بطلان زيادة لفظة "الرحمن" التي وردت في حديث وصف اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ:
قال الذهبي في كتابه " العلو":
[حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم:
((اهتز لها عرش الرحمن)) لفظ مسلم].
أقول في التعليق على هذا الحديث:
صحيح دون لَفْظَةِ (الرحمن) رواه مسلم (2466و2467). ولَفْظُهُ الصحيحُ هو: (اهتزَّ العرش لموت سعد بن معاذ) دون زيادة لفظة (الرحمن). وقضية هذا الحديث: أنه رويَ بلفظين وهما: (اهتزَّ العرش لموت سعد) دون ذِكْرِ لفظ (الرحمن) وبلفظ: (اهتزَّ.. عرش الرحمن..) واللفظ الثابت من حيث المعنى ومن حيث الصناعة الحديثية هو: (اهتز العرش لموت سعد) والمقصود بالعرش هنا هو (النَّعْش) الذي هو السرير الذي يَحْمِلُون عليه الميت حينما يشيِّعونه، وأما زيادة لفظة (الرحمن) فهي كلمة زادها بعض الرواة وتسببت بإعطاء معنى آخر بعيدٍ عن الموضوع المقصود، وبعيدٍ عن الصواب، ونعتقد أن للفكر الإسرائيلي مدخلاً وأثراً في ذلك! مثل حديث: (خلق الله آدم على صورته) وتحوير بعض الرواة لفظ الحديث إلى (خلق الله آدم على صورة الرحمن). وفي "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1/218): [وَقَالَ: السُّيُوطِيُّ فِي "مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ": اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ وَهُوَ سَرِيرُ الْمَيِّتِ، وَاهْتِزَازُهُ فَرَحُهُ لِحَمْلِ سَعْدٍ عَلَيْهِ إِلَى مَدْفَنِهِ].
فسيدنا البراء بن عازب - كما في البخاري (3803) – قال: (اهتزَّ السرير) وابن عمر رضي الله عنهما – كما عند ابن أبي شيبة (7/534) وغيره – قال: (سبحان الله لقد تَفَسَّخَتْ أعواده أو عوارضه وإنه على رقابنا وأكتافنا). وأصل ذلك ما روته السيدة عائشة وأُسَيْد بن حُضَير أن النبي صلى الله عليه وعلى آله ، قال: (إنَّ العرش اهتزَّت أعواده لموت سعد بن معاذ) كما رواه الطحاوي وسيأتي توثيقه. وقد اسْتُعْمِلَ لفظ العرش في القرآن والسنة وكلام العرب في معنى السرير وليس في معنى (عرش الله) المزعوم، ومن ذلك: قوله تعالى عن سيدنا يوسف عليه السلام: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وفي بلقيس: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} النمل:38، فليس المقصود (بالعرش) هنا الجسم العظيم المزعوم الذي نِسْبَةُ السموات والأرض أمامه كالذَّرَّةِ في الهواء وكالحلْقة في الفلاة! والذي يزعم المجسمة أن معبودهم يجلس عليه وأنه فوقه وأنه يَئِطُّ به أطيط الرَّحْل بالرَّاكب! لأن الله يتعالى ويتنزَّه أن يكون له كرسي أو سرير يتحرَّك عند موت أحد أو لأمر آخر! لذلك نهى الإمام مالك رحمه الله تعالى أن يُحَدِّثوا بحديث (اهتز عرش الرحمن لموت سعد) لئلا يَزِلَ الناسُ أو يَضِلُّونَ بهذا المعنى الفاسد، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (7/124) أن الإمام مالكاً أنكر حديث اهتزاز عرش الرحمن بموت سيدنا سعد ونهى عن التحديث به فقال: [ذَكَرَ صاحب العُتْبِيَّة فيها أنَّ مالكاً سئل عن هذا الحديث؟ فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدعو المرء أن يتكلّم بهذا وما يدري ما فيه من الغرور..] قلت: يريد أنه لا ينبغي أن يغترَّ فيتخيل أو يعتقد سامع هذا الحديث أموراً غير صحيحة في حق الله تعالى لا تليق بالمولى سبحانه، وهذا يدلنا على أن الإمام مالكاً من أئمة التنزيه ولم يكن ينزع إلى التشبيه. ثم قال الحافظ ابن حجر: [قال أبو الوليد ابن رشد في "شرح العتبية": إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرَّك يتحرَّك الله بحركته كما يقع للجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله، تبارك الله وتنزه عن مشابهة خلقه]. واهتزاز العرش كناية عن استبشار الملأ الأعلى وسرورهم بقدوم روح سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه. أو أن الملائكة كانت تحمل نعشه والظاهر أنَّ هذا هو الأصح، فقد روى الترمذي (3849) وغيره بسند صحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ مَا أَخَفَّ جَنَازَتَهُ! وَذَلِكَ لِحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وعلى له فَقَالَ: ((إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ)). صححه الترمذي. وهذا يوافق ما جاء في سورة البقرة في حمل الملائكة التابوت، قال تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} البقرة:248.
وحديث (العرش) هذا الذي ذكره الذهبي أعلاه رواه البخاري (3803) باللفظين (العرش) و (عرش الرحمن) في نفس الحديث، وقدَّم البخاري لفظ (العرش) قَبْل لفظ (عرش الرحمن) لأنه الأصل، وحديث جابر هذا مضطرب اللفظ. ووقع في رواية مسلم (2467) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله قال: (وجنازته موضوعة يعني سعداً: اهتزَّ لها عرش الرحمن) وفي رواية مسلم (2466) الأخرى عن جابر أنه صلى الله عليه وعلى آله قال: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) فهل اهتز العرش لموته أم لجنازته؟! وهو مروي عن أنس باللفظين (العرش) و(عرش الرحمن) وهو من اضطراب الرواة أيضاً كما سيأتي في التعليق على النص رقم (175). فكل هذا من تصرُّف الرواة واختلافهم في حكاية المتن. والحديث قد رويَ بلفظ (العرش) دون لفظ (الرحمن) من حديث الصحابة التالية أسماؤهم:
1- جابر نفسه عند البخاري (3803) بسندين ورواه أيضاً غيره من أصحاب كتب الحديث.
2- ومن حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة (7/534) وغيره. قال الحافظ البوصيري: (رواته ثقات) كما سيأتي.
3- ومن حديث أبي سعيد الخدري في "مسند أحمد" (3/23) وغيره وهو صحيح.
4- ومن حديث السيدة عائشة عند أحمد (4/352) وابن حبان (15/503) والحاكم (3/228) وصححه وأقرَّه الذهبي.
5- ومن حديث مُعَيقيب عند الطبراني في "الكبير" (6/12) و (20/351) وغيره.
6- ومن حديث أنس بن مالك في روايةٍ رواها البزار في "البحر الزخار" (13/209و295و401) من طرق عن سيدنا أنس بدون زيادة (الرحمن)، وكذا الطبراني في "الكبير" (6/12/5342)، والضياء في "المختارة" (3/56) وغيرهم وهو صحيح.
فهذه الروايات جميعها عن هؤلاء الصحابة تصرِّح بأن الصواب في لفظ الحديث هو (العرش) وليس لفظ (عرش الرحمن).
(فالعرش) هنا هو السرير أي النَّعْش الذي حمل عليه سعد بن معاذ لا (عرش الرحمن) كما زعم بعض الرواة! وقد رويَ ما يفيد أنه السرير الذي حمل عليه سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وعن بعض الصحابة وإليك ذلك:
1- روى الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (10/367/4172) والطبراني في "الكبير" (1/204) من حديث السيدة عائشة وأُسَيد بن حضير سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنَّ العرش اهتزَّت أعواده لموت سعد بن معاذ)) وهذا ظاهر في أنه أراد السرير الذي حُمِلَ عليه. وهو حديث حسن.
2- البراء بن عازب الصحابي، كما في البخاري (3803) في نفس الحديث. فإن نص الحديث هناك كالتالي: [... حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ F يَقُولُ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَنْ الْأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ F مِثْلَهُ فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: فَإِنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ: اهْتَزَّ السَّرِيرُ. فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ ضَغَائِنُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ]. وقوله فيه (كان بين هذين الحيين ضغائن) ليس بشيء لأن الصحابي الجليل البراء بن عازب لن يفتري على سعد بن معاذ ولن ينفيَ شيئاً في فضله قاله سيدنا رسول الله وهو يعلم حقيقة مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال العيني في "عمدة القاري" (4/239): [قال ابن الجوزي وغيره: يعني بالحيين الأوس والخزرج وكان سعد من الأوس والبراء من الخزرج وكل منهم لا يقرُّ بفضل صاحبه عليه. قال صاحب (التلويح) وفيه نظر من حيث إن سعداً والبراء كل منهما أوسي وإنما أشكل عليهم فِيمَا أرى أَنه رأى فِي نسب الْبَراء بن عَازِب بن الْحَارِث بن عَدِي بن جشم بن مجدعة بن حَارِثَة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج، وَسعد بن معَاذ بن النُّعْمَان بن امريء الْقَيْس بن زيد بن عبد الْأَشْهَل بن جشم بن الْحَارِث الأوسي، فَظن أَن الْخَزْرَج الأول هُوَ أَبُو الخزرجيين، فَفرق بَينهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ الْخَزْرَج أَبُو الحارثيين الْمَذْكُورين فِي نسبهما، وَهُوَ ابْن عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس بن حَارِثَة، كَذَا ذكر نسبهما بن سعد وَابْن إِسْحَاق وَخَلِيفَة فِي الآخرين.]. قلت: صاحب "التلويح شرح الجامع الصحيح" - صحيح البخاري - هو: مُغْلُطاي بن قليج الحنفي (690-762هـ) وهو تلميذ ابن دقيق العيد (625-702هـ) وشيخ ابن المُلَقِّن (723-804هـ) وقد استفاد الحافظُ ابن حجر في "فتح الباري" ونقل من شرح مُغْلطاي كثيراً، واعتمد على شرحه كثيرون أيضاً. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح (7/124): [قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا قَالَ جَابِر ذَلِكَ لِأَنَّ سَعْداً كَانَ مِنْ الْأَوْس وَالْبَرَاء خَزْرَجِيّ وَالْخَزْرَج لَا تُقِرّ لِلْأَوْسِ بِفَضْلٍ، كَذَا قَالَ! وَهُوَ خَطَأ فَاحِش، فَإِنَّ الْبَرَاء أَيْضاً أَوْسِيّ]. وسيدنا جابر ما كان يجهل أن كلاً من البراء وسعد بن معاذ من الأوس. وهذا يفيدنا أن الأمر قد يروى عن صحابي بإسناد رجاله ثقات إلا أنه مركَّب مصنوع!
3- وكذا ابن عمر الصحابي، فقد روى ابن أبي شيبة (6/393)، وابن سعد في "الطبقات" (3/433)، والبزار (كشف الأستار3/256/2697)، والحاكم في "المستدرك" (3/228) وصححه ووافقه الذهبي، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (10/115) وهذا لفظه من طريق: [..عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعداً. قال: ثم قالوا: وما العرش؟ قال: سبحان الله لقد تَفَسَّخَتْ أعواده أو عوارضه وإنه على رقابنا وأكتافنا]. قال الحافظ البوصيري في "اتحاف الخيرة المهرة" (7/101): [رواه أبو بكر بن أبي شيبة ورواته ثقات]. وسئل عنه الدارقطني كما في "علله" (12/378/2806) فقال: [رواه إبراهيم بن طهمان، وابن فضيل، وحماد بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مجاهد، عن ابن عمر. و (خالفهم) أبو بكر النهشلي، فرواه عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.. وحديث مجاهد، عن ابن عمر أشبه بالصواب]. فقد رواه عن عطاء بن السائب أربعة وهم سليمان بن حرب عند الطحاوي في "شرح المشكل" (10/115) وإبراهيم بن طهمان ومحمد بن فضيل وحماد بن سلمة كما قال الدارقطني. وبهذا يتبين ضعف قول العُقَيلي في "الضعفاء" (4/424) حينما قال: [وليس يحفظ حتى تخلَّعت أعواده من وجه صحيح]. وهو يقصد كما يظهر من وجه صحيح عن سعد بن أبي وقاص لا من طرقه الأخرى، فإن قصد أنه غير صحيح من طرقه الأخرى فقد أخطأ ولا عبرة به. قال الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة" (برقم1438): [وحماد بن سلمة سمع من عطاء بن السائب قبل اختلاطه فروايته قوية].
وفي "الكواكب النيرات" لابن الكيَّال الشافعي (863-929هـ) ص (36): [وقال حمزة بن محمد الكناني في أماليه: حماد بن سلمة قديم السماع من عطاء. وقال عبد الحق في الإحكام أن حماد بن سلمة سمع منه بعد الاختلاط كما قاله العقيلي قال الأبناسي وقد تعقب الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن المَوَّاق كلام عبد الحق يعني الذي ذكرناه وقال: لا نعلم من قاله غير العُقَيْلي وقد غلط من قال أنه قَدِمَ في آخر عمره إلى البصرة].
وقال الحافظ العراقي في "التقييد والإيضاح" (1/108): [ونقل الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن خلف بن المَوَّاق فى كتاب "بغية النُّقاد" الاتفاق على أن حماد بن زيد إنما سمع منه قديماً، واستثنى الجمهور أيضاً رواية حماد بن سلمة عنه أيضاً، فممن قاله: يحيى بن مَعِين وأبو داود والطحاوي وحمزة الكتاني، فروى ابن عَدِي في "الكامل" عن عبد الله ابن الدورقى عن يحيى بن مَعِين قال: حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب مستقيم. وهكذا روى عباس الدوري عن يحيى بن مَعِين. وكذلك ذكر أبو بكر بن أبي خيثمة عن ابن مَعِين، فصحَّح رواية حماد بن سلمة عن عطاء، وسيأتي نقل كلام أبي داود في ذلك، وقال الطحاوي: وإنما حديث عطاء الذي كان منه قبل تغيره يؤخذ من أربعة لا من سواهم وهم: شعبة وسفيان الثوري وحماد بن سلمة وحماد بن زيد. وقال حمزة بن محمد الكتاني في أماليه: حماد بن سلمة قديم السماع من عطاء بن السائب. نعم قال عبد الحق في "الأحكام": إن حمَّاد بن سلمة ممن سمع منه بعد الاختلاط حسبما قاله العُقَيلي في قوله: إنما ينبغي أن يقبل من حديثه ما روى عنه مثل شعبة وسفيان، فأما جرير وخالد بن عبد الله وابن علية وعلي بن عاصم وحماد بن سلمة وبالجملة أهل البصرة فأحاديثهم عنه مما سمع منه بعد الاختلاط، لأنه إنما قَدِمَ عليهم في آخر عمره انتهى. وقد تَعَقَّبَ الحافظُ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن المَوَّاق كلام عبد الحق هذا بأنْ قال: لا يُعْلَمُ مَن قاله غير العُقَيلي والمعروف عن غيره خلاف ذلك، قال: وقوله (لأنه إنما قَدِمَ عليهم في آخر عمره) غلط؛ بل قدم عليهم مرتين فمن سمع منه في القدمة الأولى صح حديثه عنه، قال: وقد نصَّ على ذلك أبو داود فذكر كلامه الآتى نقله أنفاً]. انتهى كلام الحافظ العراقي. وبه يتبين أن حديث عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر صحيح الإسناد.
وقال الإمام الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (10/367): ((فكان في هذا الحديث أنَّ ذلك العرش هو السرير الذي حمل عليه سعد رضي الله عنه)). وله كلام نفيس في ذلك أيضاً ص (372).
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (7/124): [وقـد أنكر ابن عمر ما أنكره البراء فقال: إنَّ العرش لا يهتزُّ لأحد، ثمَّ رجع عن ذلك]. قلت: ولم أقف على رجوعه عنه وبحثت عنه في ابن حِبَّان فلم أجده، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذلك: [ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: "اهتز العرش فرحا به" لكنه تأوله كما تأوله البراء بن عازب فقال: اهتز العرش فرحاً بلقاء الله سعداً حتى تَفَسَّخَتْ أعواده على عواتقنا، قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وهذا من رواية عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر، وفي حديث عطاء مقال لأنه ممن اختلط في آخر عمره].
وقد أجبنا عن ذلك بما ذكره الدارقطني في "العلل" قبل قليل. وبقول الحافظ ابن حجر نفسه في "تعجيل المنفعة" (برقم1438): [وحماد بن سلمة سمع من عطاء بن السائب قبل اختلاطه فروايته قوية]. وتقدَّم أن الحافظ ابن حجر ذكر في "الفتح" (7/124) أيضاً أن الإمام مالكاً أنكر حديث اهتزاز عرش الرحمن بموت سيدنا سعد رضي الله عنه أو نهى عن التحديث به. وقال الحافظ في "الفتح" (7/124) أيضاً: [وقال الحربي: إذا عظَّموا الأمر نسبوه إلى عظيم كما يقولون: قامت لموت فلان القيامة، وأظلمت الدنيا ونحو ذلك. وفي هذه منقبة عظيمة لسعد، وأما تأويل البراء على أنه أراد بالعرش السرير الذي حمل عليه فلا يستلزم ذلك فضلاً له لأنه يشركه في ذلك كل ميت، إلا أن يريد اهتز حملة السرير فرحاً بقدومه على ربه فيتجه]. وقوله (فلا يستلزم ذلك له فضلاً له لأنه يشركه في ذلك كل ميت) فيه نظر ولا نُسَلِّمُ له، بل يستلزم ذلك فضلاً له ولكل مؤمن مات مثل سيدنا سعد بن معاذ مناصراً للحق، ولا نُسَلِّمُ أيضاً لقوله (لأنه يشركه فيه كل ميت) بل نقول الكافر والمنافق ومن لم يبلغ رتبته لا يشركه في ذلك، أما المؤمنون والصالحون والشهداء وغيرهم فيشاركونه في ذلك وقد يفضل بعضهم عليه. ويؤكّده قول الحافظ ابن حجر نفسه هناك في "الفتح" (7/124): [وقيل هي علامة نصبها الله لموت من يموت من أوليائه ليشعر ملائكته بفضله]. إذاً ثبت عن جماعة من الصحابة وهم رؤوس السلف إنكار الحديث بلفظ (عرش الرحمن) وثبت أنه لا يصح من جهة الصناعة الحديثية، وثبت تفسير العرش بالسرير الذي يُحْمَلُ عليه الميت، فإضافة (الرحمن) دخيلة على الحديث. وبالتالي فإنَّ دلالة الحديث على وجود العرش الذي يريده الذهبي لا تصح أو هي ظنية على الأقل، وينجرُّ ما قررناه هنا على الروايات الأخرى لهذا الحديث التي فيها لفظ (عرش الرحمن) التي ستأتي بعد، والله الموفق.
بطلان زيادة لفظة "الرحمن" التي وردت في حديث وصف اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ:
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm