مسألة: في أن حروف الجر تقوم مقام بعضها

قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
أضف رد جديد
عود الخيزران
مشاركات: 777
اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm

مسألة: في أن حروف الجر تقوم مقام بعضها

مشاركة بواسطة عود الخيزران »

مسألة: في أن حروف الجر تقوم مقام بعضها

قال الدكتور نذير العطاونة في كتابه: ( القواعد اللغوية المبتدَعة):
المسألة الخامسة و العشرون :
حروف الجر تقوم مقام بعضها


قال ابن تيمية في (( مجموع الفتاوى )) (13/342) : [ ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض ] .
قلت : إن منشأ إنكار ابن تيمية لقيام الحروف مقام بعضها لم يكن مبحثاً لغوياً صرفاً ، وإنما كعادته ليطوع هذا المسألة في خدمة أفكاره ويسوّغ شذوذ آرائه !!
فابن تيمية وجد ( التناوب بين الحروف ) عقبة أمام إنكاره للمجاز ، ففي مثل قول الله تعالى : { أأمنتم من في السماء }(الملك/16) ، كان لا بدّ له أن يصرف معنى ( في ) عمّا تقتضيه من الظرفية ليفر من القول بالحلول ، فإن قال : أن معنى ( في ) هو ( على ) صار مؤولاً ودخل باباً من أبوب المجاز ، ولكنه سعى هارباً ولجأ إلى اللغة ! وزعم أن حرف الجر ( في ) باق على معناه ، وأن الصارف له عن المعنى المرفوض ( أي الظرفية التي تقتضي الحلول والاتحاد ) هو معنىً آخر يتضمّنه لفظ ( السماء ) ، وقد أوضح ابن تيمية مذهبه في هذه المسألة في (( مجموع الفتاوى )) (16/101) بقوله : [ وما في الكتاب والسنة من قوله : { أأمنتم من في السماء } ونحو ذلك ، قد يفهم منه بعضهم أن السماء هي نفس المخلوق العالي العرش فما دونه ، فيقولون : قوله : { في السماء } بمعنى : على السماء ، كما قال : { ولأصلبنكم في جذوع النخل }(طه/71) ، أي : على جذوع النخل ، وكما قال : { سيروا في الأرض }(الأنعام/11) ، أي : على الأرض ، ولا حاجة إلى هذا ، بل السماء اسم جنس للعالي لا يخص شيئاً ، فقوله : { في السماء } ، أي : في العلو دون السفل ، وهو العلي الأعلى فله أعلى العلو ، وهو ما فوق العرش وليس هناك غيره ] .
ونقول : لقد تضمّنت كتب أئمة النحو القول بتناوب حروف الجر وحلول بعضها مكان بعض واستشهدوا لذلك بنصوص كثيرة من القرآن الكريم وشعر العرب ، بل خصصوا لذلك فصولاً وأبواباً في مصنفاتهم ، فهذا الثعالبي يقول في (( فقه اللغة وسر العربية )) : [ ( الفصل الثالث والخمسون ) مجمل في وقوع حروف المعنى مواقع بعض ] .
وقال ابن قتيبة في (( تأويل مشكل القرآن )) (ص 365) : [ باب دخول حروف الصفات مكان بعض ] .
وقال أبو سعيد السيرافي في (( شرح كتاب سيبويه )) (1/280) : [ وقد يبدل الشاعر بعض حروف الجر مكان بعض وليس ذلك من الضرورة ... قال النابغة الجعدي :
كَأَنَّ رَحلي وَقَد زالَ النَهارُ بِنا يَومَ الجَليلِ عَلى مُستَأنِسٍ وَحِدِ
أراد ( زال عنا ) ، ومثل هذا كثير وليس من الضرورة ] .

