الإمام لفخر الرازي من علماء أهل السنة الذين وافقوا علماء أهل البيت والمعتزلة في بعض مسائل الاعتقاد

مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
أضف رد جديد
عود الخيزران
مشاركات: 777
اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm

الإمام لفخر الرازي من علماء أهل السنة الذين وافقوا علماء أهل البيت والمعتزلة في بعض مسائل الاعتقاد

مشاركة بواسطة عود الخيزران »

قال سماحة السيد العلّامة حسن السقاف: الفخر الرازي من علماء أهل السنة الذين وافقوا علماء أهل البيت والمعتزلة في بعض مسائل الاعتقاد، وما اعتمده يخالف القول الذي يدّعي البعض أنه قول جمهور أهل السنة أو جمهور الأشاعرة، وبيان أن ما يسمى (المذهب الأشعري) أو (المدرسة الأشعرية) ليست مذهباً واحداً إنما هي عدة مذاهب وآراء وأقوال مختلفة وأن الحق ليس حكراً على أحد دون أحدٍ وأن من علماء الأشاعرة من يرى صحة ما يقوله المعتزلة أحياناً فيوافق اجتهاده أو قوله قولهم نظراً واستدلالاً لا تقليداً واتباعاً:

اعلم يرحمك الله أنَّ العالِمَ هو الناظر في الأدلة النقلية والعقلية، الذي يستنبط منها الأحكام، والمقلِّد ليس -مهما قيل إنه عالم- من ذلك في شيء، وليس ثَمَّ هناك( 1 )، ولذلك فإن بعض كبار وأساطين علماء أهل السنة والجماعة وافقوا علماء أهل البيت عليهم السلام والمعتزلة في مسائل من باب توافق الاجتهاد للاجتهاد، فرماهم المتعصبون بالاعتزال أو بغيره وشنعوا عليهم تشويشاً وتضليلاً للعامة والدهماء الذين لا يميزون ولا يدركون حقائق الأمور، ليصرف أولئك المهوشون وجوه الناس عن أولئك العباقرة وما قالوه من الأقوال الصحيحة المدللة بالحجج والبراهين! وليس ذلك بضارهم من شيء، ومن أولئك الأئمة الفحول الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي الذي رُمِيَ بالرَّفض، والقفال الشاشي والماوردي وهما إماما طريقتي المذهب الشافعي في الفقه، فالقفال إمام طريقة الخراسانيين والماوردي إمام طريقة العراقيين في المذهب الشافعي أو من أئمة الطَّرِيْقَين( 2 ).
قال القَرَافي (ت684) في "نفائس الأصول في شرح المحصول" (5/1953):
[.. العلوم ليست تقليدية، ولا يجمد فيها على حالة واحدة طول عمره، إلا جامد العقل، فاتر الذهن، قليل الفكرة، فاتر الفطنة، إلا في الأمور الجليلة جداً؛ فإنها لا تتغير عند العقلاء، وليس هذا منها، بل هذا من مجال النظر، وموارد التغير، فهذا الاختلاف مما يدل على وفور علم الإمام وجودة عقله ودينه، أما عقله وعلمه، فإنه دائم أبداً فى النظر والنقل، طالب للازدياد والتحصيل والوصول إلى غاية بعد غاية، وكشف حقيقة بعد حقيقة؛ فيظهر له دائماً خلاف ما ظهر له أولاً، وكذلك قال عمر في المشتركة: "ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي" ورجع عما أفتى به أولاً، ولم يزل العلماء على ذلك قديماً وحديثاً. وأما وفور دينه: فلأنه إذا ظهر رجحان شيء، رجع إليه، ولا يخشى أن يقال: غلط أولاً، ثم رجع للحق، بل يقول الحق متى ما ظهر له، ولا يكترث بمن يعتب عليه للاختيار الأول، وهذا عائد الدين، وصلابة الهمة، فهذا بأن يُشْكَرَ به الإمام أولى وأحرى، وأن يجعل من صفات كماله، لا من صفات نقصانه].
والكلام في ذلك معروف طويل الذيل فلننقل أمثلة على ذلك فنقول:
كان جماعة من أئمة الشافعية الأشاعرة يقرأون في كتب المعتزلة ويستحسنون ما فيها قبل إمام الحرمين وحاول من جاء بعدهم أن يتعذروا لهم بحجج واهية ظاهرة الفساد، وإليكم بعض ذلك لتتنبهوا إلى ما فيه:
جاء في ترجمة الإمام القفال (291-365هـ) وهو كما وصفه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (16/285): [القفال الشاشي الإمام العلامة، الفقيه الأصولي اللغوي، عالم خراسان، أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل بن الشاشي الشافعي القفال الكبير، إمام وقته بما وراء النهر، وصاحب التصانيف. قال الحاكم: كان أعلم أهل ما وراء النهر بالأصول، وأكثرهم رحلة في طلب الحديث.. وقال الحليمي: كان شيخنا القفال أعلم من لقيته من علماء عصره. قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: قدّسه من وجه، ودنّسه من وجه، أي دنسه من جهة نَصْرِهِ للاعتزال. قلت: قد مر موته، والكمال عزيز، وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تُدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها. وقد يغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق ولا قوة إلا بالله].
لاحظ قول الذهبي: (ولعله رجع عنها)! يتمنون رجوعه! ويحاولون كما سيأتي نسج قصص في ذلك ليس لها إسناد يصح! ولا شك أن القفال وغيره من أئمة الأشاعرة استفادوا من المعتزلة كما استفاد ابن عقيل وابن الجوزي من المعتزلة أيضاً ولم يسيروا على سكة الحشوية ومجسمة الحنابلة العوجاء.
وانتبه هنا إلى أن القفال الشاشي هو إمام طريقة الخراسانيين في المذهب الشافعي وقد وافق اجتهاده اجتهاد المعتزلة فرماه المتعصبة المنغلقون بالاعتزال، كما أن الإمام الماوردي إمام طريقة العراقيين أيضاً في المذهب الشافعي وقد وافق المعتزلة أيضاً في بعض المسائل كما سيأتي فيما بعد، والحليمي شيخ البيهقي وتلميذ القفال استفاد منه البيهقي في التنزيه في "الأسماء والصفات" وفي "شعب الإيمان"، لأن الحليمي كان منزهاً صرفاً من تأثير شيخه الإمام القفال.
وقد جاء في ترجمة القفال في "طبقات الشافعية الكبرى" (3/130) ما يفيد ويكشف حقيقة الأمر حيث قال السبكي هناك: [محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير الشاشى. الإمام الجليل أحد أئمة الدهر ذو الباع الواسع فى العلوم واليد الباسطة والجلالة التامة والعظمة الوافرة، كان إماماً فى التفسير، إماماً فى الحديث، إماماً فى الكلام، إماماً فى الأصول، إماماً فى الفروع، إماماً فى الزهد والورع، إماماً فى اللغة والشعر، ذاكراً للعلوم محققاً لما يورده، حسن التصرف فيما عنده فرداً من أفراد الزمان... وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: بلغني أنه كان مائلاً عن الاعتدال قائلاً بالاعتزال فى أوَّل أمره ثم رجع إلى مذهب الأشعرى. قلت: وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة عظيمة وحَسِيكَة في الصدر جسيمة وذلك أن مذاهب تحكى عن هذا الإمام فى الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة وطالما وقع البحث فى ذلك حتى تُوُهِّم أنه معتزلي واستند المتوهم إلى ما نُقِلَ أن أبا الحسن الصفار قال: سمعت أبا سهل الصعلوكى وسئل عن تفسير الإمام أبى بكر القفّال فقال: قدسه من وجه ودنسه من وجه أى دنسه من جهة نصرة مذهب الاعتزال. قلت: وقد انكشفت الكربة بما حكاه ابن عساكر وتبين لنا بها أن ما كان من هذا القبيل كقوله يجب العمل بالقياس عقلاً وبخبر الواحد عقلاً وأنحاء ذلك فالذى نراه أنه لما ذهب إليه كان على ذلك المذهب فلما رجع لا بد أن يكون قد رجع عنه فاضبط هذا. وقد كنت أغتبط بكلام رأيته للقاضى أبى بكر فى التقريب والإرشاد وللأستاذ أبى إسحاق الإسفرايني فى تعليقه في أصول الفقه في مسألة شكر المنعم وهو أنهما لما حكيا القول بالوجوب عقلاً عن بعض فقهاء الشافعية من الأشعرية قالا: اعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا فى الفقه ولم يكن لهم قدم راسخ فى الكلام وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلاً فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة من قبيح المذهب وكنت أسمع الشيخ الإمام رحمه الله يحكي ما أقوله عن الأستاذ أبي إسحاق مغتبطاً به، فأقول له: يا سيدي قد قاله أيضاً القاضي أبو بكر ولكن ذلك إنما يقال في حق ابن سريج وأبي على بن خيران والإصطخري وغيرهم من الفقهاء الذاهبين إلى ذلك الذين ليس لهم فى الكلام قدم راسخ، أما مثل القفال الكبير الذى كان أستاذاً فى علم الكلام وقال فيه الحاكم إنه أعلم الشافعيين بما وراء النهر بالأصول فكيف يحسن الاعتذار عنه بهذا؟! فلما وقفت على ما حكاه ابن عساكر انشرحت نفسي له، وأوقع الله فيها أن هذه الأمور أشياء كان يذهب إليها عند ذهابه إلى مذهب القوم، ولا لوم عليه فى ذلك بعد الرجوع. وفي شرح الرسالة للشيخ أبي محمد الجويني أن أصحابنا اعتذروا عن القفال نفسه حيث أوجب شكر المنعم بأنه لم يكن مندوباً فى الكلام وأصوله. قلت: وهذا عندى غير مقبول لما ذكرت. وقد ذكر الشيخ أبو محمد بعد ذلك في هذا الكتاب أن القفال أخذ علم الكلام عن الأشعرى وأن الأشعرى كان يقرأ عليه الفقه كما كان هو يقرأ عليه الكلام. وهذه الحكاية كما تدل على معرفته بعلم الكلام وذلك لا شك فيه كذلك تدل على أنه أشعري وكأنه لما رجع عن الاعتزال وأخذ في تلقي علم الكلام عن الأشعري فقرأ عليه على كبر السن لعلو رتبة الأشعرى ورسوخ قدمه في الكلام وقراءة الأشعري الفقه عليه تدل على علو مرتبته أعني مرتبة القفال وقت قراءته على الأشعري وأنه كان بحيث يُحمل عنه العلم. قال الشيخ أبو إسحاق مات القفال سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. قال ابن الصلاح: وهو وَهَمٌ قطعاً. قلت: أرخ الحاكم أبو عبد الله وفاته فى آخر سنة خمس وستين وثلاثمائة بالشاش وهو الصواب، ومولده فيما ذكره ابن السمعاني سنة إحدى وتسعين ومائتين فيكون عمره حين توفي ابن سريج سبع سنين ويكون قد جاوز العشرين يوم موت الأشعري بسنوات على الخلاف في وفاة الأشعري]. انتهى كلام السبكي.
قلت: الصواب أن عمره عند وفاة الأشعري سنة (324هـ) كان نحو (33) سنة.
أقول: وفي هذا الكلام فوائد وملاحظات:
1- أن موافقة القفال للمعتزلة ثابتة في تفسيره. وهم يحاولون أن يقولوا لعله تاب كما قال الذهبي، أو كما قال ابن عساكر: بلغني أنه رجع (!!) وكل ذلك تَمَنٍّ وحكايات مصدرها (بلغني) بلا سند والرجوع لا يثبت بمثل هذا المحاولات والحكايات الهزيلة، وكان هذا الأمر قد جعل لدى السبكي ضائقة انفرجت بمثل هذه البلاغات والقصص والتحليلات الواهية.
2- قوله (وقد كنت أغتبط بكلام رأيته للقاضي أبي بكر فى التقريب والإرشاد وللأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني في تعليقه في أصول الفقه في مسألة شكر المنعم وهو أنهما لما حكيا القول بالوجوب عقلاً عن بعض فقهاء الشافعية من الأشعرية قالا: اعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا فى الفقه ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلاً فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة من قبيح المذهب).
فيه إثبات التالي:
- أن بعض كبار فقهاء الشافعية الأشاعرة (القفال وابن سريج وأبي على بن خيران والإصطخري وغيرهم من الفقهاء) قالوا بوجوب شكر المنعم عقلاً موافقة منهم للمعتزلة. أي أنهم قالوا بالتحسين والتقبيح العقلي. والتحسين والتقبيح العقلي هو مذهب الماتريدية أيضاً( 3 )!
- أن كبار الأشاعرة هؤلاء طالعوا كتب المعتزلة فتأثروا بها.
- وأنهم تأثروا بالمعتزلة لأنهم طالعوا كتبهم على كبر ولم يكونوا متمكنين ولا لهم قدم راسخ في الكلام أي في الاعتقاد، وهذا اتهام وتجهيل خطير باطل لهم. لا دليل عليه، والغرض منه تنفير الناس عن متابعتهم فيما قالوه. وكل ذلك مرفوض.
- كان هؤلاء الكبار من أساطين المذهب من الأشاعرة (غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة من قبيح المذهب) وهذا اتهام قبيح لأئمةٍ وجهابذةٍ بلا مسوّغ، أي أن هؤلاء الجهابذة أغبياء لا يميزون بين الحق والباطل ! حسب ادّعاء هذا القائل !
- ثمَّ اعترفوا بإن هذا الاتهام الباطل لهؤلاء الكبار لا يصح في حق القفال لأنه كان من المتمكنين عقائدياً باعترافهم وهذا مما ينقض تمحلاتهم وتوقعاتهم وأمانيهم. فلجأوا إلى حيلة أخرى وهي ادّعاء رجوعه عن ذلك.
- أن القَفَّال كما يدّعي السبكي كان عمره قد جاوز العشرين سنة حين قرأ على الأشعري العقائد وحينما قرأ الأشعري عليه الفقه. وهذا يفيد من حيث لا يشعرون أن هذا كان أول حياته ثم بعد ذلك وافق المعتزلة في مقالاتهم مستفيداً من كتبهم لأن تفسيره صنفه بعد ذلك لا قبل سن العشرين ! وهم يقولون بأن هؤلاء الأئمة قرأوا كتب المعتزلة وهم كبار حيث قال السبكي نقلاً عنهم: (وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم)! فظهرت الحقيقة ببطلان ادّعاء ما ادعوه على أولئك الأئمة.
وكل ما قاموا به من التعذر والتمحل فهو ترقيع ومحاولات فاشلة! لا سيما وقد أخطأ بعضهم في تاريخ وفاة القفال ثلاثين سنة ليتمم إثبات هذه الحكايات الباطلة!
والمهم ثبوت استفادة واستحسان بعض كبار أئمة الأشاعرة وأساطين الشافعية من كتب المعتزلة باعتراف أصحابنا!
ولننتقل بعد هذا إلى الإمام الماوردي إمام طريقة العراقيين عند الشافعية فنقول:
لقد وافق أقضى قضاة الشافعية وإمام طريقة العراقيين الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله تعالى (ت455هـ) في تفسيره المعتزلة في خلق الأفعال وفي أن الله لا يشاء المعاصي والكفر كعبادة الأوثان وفي أمور أخرى، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في ((لسان الميزان)) (4/260): [ولا ينبغي أن يطلق عليه اسم الاعتزال.... والمسائل التي وافق عليها المعتزلة معروفة، منها:.. أنه قال في تفسير سورة الأعراف: لا يشاء عبادة الأوثان، وافق اجتهاده فيها مقالات المعتزلة] اهـ.
قلت ـ حسن ـ: وقع بعض ذلك عند تفسير قول الله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}الأعراف:89.
فهنا كما هو واضح ثبت من كتب الماوردي بصريح قول الحافظ ابن حجر أن هناك مسائل وافق فيها الماوردي المعتزلة.
قال التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (5/175): [ذكر البحث عما رُمِيَ به الماورديُّ من الاعتزال: قال ابن الصلاح: هذا الماوردي عفا الله عنه يُتَّهم بالاعتزال وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه وأتأول له وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة غير متعرِّض لبيان ما هو الحق منها وأقول لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل، ولهذا يورد من أقوال المشبهة أشياء مثل هذا الإيراد، حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة، ومن ذلك مصيره في الأعراف إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان، وقال في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ}الأنعام:112، وجهان في جعلنا أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء والثاني تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها. وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحوناً بتأويلات أهل الباطل تلبيساً وتدسيساً على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق( 4 )، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق، ثم هو ليس معتزلياً مطلقاً فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}الأنبياء:2، وغير ذلك ويوافقهم في القَدَر وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديماً. انتهى].
وهنا لم يستطع السبكي أن يدفع عن الماوردي موافقته للمعتزلة، وأما ابن الصلاح فقد تجاوز الحد في الكلام على أحد أكابر الأئمة في المذهب وهو لا يوازيه ولا يقاربه ولم يستوعب الأمر على ما استوعبه وفهمه الحافظ ابن حجر فيما بعد، والحق ما قاله ابن حجر من موافقة القول للقول عن دليل وبرهان. وهذه ليست منقصة كما يحاول بعضهم تصويرها، بل هي من الممادح.
وبذلك ثبت أن جماعة من كبار الأشاعرة والشافعية استفادوا من المعتزلة ووافقوهم في عقائدهم باعتراف الأشاعرة أنفسهم مما يفيد ثبوت تأثير المعتزلة عليهم في عدم موافقة هؤلاء الأئمة للأشعري في مصنفاته التي فيها ما فيها مما تعلمون من موافقة الحشوية ومجسمة الحنابلة!
وذَمُّ مَنْ ذَمَّ أمثال ابن سُرَيج والماوردي والقفال والفخر الرازي ونحوهم بالاعتزال إنما هو في الحقيقة ذم لأتباع أئمة أهل البيت في العقائد لأن المعتزلة تابعون لأئمة العِتْرَة ولكنْ لا يجرؤ هؤلاء المتعصبون على إظهار أن هذا أيضاً مذهب العِتْرَة المطهرة عليهم السلام أو لا يعرفون ذلك! ويظنون أن الدِّين الحق هو ما نشأووا عليه هم وتلقوه من أشياخهم فقط!!
ومما يجب التنبيه عليه أن الفخر الرازي أدخل أقوال المعتزلة في تفسيره ونقلها من كتبهم وأفادنا بذلك جزاه الله خيراً حيث وقف على ما لم نقف عليه من كتبهم ومؤلفاتهم، والثابت عنه أنه قال في آخر أمره بموافقة المعتزلة في قضية خلق الأفعال وغيرها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فما وجدناه من حمل شديد على المعتزلة في تفسيره احتمل أنه من زيادات أولئك الذين أكملوا بعض التتمات والزيادات على التفسير وهما الخويي والقمولي وربما أيضاً غيرهما فردُّوا على المعتزلة بباطل القول كما تقدم ص (33-34). والله تعالى أعلم.
والذي يؤكد ما قلناه وقررناه قول الإمام السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (3/386) أثناء حديثه عن الكسب والاختيار: ((ولإمام الحرمين والغزالي مذهب يزيد على المذهبين جميعاً، ويدنو كل الدنو من الاعتزال وليس هو هو)).
توافق بعض أقوال الفخر الرازي مع أقوال المعتزلة الذي هو قول أهل البيت عليهم السلام في مسائل عقائدية:
1- قال الإمام الرازي في كتابه ((أصول الدين)) ص (89):
[قال أبو الحسن الأشعري: الاستطاعة لا توجد إلا مع الفعل، وقالت المعتزلة: لا توجد إلا قبل الفعل، والمختار عندنا أن القدرة هي عبارة عن سلامة الأعضاء وعن المزاج المعتدل فإنها حاصلة قبل حصول الفعل...]( 5 ).
وأكد ذلك بقوله رحمه الله تعالى في تفسيره (1/151): [أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه..].
2- وقال الشرقاوي في ((حاشيته على شرح الهدهدي على أم البراهين)) ص (75): [وذهب أبو منصور الماتريدي في أحد قوليه وأبو إسحاق الإسفراييني والرازي إلى أن كلامه تعالى الأزلي لا يسمع وإنما يسمع صوت يدل عليه يخلقه الله تعالى فموسى إنما سمع صوتاً ولفظاً].
قال الفخر الرازي في التفسير (14/189): [وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة يمتنع كونها مسموعة، وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في الشجرة، وهذا القول قريب من قول المعتزلة والله أعلم].
3- وقال الفخر الرازي في "شرح أسماء الله الحسنى" أو المسمى "لوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفات" ص (21): [المشهور من قول أصحابنا رحمهم الله تعالى أن الاسم نفس المسمى وغير التسمية، وقالت المعتزلة: إنه غير التسمية وغير المسمى واختيار الشيخ الغزالي رضي الله عنه أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متباينة هو الحق عندي......... وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية].
4- بما أن موضوع هذا الكتاب "أساس التقديس" في الصفات فلا بد لنا أن نعرض موقف الإمام الفخر الرازي من قضية أن الصفات عين الذات:
قال التفتازاني في ((شرح المقاصد)) (1/70) – كما تقدَّم - عند كلام له في زيادة الصفات وكونها غير الذات أو عين الذات وفي تعدد القدماء ما نصه: [وكلام الإمام الرازي في تحقيق إثبات الصفات وتحرير محل النزاع ربما يميل إلى الاعتزال].
وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (4/427) في ترجمة الفخر: [وذكر ابن خليل السكوني... أن ابن الخطيب:... نفى صفات الله الحقيقية وزعم أنها مجرد نِسَبٍ وإضافات كقول الفلاسفة].
وقد أوضح ذلك الدسوقي في حاشيته( 6 ) حيث قال: [قوله (والله هو الغني) أي عن كل شيء.. وظاهر قولنا عن كل شيء حتى عن صفاته( 7 )، وبذلك صرَّح الإمام الرازي في مواضع كثيرة من تفسيره حيث قال: لا يحتاج المولى في أفعاله وكماله إلى صفاته وإنما اقتضاها كمال الذات، قال الشيخ يس: ودعوى الاستغناء عن الصفات مشكلة( 8 ) ؛ كيف والاستغناء عنها تجويز لاضدادها تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وقد صرح بعضهم بما نصه: احتج الخصم على نفي الصفات بأنه يلزم من إثباتها افتقار الذات وهو محال، وأجيب بأن المحال هو افتقارها إلى خارج عنها. انتهى. لكن لا ينبغي أن يقال أنه سبحانه وتعالى مفتقر إلى صفاته لما في لفظ الافتقار من سوء الأدب وإن كان القول بصحة معناه لازماً مما ذكر]( 9 ).
قال العلامة الفرهاري(1239هـ) في "النبراس شرح العقائد النسفية" ص(٢٧٨): [إن أدلة المتكلمين على زيادة الصفات ضعيفة، وأيضاً يَرِدُ عليهم إشكالات صعبة سواء قالوا بأنها واجبة أو ممكنة. أما اعتذارهم بأنها لا عين الذات ولا غيرها فمما يصعب تحقيقه ! ولذا ترى كثيراً من أهل التحقيق يذهب إلى عينية الصفات، وقال الإمام عبدالوهاب الشعراني في القواعد الكشفية: صفاته عينه... ونقل بعض الصوفية عن علي رضي الله عنه قال: " كمال الإخلاص نفي الصفات ؛ أي: الزائدة." وقال بعض الأكابر: يكفي المؤمن أن يعتقد أن الله سبحانه عالم قدير سميع بصير، وأما الخوض في العينية والغيرية فتركه أولى]. انتهى المراد من كلام العلامة الفرهاري.
نفي الفخر للكلام النفسي:
1- قال الفخر الرازي في هذا الكتاب "تأسيس التقديس":
[وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} المائدة: 116. المراد: تعلم معلومي، ولا أعلم معلومك. وكذا القول في بقية الآيات. وأما قوله عليه السلام حكاية عن رب العزة: ((فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)). فالمراد: أنه إن يذكرني بحيث لا يطَّلع غيره على ذلك ذكرته بإنعامي وإحساني من غير أن يطَّلع عليه أحد من عبيدي. لأن الذِّكْر في النَّفْس عبارة عن الكلام الخفي والذِّكْر الكامن في النفس. وذلك على الله تعالى محال].
وهذا القول منه رحمه الله تعالى مهم جداً في مسألة الكلام النفسي. وما هو ظاهر ههنا أنه اعتمد بأن الكلام النفسي محال في حق المولى جل وعز. قال الشرقاوي في ((حاشيته على شرح الهدهدي على أم البراهين)) ص (75): [وذهب أبو منصور الماتريدي في أحد قوليه وأبو إسحاق الإسفراييني والرازي إلى أن كلامه تعالى الأزلي لا يسمع وإنما يسمع صوت يدل عليه يخلقه الله تعالى فموسى إنما سمع صوتاً ولفظاً].
2- وما قاله الفخر الرازي في تفسير الآية قاله أيضاً الحافظ البيهقي الأشعري في "الأسماء والصفات" ص (286): [وقد قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} المائدة: 116، أي تعلم ما أُكِنُّهُ وأُسِرُّهُ ولا علم لي بما تستره عني وتغيبه]. وهذا تأويل من الحافظ البيهقي أو ممن ينقل عنه البيهقي لهذه الآية الكريمة حيث لم يثبت بها الكلام النفسي وإنما أوَّلَهَا بما هو مغاير للكلام النفسي.
3- وقال الحافظ ابن حجر الشافعي الأشعري أيضاً في "فتح الباري" (13/386): [قوله (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) أي: إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سِرَّاً ذكرته بالثواب والرحمة سِرَّاً]. اهـ. أقول: لقد بيَّنتُ في التعليق رقم (132) من هذا الكتاب أن جملة (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي..) لا تصح في هذا الخبر من حيث الصناعة الحديثية وأنها من جملة الإسرائيليات.


الحواشي السفلية:

( 1 ) قال الإمام الغزالي في "المستصفى" (1/234):[فَالتَّقْلِيدُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَإِنَّ الْخَطَأَ جَائِزٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ، وَالْمُقَلِّدُ مُعْتَرِفٌ بِعَمَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْبَصِيرَةَ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ نَظَرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ فَهَذَا أَصْلُ الدَّلِيلِ]. وقال العلامة العطار في حاشيته الأصولية (2/442-443): [التقليد هو الأخذ بقول الغير كأنه أخذه قلادة في عنقه فهو تابع له تبع الدابة لقائدها، ولذلك قيل لا فَرْقَ بين مُقَلِّد يَنْقَاد وبهيمة تُقَاد، وأما التلامذة فإنهم بعد إرشاد المشايخ لهم إلى الأدلة فهم عارفون لا مقلدون].
( 2 ) وأما طريقتي العراقيين والخراسانيين فقال الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (89/3) وعنه نقل الذهبي في "سير النبلاء" (194/17): [واعلم أن مدار كُتب أصحابنا العراقيين أو جماهيرهم مع جماعات من الخراسانيين على تعليق الشيخ أبى حامد، وهو فى نحو خمسين مجلدًا، جمع فيه من النفائس ما لم يشارك فى مجموعه من كثرة المسائل والفروع، وذكر مذاهب العلماء، وبسط أدلتها، والجواب عنها، وعنه انتشر فقه طريقة أصحابنا العراقيين. وممن تفقه على أبى حامد من أئمة أصحابنا: أقضى القضاة أبو الحسن الماوردى صاحب الحاوى، والقاضى أبو الطيب، وسليم بن أيوب الرازى، وأبو الحسن المحاملى، وأبو على السنجى، تفقه السنجى عليه وعلى القفال المروزى، وهما شيخا طريقى العراق وخراسان فى عصرهما، وعن هؤلاء المذكورين انتشر المذهب].
( 3 ) قال الزبيدي في "شرح الإحياء" (2/192-193): [وحاصل ما في المسايرة وشرحه ما نصه: لا نزاع في استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل والعدل والظلم وَرَدَ شرع أم لا... وفاقاً منا ومن المعتزلة... وقالت الأشاعرة قاطبة ليس للعقل نفسه حسن وقبح ذاتيان ولا لصفة توجبهما... وقالت الحنفية قاطبة بثبوت الحسن والقبح للعقل على الوجه الذي قالته المعتزلة ...].
( 4 ) وهذا تعصب مردود! لأن الواجب اتباع الدليل لا التشنج لنصرة المذهب!
( 5 ) وهذا الذي قاله واعتمده الفخر الرازي هو قول المعتزلة، فقد قال القاضي عبدالجبار في "شرح الأصول الخمسة" ص (396): [وجملة ذلك: أن من مذهبنا أن القدرة متقدمة لمقدورها، وعند المجبرة أنها مقارنة له]. قال الإمام الكوثري رحمه الله تعالى في التعليق على "النظامية" ص (36) كما تقدَّم: [والرازي هو قدوة المتأخرين في تصور الجبر في مذهب الأشعري لكن استقرَّ رأيه على ما ذكره في "نهاية العقول في دراية الأصول" حيث قال: ((إن للقدرة معنيين: أحدهما: مجرَّد القوة التي هي مبدأ الأفعال المختلفة، والثاني: القوة المستجمعة لشرائط التأثير، والأولى قبل الفعل، وتتعلق بالضدين ـ وهي مدار التكليف ـ والثانية مع الفعل ولا تتعلق بالضدين، ولعل الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير، فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرَّد القوة العضلية، فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة، فهذا وجه الجمع بين المذهبين)) اهـ. وهكذا يكون الرازي أفلت من يد من يرى الجبر في مذهب الأشعري..] انتهى كلام العلامة الكوثري رحمه الله تعالى. والنص الذي نقلناه في الأعلى من كتاب "أصول الدين" أوضح مما قاله في "نهاية العقول"، وأثبت في مباينة لمذهبه لمذهب الجبرية الباطل.
( 6 ) حاشيته على " أم البراهين" ص(87) حينما علق على قول الشارح (والله هو الغني).
( 7 ) وهذا يفيدنا أن القائل بذلك يتصور أن الذات شيء والصفات شيء أو أشياء أخرى، وبالتالي يلزمهم القول بتركيب المولى سبحانه! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!!
( 8 ) أرى أن الرازي -إنْ ثَبَتَ عنه هذا القول- إنما يعني به: أن الصفات عينُ الذات وأن الله تعالى غني عن أن يفتقر لصفة مغايرة لذاته لا يتم كماله إلا بها، فهؤلاء لم يستوعبوا مقصده! وهذا يؤكد أنه يرى بأن الصفات عين الذات!
( 9 ) قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه "روضة الطالبين وعمدة السالكين" ص (130): [واعلم أن الصفات السبع عند الأشاعرة معانٍ زائدة على مفهوم الذات وهي ثابتة الأعيان والأحكام، ومعنى ثبوت الأعيان أنها ليست نفس الذات ولا خارجة منها. وقال غيرهم من المحققين: إنها نِسَبٌ وإضافات ثابتة الأحكام معدومة الأعيان، ومعنى كونها معدومة الأعيان أنها ليست زائدة على مفهوم الذات، وقال غيرهم من السادة: اعلم أن الأسماء والصفات نِسَبٌ وإضافات ترجع إلى عين واحدة إذ لا كثرة هناك بوجود أعيان زائدة على الذات المقدسة، كما زعم من لا علم له بالله تعالى من بعض النُّظَّار، فلو كانت أعياناً زائدة وما هو إله إلا بها لكان معلولاً لها فلا يخلو أن تكون هي عينه، فالشيء لا يكون معلولاً لنفسه، أو لا تكون فالإله لا يكون معلولاً لعلة ليست عينه، لأن ذلك يقتضي افتقاره وافتقار الإله محال فكون الأسماء والصفات أعياناً زائدة محال، فافهم جيداً]. وهذا كلام فيه انصاف واحترام للمخالفين وبيان لمقصودهم بأن الصفات زائدة على الذات، ورد على من يقول بالافتقار. بل وميل واضح إلى القول بأنها عين الذات.

أضف رد جديد

العودة إلى ”مسائل وقضايا التوحيد والإيمان“