الكلام هو اللفظ وليس المعاني القائمة بالنفس ولا ما يدور في قلوب الناس :
قال سماحة السيد المحدّث حسن السقاف:
التحقيق عندنا ــ في هذه المسألة ــ أن الكلام هو اللفظ الذي يظهر من اللسان ونحوه ، ولا يطلق على حديث النفس وما يدور في الذهن والخَلَد بأنه كلام ولا يجوز تسميته بالكلام النفسي ، وبيان ذلك :
قال قائلون : إن حقيقة الكلام هو ما يدور في النفس وسموه الكلام النفسي وممن قال بذلك الشيخ الباقلاني ، وهذا نصُّه من كتابه (( الإنصاف )) ص (109) حيث قال : [ ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب .. ] إلى آخر ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
أقول : ولم يورد هناك آية واحدة فيها ذِكْرٌ للفظ الكلام بل استنبط هناك استنباطات من بعض الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظ ( القول ) دون
( الكلام ) ، وتَرُدُّ تلك الاستنباطاتِ ظواهرُ الآيات والأحاديث الصحيحة المصرحة بأن ما يلفظه اللسان هو الكلام دون حديث النفس ، وسنبين إن شاء الله تعالى خطأ استدلاله بتلك الآيات الكريمة التي أوردها والله الموفق :
تعريف الكلام لغة ، وهل يطلق على ما يدور في النفس بأنه كلام ؟! :
قال ابن جِنِّي في كتابه (( الخصائص )) (1/8) :
[ فقد ثبت بما شرحناه وأوضحناه أن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها، المستغنية عن غيرها، وهي التي يسميها أهل هذه الصناعة الجمل، على اختلاف تركيبها. وثبت أن القول عندها أوسع من الكلام تصرفاً، وأنه قد يقع على الجزء الواحد، وعلى الجملة، وعلى ما هو اعتقاد ورأي، لا لفظ وجرس. وقد علمت بذلك تعسف المتكلمين في هذا الموضع، وضيق القول فيه عليهم، حتى لم يكادوا يفصلون بينهما. والعجب ذهابهم عن نص سيبويه فيه، وفصله بين الكلام والقول ] .
وقال ابن منظور في (( لسان العرب )) (12/522) :
[ ومِن أَدلّ الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماعُ الناس على أَن يقولوا القُرآن كلام الله ولا يقولوا القرآن قول الله وذلك أَنّ هذا موضع ضيِّق متحجر لا يمكن تحريفه ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه فَعُبِّر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أَصواتاً تامة مفيدة ] .
وزاد الزبيدي على ابن منظور فقال في (( تاج العروس شرح
القاموس )) : [ وعرَّفه بعض الأصوليين بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة ] .
وقال الزركشي في البحر المحيط (1/478) : [ وَأَصْلُ الْكَلامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ أَصْحَابَنَا لَمَّا أَثْبَتُوا الكلام النَّفْسِيَّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ آمِرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا . قِيلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ الْخُصُومِ الْقَائِلِينَ بِحُدُوثِهِ : إنَّ الأمر وَالنَّهْيَ بِدُونِ الْمُخَاطَبِ عَبَثٌ ، فَاضْطَرَبَ الأصْحَابُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فِرْقَتَيْنِ : .... وَهَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى إثْبَاتِ كَلام النَّفْسِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إلا الأشَاعِرَةُ هَكَذَا نَقَلُوهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ مِنْهُمْ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ ] .
الأدلة الشرعية على أن نطق اللسان يسمى كلاماً وأن ما في القلب لا يسمى كلاماً :
1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به )) . فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى عفا وغفر عن حديث النفس ما لم يتكلم به الإنسان ، ففرَّق بين حديث النفس وبين الكلام ، وبيَّن لنا أننا لا نؤاخذ به ما لم نتكلم أي ننطق به بألسنتنا على التفصيل الذي نص عليه العلماء ، فَعَلِمْنَا بذلك أن هذا هو الكلام في اللغة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبنا بلغة العرب التي نزل بها القرآن .
وبهذا لا نستطيع أن نثبت أن كلام الله تعالى صفة نفسية قائمة بذاته لأن الكلام لا يكون صفة نفسية وحديث نفس وإنما هو لفظ بصوت وحرف وبالتالي فيكون كلام الله تعالى هذا اللفظ المُحْدَث المخلوق المنزل ، وأما المعنى الثاني وهو الصفة النفسية فإنه لا دليل عليها إلا قياس الغائب على الشاهد .
2- وعن أبي هريرة قال : جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه : إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ، قَالَ :
(( وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ )) قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : (( ذَاكَ صَرِيحُ الإيمان )) .
لاحظ أنهم لم يسموا ما يجدونه في أنفسهم رضي الله عنهم كلاماً ، فتبين أن ما يدور في النفس لا يسمى كلاماً ، وأن الصحابة في هذا الحديث سموا ما ينطق به الإنسان ويلفظه كلاماً ؛ وهم العرب الأقحاح ، وهذا ظاهر واضح ، وقد أَقَرَّهُم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك .
3- وعن ابن عمر قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( أخبروني بشجرة مَثَلُها مَثَلُ المسلم تؤتي أُكلها كل حين بإذنٍ ربها ولا تَحُتُّ ورقها )) ؛ فوقع في نفسي أنها النخلة فكرهتُ أن أتكلَّم وثَمَّ أبو بكر وعمر فلما لم يتكلَّما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( هي
النخلة ... )) ، تبيَّن من هذا أن ما يقع في النفس لا يسمَّى كلاماً وأن الكلام ما ينطق به اللسان .
4- وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس )) وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لا تَكَلَّمُوا فِي
الصَّلاةِ )) . وقد نصَّ العلماء على أن ما يدور ويقوم في القلب من حديث لا يبطل الصلاة وإنما يبطلها أن يتكلم الإنسان بذلك الحديث ، فَعُلِمَ أن هذا الذي يدور في القلب والنفس ليس بكلام .
5- وعن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بلسانه ثم قال : (( كف عليك هذا )) فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟! فَقَالَ : (( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ )) ، تبين من هذا الحديث أن الكلام هو ما يلفظ به اللسان .
6- وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ))، جعل في هذا الحديث اللسان هو محل الكلام .
7- وقال الله تعالى { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا
كَذِبًا }الكهف : 4-5 ، تبين من هذه الآية الكريمة والأدلة السابقة أن الكلام هو ما يخرج من الفم لا ما يقع في النفس ، وما يقع في النفس يسمى اعتقاداً وحديث نفس .
8- وقال الله تعالى عن السيدة مريم عليها السلام : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } مريم : 26 ، ويقطع العاقل أنه يقع في نفسها عليها السلام حديث نفس ومعاني ولو اعتبر ذلك كلاماً لما كان صومها صحيحاً . ومثله قول الله تعالى لسيدنا زكريا عليه السلام : { قَالَ ءَايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } مريم : 10 .
9- ومن الأدلة أيضاً أن الأخرس لا يقال عنه بأنه متكلم ! ومن زعم أن الأخرس يقال له في لغة العرب متكلم لأنه يُحَدِّثُ نفسه وتدور في خَلَدِهِ الأفكار فقد عاند وكابر وابتعد عن الصواب . والأدلة في ذلك كثيرة لمن أراد أن يتتبعها .
الكلام هو اللفظ وليس المعاني القائمة بالنفس ولا ما يدور في قلوب الناس :
-
- Posts: 901
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm