بيان ضعف طريقة الباقلاني في الاستدلال (2):
قال الباقلاني في كتاب "الإنصاف" ص (10):
[ويجب أن يعلم: أن الله تعالى متكلم، وأن كلامه غير مخلوق ولا محدث].
أقول: ما قاله مخالف صريح لقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحْدَث إلا استمعوه وهم يلعبون}.
وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً}.
قال الباقلاني في كتاب "الإنصاف" ص (24):
[فأما الدليل على كون كلام الله قديماً غير مخلوق، فمن الكتاب قوله تعالى " ألا له الخلق والأمر " فصل بين الخلق والأمر، فدل على أن المر غير مخلوق لأن كلامه أمر ونهي وخبر. وأيضاً قوله تعالى: " واللّه يقول الحق " ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " ولو أن كلامه مخلوق لاحتاج في خلقه إلى قول يقول به كن واحتاج القول إلى قول ثالث، والثالث إلى رابع، إلى ما لا نهاية له، وهذا محال باطل، فثبت أن القول الذي تكون به الأشياء المخلوقة غير مخلوق، وهو كلامه القديم.
ويدل عليه من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم. فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه. فلما كان فضل الله على خلقه بقدمه ودوامه؛ لأنه غير مخلوق وهم مخلوقون، فكذلك القول في كلامه، فوجب أن يكون غير مخلوق، وكلامهم مخلوقاً.
ويدل عليه أيضاً: أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القرآن فقال: " كلام اللّه غير مخلوق "].
أقول: أما الآيات الكريمة التي استدل بها فإنه لا دلالة فيها إلا من وجه بعيد ضعيف وقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} مع قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} يهدم الاستدلال بالآيات التي ساقها الباقلاني!
وهو بذلك يظن أن الله تعالى يخلق الأشياء بكلمة (كن) ولم يدرك أن هذا من المجاز! وتعالى أن ينطق الباري سبحانه بحروف وأصوات ولغات!
وأما احتجاجه بقوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} فلا دلالة فيه لأن العطف لا يدل على المغايرة دائماً ومما يبطل ذلك قوله تعالى: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} والنخل والرمان من جملة الفاكهة ولم يقتض ذلك التغاير، وقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} مع قوله تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} وقوله: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} ولم يفد كل ذلك التغاير!
أما السنة والأحاديث التي احتج بها فلا يصح شيء منها!
فالحديث الأول: (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه) رواه الترمذي، وملخص الكلام فيه أن الحافظ ابن حجر قال فيه: [أشار البخاري في خلق الأفعال إلى أنه لا يصح مرفوعاً].
وأما حديث أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القرآن فقال: "كلام اللّه غير مخلوق" فموضوع مكذوب.
فقال القاري في كتاب "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" ص (15):
[حديث (القرآن كلام الله غير مخلوق) "فمن قال بغير هذا فقد كفر" قال الصغاني: هذا موضوع. وقال السخاوي: هذا الحديث من جميع طرقه باطل. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات].
وقطع الإمام البيهقي بوضع الحديثين فقال في "الأسماء والصفات" (2/42):
[(فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله عز وجل على خلقه) تفرّد به عمر الأبح وليس بالقوي وروي عن يونس بن واقد البصري، عن سعيد دون ذكر الأشعث في إسناده، ورواه عبد الوهاب بن عطاء ومحمد بن سواء، عن سعيد، عن الأشعث دون ذكر قتادة فيه... قلت: ونقل إلينا عن أبي الدرداء مرفوعاً: (القرآن كلام الله غير مخلوق) وروي ذلك أيضاً عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله مرفوعاً، ولا يصح شيء من ذلك، أسانيده مظلمة لا ينبغي أن يحتج بشيء منها، ولا أن يستشهد بشيء منها].
فتأملوا!
ثم ادَّعى الشيخ الباقلاني أن الصحابة سموا حديث النفس كلاماً ! حينما أورد الآثار مستدلاً بها على مقصوده ـ مع أنه لم يورد إلا أثراً واحداً ـ حيث قال في كتابه "الإنصاف" ص (110):
[ويدل على ذلك أيضاً قول عمر رضي الله عنه: زوَّرت في نفسي كلاماً ، فأتى أبو بكر فزاد عليه ، فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان...].
أقول: وهذا استدلال غير صحيح لأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقل (زوَّرتُ في نفسي كلاماً) وإنما قال: (وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني)!! فلم يذكر لفظ (كلام) كما لم يذكر لفظ (نفسي) حتى يتم استدلال الشيخ الباقلاني ومَنْ يقول بقوله وفرق بين الكلام والقول كما بينته بدلائله في شرحي على الجوهرة!
فقد جاء في صحيح البخاري (6830) ومسند أحمد وصحيح ابن حبان وغيرها في قصة الصحابة الذين حضروا في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثُمَّ قَالَ ـ أي خطيب الأنصار ـ أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الإسلام وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنْ الأمر فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ..).
ويقول الباقلاني:
وقال الباقلاني في "الإنصاف" ص (71): [ولا يجوز أن يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق... فأما الدليل على كون كلام الله قديماً غير مخلوق.... من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه) فلما كان فضل الله على خلقه بقدمه ودوامه لأنه غير مخلوق وهم مخلوقون، فكذلك القول في كلامه، فوجب أن يكون غير مخلوق، وكلامهم مخلوقاً. ويدل عليه أيضاً: أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القرآن فقال: (كلام اللّه غير مخلوق)] .
أقول: انتبه كيف يقول إنه لا يجوز أن يقال بأن القرآن مخلوق كما لا يجوز أن يقال إن القرآن غير مخلوق ثم يستدل بأدلة لا تصلح بأنه غير مخلوق؟!
أرأيتم العبقرية!؟! ومنه يعلم بأن استدلالات الباقلاني غير قائمة وغير صحيحة!
ونحن نقول بأن السادة الأشاعرة المنزهين لا يوافقونه ولا يقولون بقوله في هذه المسألة ونحن معهم في ذلك! ومن ذلك:
قال إمام الحرمين في "الإرشاد" ص (116):
[فإن معنى قولهم ـ أي المعتزلة ـ هذه العبارات كلام الله أنها خَلْقُهُ، ونحن لا ننكر أنها خلق الله،...].
وقال العلامة اللقاني رحمه الله تعالى في شرحه الصغير على منظومته المسمى "هدية المريد" (1/502): [وإنما فُسّرَ القرآن بأنه كلامه تعالى وإن أُطْلِقَ كلٌّ منهما على اللفظ والمعنى القديم لأنه لما اشتهر كلامه في المعنى القديم والقرآن في اللفظ الحادث خصوصاً عند الفقهاء والقُرَّاء والأصوليين خُشيَ أن يسبق إلى أفهام القاصرين قدم اللفظ الحادث كما ذهب إليه رعاع من السفلة نسبوا أنفسهم للحنابلة ] .
وقال الباجوري ص (94) من شرحه على الجوهرة: [ومذهب أهل السنة أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق].
ومن أراد أن يتعصب للباقلاني ويقول بأنه سيف السنة وإمام الأمة والنابغة وصاحب الأدلة وغير ذلك فله أن يقول ما شاء ما دام أنه يقلد ولم يطلع على حقائق الأمور! لكنه سيصبح أمام خصومه غير المنزهين أضحوكة يلعبون بها!
والعاقل الفاحص يتأمل كلام زيد وعمرو ويتحقق من الصحة وعدم الصحة لما يقوله هذا وذاك في كل مسألة! وهذا كلام أوجهه لطلبة العلم وليس للعامة الذين لا يفهمون هذه الأمور! وليس لأحد أن يمنعنا من نشر ما نرى أن توجيه طلبة العلم وتوعيتهم للحقائق وتنبيههم على الأخطاء واجب لئلا يقعوا في الحيرة والتردد وتنكشف لهم الأمور على حقيقتها. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
بيان ضعف طريقة الباقلاني في الاستدلال (2):
عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm
العودة إلى ”عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها“
الانتقال إلى
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↲ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↲ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↲ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↲ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↲ شرح الحديث
- ↲ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↲ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↲ القواعد والأصول العقائدية
- ↲ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↲ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↲ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↲ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↲ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↲ السيرة النبوية
- ↲ قضايا تاريخية
- ↲ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↲ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↲ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↲ الردود على المخالفين
- ↲ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↲ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↲ القواعد الأصولية الفقهية
- ↲ مسائل فقهية عامة
- ↲ المذهب الحنفي
- ↲ المذهب المالكي
- ↲ المذهب الشافعي
- ↲ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↲ النحو والصرف
- ↲ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↲ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↲ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↲ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↲ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↲ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد