تفسير قوله تعالى {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}:
وأما قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} الأعراف:143، فبيان تفسيره ومعناه من وجوه:
الأول: أن مُعَلِّمَ الأنبياء هو الله تعالى وهو الذي قال خلاصة الحكم في الآية وهو: { لَنْ تَرَانِي} ، وأن المُتَعَلِّم القائل: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} هو سيدنا موسى النبي عليه السلام والله بين أنه يُعَلِّمُ الأنبياء ما لم يكونوا يعلمونه من قبل! حيث قال: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} آل عمران:48، وقال تعالى لنبيه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} النساء:113، فالمُعَلِّمُ هنا هو الله تعالى والمُتَعَلِّم المُتَلَقّي هو سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، فالتمسك بحكم المُعَلِّم الذي هو الرب سبحانه هو المطلوب لا المتعلم الذي قال له المعلم: {لن تراني}، وأفهمه الحكم في القضية بأنه لن يراه.
الثاني: أن المتعلم تاب من سؤال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} وندم عليه، وقال كما في آخر الآية الكريمة: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}!! يعني أنزهك، أتوب إليك وأنا أول المؤمنين بأنك لا تُرى يا رب، فسيدنا موسى عليه السلام علم بعد أن خرَّ صعقاً أن الله لا يُرَى وأن هذا الطلب خطير لا يليق بالله تعالى فتاب منه، ولو كان جائزاً لقال بأنني إن لم أرك الآن فسأراك في الآخرة!
الثالث: قول بعض المخالفين (بأن الأنبياء هم أعلم الخلق بما يجب ويجوز ويستحيل في حق الله تعالى فسؤال سيدنا موسى عليه السلام الرؤيةَ دالٌّ على جوازها) قول باطل بدليل أن سيدنا موسى لم يكن عالماً بأن الله تعالى لا يُرى في الدنيا –هذا على القول الباطل بأنه يُرَى في الآخرة ولا يُرَى في الدنيا-، لأن سيدنا موسى طلبها في الدنيا والله تعالى قال له: {لن تراني} ! إذاً قد يسأل الأنبياء أموراً لا يجوز أن يسألوها أصلاً، والدليل على ذلك: قوله تعالى لسيدنا نوح عليه السلام: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} هود:45-46. وقال الله تعالى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ التوبة:113، وهذه المسألة من بدهيات العقائد التي يعرفها جميع الأنبياء وهي أن المشركين لا يغفر الله لهم ولا يدخلهم الجنة، ومع ذلك كان النبي لا يَعْلَمُها أو علمها فطلب ما رجا أن يتأمله من الصفح عنهم فَعلَّمه الله وأرشده ونهاه عن الاستغفار لهم، وقال الله له: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} التوبة:80.
الرابع: قد يكون سيدنا موسى عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يُرى ولكن أراد أن يُعْلِمَ قومَه بذلك وأنه لو طلب هو الرؤية فإنه لن يرى الله وهو نبي مرسل! فما بالك بقومه الذين هم أدنى منه وأقل منزلة! قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} البقرة:55، وقال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} النساء:153، يؤكِّده قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ..} الأعراف:155، وهذه في سياق آيات {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}. فعلى هذا سيدنا موسى عندما طلب الرؤية كان عالماً بأن الله لا يُرى وكان يستدرج قومه في البيان والإرشاد مثل سيدنا إبراهيم عليه السلام.
الخامس: تفلسفُ بعض الناس بربط جواز قضية الرؤية بجواز استقرار الجبل وتعاميهم عن لب الآية والقصة وهو قوله تعالى {لن تراني}! تفلسفٌ باطل، لأن ملخص القضية أن سيدنا موسى عليه السلام طلب الرؤية فأخبره الله تعالى بأنه لن يراه، وقال له: إذا استقر الجبل فسوف تراني! ثم نسف الله الجبل ودكه وبذلك علمنا بأنه لن يرى الله تعالى وأن اعتقاد رؤية الله من العظائم! لذلك قال {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وصعق سيدنا موسى وتاب إلى الله تعالى من هذا السؤال! فكيف بعد هذا كله تكون الرؤية جائزة؟! ويجوز ربط الجائز في التصور بالمستحيل، ومثاله في القرآن الكريم: قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } الأعراف:40، دخول الجنة للكفار جائز عقلي – أي في التصور – عند مجوزي الرؤية وقد ربطه الله تعالى بمستحيل وهو دخول الجمل في ثقب الإبرة!
وبذلك اتضح معنى الآية.
والله تعالى أعلم.
تفسير قوله تعالى {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}:
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm