بطلان حديث أنس بن مالك الذي جاء فيه:( فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة يهبط الرب عـزَّ وجل عن عرشه إلى كرسيه..):
قال الذهبي في كتابه " العلو":
[ أنبأنا طائفة عن جماعة، أجاز لهم أبو علي الحداد، أنبأ أبو نُعَيم، أنبأ الطبراني، ثنا محمد بن زرعة الدمشقي، ثنا هشام بن عمَّار، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبدالرحمن بن ثابت، عن سالم بن عبدالله، أنه سمـع أنس بن مالك رضي الله عنه يقـول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أتاني جبريل وفي يده كهيئة المرآة)) الحديث بطوله وفيه:
((فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة يهبط الرب عـزَّ وجل عن عرشه إلى كرسيه، وحفَّ الكرسي بمنابر من نور فجلس النبيون)) غريب تفرَّد به الوليد].
أقول في بيان بطلان هذا الحديث:
لا أشك في أنه موضوع. رواه الطبراني في "الأوسط" (7/15) وهو في ((مجمع البحرين)) (2/198) ومن الغريب العجيب قول المعلِّق عليه هناك: ((ورجال إسناده كلهم ثقات إلا عبدالرحمن بن ثابت وهو صدوق يخطىء))!! قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أخطأ الرجل في أمور:
أولاً: الوليد بن مسلم مدلس تدليس التسوية. فلا بدَّ أن يصرح بالتحديث في جميع السند فوقه وفي السند عنعنتان، وبهذا فقط يكون السند ضعيفاً. وفي الحاشية قبل السابقة حال الوليد بن مسلم.
ثانياً: فكيف إذا انضاف إلى ذلك ضعف عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الشامي، الذي قال عنه ابن مَعِين في أكثر الروايات: ضعيف، وقال: لا شيء. وقال عنه أحمد: أحاديثه مناكير. وقال صالح بن محمد البغدادي أثناء كلام عليه: ((وحديث الشامي لا يُضَمُّ إلى غيره..)). وقال النَّسائي: ضعيف،.. وقال النَّسائي مَرَّةً: ليس بثقة.. كما تجد ذلك في "تهذيب التهذيب" و"تهذيب الكمال" (17/16). وقال الأوزاعي كما في ((المعرفة والتاريخ)) (2/392): ((قد رفع عنه القلم أي أنه مجنون)).
ثالثاً: ذهل المعلق فظنَّ أنَّ سالم بن عبدالله هو ابن عمر!! وليس كذلك بل هو شيخ شامي مجهول على التحقيق!! وتقدَّم قول أبي حاتم الرازي كما في "العلل" (1/206): ((قلت لأبي: هذا سالم بن عبدالله بن عمر؟ قال: لا هذا شيخ شامي)). قلت: والشيخ عند أبي حاتم هو الضعيف، ولم أجد له ترجمة في كتب رجال الستة ولا في "لسان الميزان"!!
فهل بعد هذا كله يصح ما قاله المعلق المذكور!! وعلى كل فربما يصح الإسناد والحديث موضوع كما هو معروف عند أهل هذه الصناعة!! ثمَّ هل يجوز اعتقاد أنَّ الله تعالى يهبط من عرش إلى كرسي ويحف به النبيون وهو سبحانـه القائـل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!!
وله سند آخر عند الطبراني في "الأوسط" (2/314) قال الطبراني: ((حدثنا أحمد بن زهير قال: نا محمد بن عثمان بن كرامة قال: نا خالد بن مخلد القطواني، قال: نا عبد السلام بن حفص، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك ...)) به، وفيه: (وذلك أن ربك اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض, فإذا كان يوم الجمعة نزل من عليين, فجلس على كرسيه, وحف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجواهر). قال الطبراني هناك عقبه: (لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ إِلَّا عَبْدُ السَّلَامِ، تَفَرَّدَ بِهِ: خَالِدٌ). أقول: أما خالد بن مخلد القطواني: فهو وإن كان من رجال الصحيح فقد قال عنه أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي: له أحاديث مناكير، كما في "الجرح والتعديل" (3/354) و"ضعفاء العُقَيلي" (2/15). وقال ابن سعد في "الطبقات" (6/406): (منكر الحديث). وقال الذهبي "الميزان" (1/641) في ترجمة خالد بن مخلد القَطْواني بعد أن ساق له حديث (من عادى لي ولياً): [فهذا حديث غريب جداً لولا هيبة الصحيح لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه،..]. وأما عبد السلام بن حفص فقد أورده ابن عَدِي في "الضعفاء" (5/333)، وقال أبو حاتم الرازي فيه كما في "الجرح والتعديل": (ليس بمعروف). ووثقه ابن مَعِين، فهو عند أبي حاتم الرازي مجهول!
وأبو عمران الجَوني يروي إسرائيليات عن نوف البِكَالي ابن امرأة كعب الأحبار مباشرة وعن كعب الأحبار بواسطة، ومن العجيب ما في كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/505) بإسناده عن أبي عمران الجَوْني أنه قال: [كان نوف بن امرأة كعب أحد العلماء]. مع أنه يهودي كذاب، قال عنه ابن عباس: ((كذب عدو الله)) كما في البخاري (1/218/122). ومن أمثلة روايات الجَوْني عن نَوْف وعن كعب ما في تفسير ابن أبي حاتم (9/2973) وتفسير ابن كثير (2/612) و(3/253)، وكان يُدْرِجُ زيادات في الأحاديث كما بينته في "شرح الطحاوية" في الكلام على الميثاق عند حديث (وأنت في صلب آدم) فإنها من زياداته وإدراجاته. وله أحاديث فيها اضطراب وتفرُّدات، فمنها حديث (رداء الكبرياء على وجهه) تعالى الله عن ذلك، وقد تكلمت عليه في التعليق على "تأسيس التقديس"، وله حديث خالف فيه ثابت كما في "مسند أحمد" (3/285) وغيره، وأنكر شعبة حديثه في التوقيت بخصال الفطرة أربعين يوماً كما في "الجامع لعلوم أحمد" (15/208) و"جامع الخلال" ص (143)، قال أحمد: (كان شعبة ينكره. يعني: حديث أبي عمران الجوني عن أنس: وقت لنا..). وله أحاديث غرائب ومنها ما نص عليه الحافظ أبو نُعَيم في "الحلية" (2/316) في حديث منكر هناك، قال النسائي: ليس به بأس . كما في "تهذيب الكمال" (18/299). وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/346) في ترجمة أبي عمران الجوني: [سألت أبي عن أبي عمران الجوني فقال: صالح]. وهذا يشعر أنه ليس بثقة عندهما ولا يُحْتَجُّ بحديثه بل فيه كلام، خاصة عند أبي حاتم، عند من يفهم صناعة الحديث، ومن أمثلة عدم احتجاج أبي حاتم بمن وصفه بأنه (صالح) أو (صالح الحديث) قول ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/37): [وإذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار]. وجعله دون الصدوق. وقال في "الجرح" (2/431): [سمعت أبى يقول: أبو صالح باذان صالح الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به]. وقال في "الجرح" (4/227): [سمعت أبى يقول: سفيان بن حسين صالح الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به]. وقال في "الجرح" أيضاً (4/323): [سعير بن الخمس... سألت أبى عنه فقال: صالح الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به]. وقال هناك أيضاً (5/315): [سألت أبى عن عبد الله بن أبى زياد القداح؟ فقال: ليس بالقوي ولا بالمتين وهو صالح الحديث يكتب حديثه]. وقال هناك أيضاً (6/22): [عبد الواحد بن عبد الله النصرى روى عن واثلة بن الأسقع.. سألت أبى عن عبد الواحد النصري؟ فقال: كان والياً على المدينة صالح الحديث. قلت: يحتج به؟ قال: لا]. وعليه فأبو عمران الجَوْني ضعيف عندنا إلا إذا أتى بخبر لا نكارة فيه ولم يتفرَّد به عن الناس ويكون في معنى حديثه أحاديث أخرى، يعرف ذلك الناظر الفاحص! وحديث المرآة هذا المنكر الذي نحن بصدد الكلام عليه من طريقه واهٍ شديد الضعف مردود وهو من جملة الموضوعات عندي. وفيما بيناه من إسناده رد على الحافظ المنذري القائل في "الترغيب" (4/311): [ولكن رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد]. وهذا عجيب غريب منه! كما فيه رَدٌّ على المعلِّق على سنة ابن أحمد (1/250).
وقد تغافل البراك في التعليقه الهش على "العلو" عن كل هذا الذي بيناه في حديث الطبراني فسكت في تعليقه (1/320) على تجويد المنذري وغيره له! وأورد في الصفحة التالية هناك (321) أن ابن عساكر ألَّف جزءاً في هذا الحديث سماه: (القول في جملة الأسانيد في حديث يوم المزيد) ولم يبين أو يُنَبِّه على أن ابن عساكر ضعَّف جميع تلك الأحاديث! قـال الإمـام الكوثري في تعليقه على المسند المنسوب للإمام الشافعي (1/127): [للحافظ ابن عساكر جزء سماه: ((القول في جملة الأسانيد الواردة في حديث يوم المزيـد)) بيَّن فيه وجوه الوهي فيها، وقال: إنَّ لهذا الحديث عن أنس عدة طرق في جميعها مقال] اهـ.
[قاعـدة]: فمما يجب أن يُعلم أن تعدد الطرق الواهية والضعيفة وخاصة إذا كانت أفكارها ومعانيها معارضة لما في القرآن والسنة الصحيحة لا تفيد تقوية الحديث شيئاً بل إن معارضتها للقواطع تحكم عليها بالوضع والكذب بلا مثنوية!! وإذا كان الأئمة قد ردّوا أحاديث صحيحة الإسناد لمعارضتها لما هو أقوى منها فما بالك بالطرق الواهية والضعيفة؟!
ومما أعجبني في قواعد هذا الباب وهو أن الضعيف لا يرتقي للحسن بمجرد مجيئه من عدة طرق أنهم صرّحوا بأنَّ الحديث الذي يعتضد ويرتقي للحسن بطرقه الضعيفة لا يصلح أن يكون حجة في الأحكام ومن باب أولى في العقائد وأصول الدين وإنما يؤخذ به في الفضائل لا غير إذا كان لا يعارضه شيء!! ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر في ((النكت على كتاب ابن الصلاح)) (1/402): [فأما ما حررناه عن الترمذي أنه يطلق عليه اسم الحسن من الضعيف والمنقطع إذا اعتضد فلا يتجه اطلاق اسم الاتفاق على الاحتجاج به جميعه ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طرق. ويؤيد هذا قول الخطيب: ((أجمع أهل العلم أنَّ الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به)) وقد صرَّح أبو الحسن ابن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه ((بيان الوهم والإيهام)) بأنَّ هذا القسم لا يحتج به كله بل يُعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القـرآن. وهذا حسن قوي رايق ما أظنُّ منصفاً يأباه والله الموفق.] فتأمل!!
والحمد لله تعالى على ذلك!! وبذا أستطيع أن أقول أن حديث سيدنا أنس هذا باطل موضوع لا حجة فيه ولا يصح الاستدلال به في العقائد والتوحيد بل ولا في فضائل الأعمال، وقد ضعفه الأئمة والمشتغلون بهذا الفن قديماً وحديثاً فعللوه وطعنوا فيه، وهو حديث معارض للتنزيه المقرر في الكتاب والسنة، والله الهادي إلى الصواب.
بطلان حديث أنس بن مالك الذي جاء فيه:( فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة يهبط الرب عـزَّ وجل عن عرشه إلى كرسيه..):
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm