الذهبي من كلام الخطيب فقد حذف منه جملة جيدة تهدم استدلاله بكلام الخطيب!! وسهى عن ذلك فأثبتها في ترجمته في" سير أعلام النبلاء"(18/284) وفي "تاريخ الإسلام" فخرَّب بيته بيده!! والجملة هي: (وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته لله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه والمقصِّر عنه). ومنه تتبين أمانة الذهبي في حكاية مذاهب العلماء وأقوالهم!!
والذي يدك نص هذه العقيدة التي رواها الذهبي عن الخطيب: قول الخطيب نفسه في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (4/33): [ويتجنب المحدث في أماليه رواية ما لا تحتمله عقول العوام لما لا يؤمن عليهم فيه من دخول الخطأ والأوهام وأن يشبهوا الله تعالى بخلقه ويلحقوا به ما يستحيل في وصفه وذلك نحو أحاديث الصفات التي ظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم وإثبات الجوارح والأعضاء للأزلي القديم وإن كانت الأحاديث صحاحاً ولها في التأويل طرق ووجوه إلا أن من حقها أن لا تروى إلا لأهلها خوفاً من أن يضل بها من جهل معانيها فيحملها على ظاهرها أو يستنكرها فيردها ويكذب رواتها ونقلتها]. وقال الخطيب البغدادي في كتابه "شرف أصحاب الحديث" (1/88): [إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: إنما فعل ذلك عمر احتياطاً للدِّين، وحسن نظر للمسلمين. لأنه خاف أن يَتَّكِلوا عن الأعمال وَيَتَّكِلُوا على ظاهر الأخبار، وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها. فقد يرد الحديث مجملاً ويستنبط معناه وتفسيره من غيره. فخشي عمر أن يحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه والحكم بخلاف ما أخذ به]. ومما يكمل دك هذه الأفكار والعقائد التي ينقلها الذهبي هنا عن الخطيب قول الخطيب إن خبر الواحد إذا خالف العقل أو القرآن أو السنة المتواترة فإنه يُرَدُّ ولا يُقْبَل! وهذا نصه في كتابه "الفقيه والمتفقه" (1/132): [إذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رُدَّ بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا. والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة ، فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ. والثالث: أن يخالف الإجماع، فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحاً غير منسوخ، وتجمع الأمة على خلافه، وهذا هو الذي ذكره ابن الطباع في الخبر الذي سقناه عنه أول الباب. والرابع: أن ينفرد الواحد براوية ما يجب على كافة الخلق علمه، فيدل ذلك على أنه لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون له أصل، وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم. والخامس: أن ينفرد الواحد براوية ما جرت به العادة بأن ينقله أهل التواتر فلا يقبل، لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية..]. وبهذا يكون ما قام به الذهبي من محاولات الإقناع بأن الخطيب البغدادي يقول بقوله وقول شيخه الحَرَّاني في الأخذ بظواهر النصوص في الصفات والتعويل على أخبار الآحاد المخالفة لقواعد الكتاب والسنة المنزهة لله تعالى عن مشابهة خلقه قد ذهب أدراج الرياح! والحمد لله رب العالمين.

وأما سند الرواية فقد نقلها الذهبي من كتاب "ذم التأويل" لابن قدامة (النص رقم 15) ففيها الصيرفي أبو طالب المبارك بن علي (482-563هـ) قال الذهبي في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (20/489): [قال ابن النجار:.. وكان صدوقاً مع قلة معرفته بالعلم وسوء فهمه، وكان خطه رديئاً كثير السقم]. وفي مختصر ابن الدبيثي برقم (1239): (وكان ثقة). ووثقه ابن الجوزي في المنتظم (18/185).
وقوله:( والمراد بظاهرها: أي لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة غير ما وضعت له)، فنقول: بل لها باطن!! فقد جاء في الحديث: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن)) رواه ابن حِبَّان في صحيحه برقم (75) وغيره وهو مخرَّج في كتابنا" التناقضات" (1/21-22)! ثمَّ نقول في بيان ذلك لدحض ما يقوله الذهبي: ظاهر الجناح المذكور في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}الحجر:88، غير مراد!! كما هو معلوم لأنَّ الجناح هو عضو معروف للطائر ذو ريش بهيئة معروفة!! وهذا مؤوَّل ولا يراد ظاهره!! والجنب أيضاً في قوله تعالى: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}الزمر:56، مؤوَّل حتى عند الذهبي الذي أنكر على الطَّلَمَنْكي كما تقدَّم في ترجمة رقم (146) عَدُّهُ إياه من الصفات!! ثمَّ نرى هؤلاء المجسمة يلهجون بتأويل مثل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}المجادلة:7، ولا يقولون بالظاهر!! فقول الذهبي هنا مغالطة واضحة!!
وتقدَّم قبل قليل ــ وفي أكثر من موضع من كلامنا وتعليقاتنا ــ أننا قلنا أنَّ معنى (معلوم) أي ذِكْرُهُ في القرآن لا معناه!! وإلا فما هو المعلوم عندك يا ذهبي وما قصدك بِـ (معلوم)؟!