ويقول ابن جني في (( الخصائص )) (2/306) : [ ( باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض ) ] .
بل وصنف في هذا الباب مكي بن أبي طالب القيسي كتاباً أسماه (( دخول حروف الجر بعضها مكان بعض )) .
قال المبرد في (( الكامل )) : [ وحروف الخفض يبدل بعضها من بعض ، إذا وقع الحرفان في معنى في بعض المواضع ، قال الله جل ذكره : { ولأصلبنكم في جذوع النخل }(طه/71) ، أي : ( على ) ، ولكن الجذوع إذا أحاطت دخلت ( في ) ، لأنها للوعاء ، يقال : فلان في النخل ، أي قد أحاط به ، قال الشاعر:
وَهُم صَلَبوا العَبديَّ في جِذعِ نَخلَةٍ فَلا عَطَسَت شَيبانُ إِلا بَأَجدَعا
وقال الله جل وعز : { أم لهم سلم يستمعون فيه }(الطور/38) ، أي : عليه .
وقال تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله }(الرعد/11) ، أي : بأمر الله .
وقال ابن الطَثَريّة:
غَدَت مِن عَلَيهِ تَنفِضُ الطَلَّ بَعدَما رَأَت حاجِبَ الشَمسِ اِستَوى فَتَرَفَّعا
وقال الآخر:
غَدت مِن عليه بعدما تمَّ خِمسُها تَصِلُّ وعن قيضٍ بزيزاء مِجهَل
أي من عنده ] .
وقال أبو عبيدة في (( مجازالقرآن )) (1/14) : [ ومن مجاز الأدوات اللواتي لهن معانٍ في مواضع شتى ، فتجئ الأداة منهن في بعض تلك المواضع لبعض تلك المعاني ، ... ، وقال : { لأَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } ، معناه : على جذوع النّخل ، وقال : { إذا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } ، معناه : من الناس ] .
وأقوال هؤلاء الأئمة تبطل ما زعمه ابن القيم في (( بدائع الفوائد )) (2/258) : حينما قال : [ وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر ، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة ] ، وهل هؤلاء ممن ذكرناهم لا يفقهون العربية !!!!
ونقول : ولا حجة لمنكري تناوب الحروف وقيامها مقام بعضها إلا شُبَه تشبثوا فيها ، وهي :
الشبهة الأولى : وقوع اللبس في اللغة .
قال ابن القيم في (( بدائع الفوائد )) (3/577) : [ والقاعدة أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض ، خوفاً من اللبس وذهاب المعنى الذي قصد بالحرف ]
قلت : وهذه شبهة لا تَرِد ! لأم من قال بتناوب الحروف اشترط الأمان من اللبس ، قال الحريري في (( درة الغواص في أوهام الخواص )) : [ إن إقامة بعض حروف الجر مقام بعض إنما جوز في المواطن التي ينتفي فيها اللبس ولا يستحيل المعنى الذي صيغ له اللفظ ] .
الشبهة الثانية : أن لكل حرف معنى ، فإن وقع محل غيره عُدِم البيان وصار الكلام ضرباً من العجمة !
والقائلون بهذه الشبهة يتصورون أن الأمر غير منضبط ، فيأتون بأي جملة ويقولون : استبدلوا الحرف هذا مكان ذاك ، حتى يظهر للسامع غرابة الكلام وعدم اتساقه ، وقد ردّ هذه الشبهة ابن جني في (( الخصائص )) (2/308) فقال : [ لكنا نقول : إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع ، على حسب الأحوال الداعية إليه ، والمسوغة له ، فأما في كل موضع وعلى كل حال فلا ، ألا ترى أنك إن أخذت بظاهر هذا القول غفلاً هكذا ، لا مقيداً لزمك عليه أن تقول : سرت إلى زيد ، وأنت تريد : معه ، وأن تقول : زيد في الفرس ، وأنت تريد : عليه ، وزيد
في عمرو ، وأنت تريد : عليه في العداوة ، وأن تقول : رويت الحديث بزيد ، وأنت تريد : عنه ، ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش ] .
الشبهة الثالثة : القول بالتضمين واعتباره أولى في الفعل والاسم من أن يكون في الحروف .
وهنا لا بد من بيان معنى التضمين أولاً ، إذ هو كما يقول ابن هشام في (( مغني اللبيب )) (2/791) : [قد يُشربون لفظاً معنى لفظ فيعطونه حكمه ، ويسمى ذلك تضميناً ، وفائدته : أن تؤدي كلمة مؤدّى كلمتين ] .
وهذا المعنى للتضمين مقبول ويؤدي المراد ويفهم به النص فلا مانع منه ، ولكنه لا يعتبر دليلاً على منع تناوب الحروف ، وما احتج به المنكرون للتناوب هو زعمهم أن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف ، وهذا لا يُجزم به ولا يُعدّ دليلاً ، وبما أن العرب استخدمت المجاز في الحرف، فلا نرى وجهاً لدعوى سهولة أو صعوبة التجوز في الحرف أو غيره !!! وملخص الأمر أن من رجّح التضمين لا يسعه إنكار تناوب الحروف .


[ تعقيب ]

إن المنكر تناوب حروف الجر قد قال بالتضمين، والتضمين يدخله المجاز والتوسع في اللغة على ما نص عليه ابن جني في (( الخصائص )) (2/308) بقوله : [ اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر ، وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر ، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر ] .
وقد صرح ابن تيمية بقوله في التضمين إذ قال في (( مجموع الفتاوى )) (13/342) : [ والعرب تُضَمّن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ] ، وهذا منه تناقض صارخ يُنبِئك على عدم انضباط آرائه ، فهو ينكر المجاز ، ثم يُجوّز اجتماع الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد، وبعد ذلك يقول بالتضمين الذي يُلزمه بالمجاز الذي ينكره ، فما يعيبه في موضع يَغرق فيه في مكان آخر من حيث لا يدري !!!
قال السيوطي في (( الأشباه والنظائر )) (1/121) : [ قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في (( حاشية الكشاف )) : فإن قيل : الفعل المذكور إن كان مستعملاً في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر ، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي ، وإن كان فيهما جميعاً لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ] .
أضف رد جديد

العودة إلى ”قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد“