مِنْ عِبَرِ التاريخِ:
هَلْ كان ابن تيمية يعاني من الاكتئاب !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، والَيْكَ أَنَبْنا، والَيْكَ المَصيرُ.
رَبَّنا: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذينَ كَفَروا، واغْفِرْ لَنا.
رَبَّنا: إِنَّكَ أَنْتَ العَزيزُ الحَكيمُ).
(رَبَّنا: افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ، وانْتَ خَيْرُ الفاتِحين).
قمتُ مرّةً بإحصاءِ المسائلِ التي يستتاب فاعلها، عند ابن تيمية، فإن تاب وإلّا قُتل؛ فاستهولتُ الرقم جدّاً، مع أنّ (99%) من هذه المسائل يُقتُل بها الجاني اجتهاداً، وليست داخلةً دخولاً أوّليا تحت قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وأنّي رَسولُ اللهِ، إِلّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: (النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزّاني، والمارِقُ مِنْ الدّينِ، التّارِكُ لِلْجَماعَةِ) أخرجه البخاري في كتاب الديات (6878) ومسلم في القَسامة (1676).
وتساءلت: هل التلفّظ بالنيّة في الصلاةِ؛ مفارقةٌ للدين مثلاً ؟
وإذا اجتهد عالم فقال: إنّ تقليدَ إمامٍ من الأئمة دون غيره واجب؛ يُستتاب، فإن تابَ وإلّا قُتل؟
هل شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة؛ أمرٌ، يستحق المسلم بفعله القتل؟
ولو اجتهد عالمٌ فقال: لا يجوز الفِطْرُ إلّا لمن عَجَز عن الصيامِ؛ يُستتاب، فإن تاب، وإلّا قُتل!
ثم تساءلتُ: ألا يمكنُ أن يكون الشيخُ أحمدُ ابن تيمية مثلَ شيخه أحمدَ ابنِ حنبلٍ، كلاهما كانا يُعانِيان مِنْ مرض الاكتئابِ المُزمنِ، أو الوسواس القهريّ، اللذين يسببان للمبتلَى النزقَ وسرعةَ الانفعال، والنفورَ من الناس، والاستيحاشَ منهم؟
مَن قرأ جُزءَ «المسائل التي حلف عليها أحمد» فربما يخرجُ بهذه النتيجةِ، التي
بدت لي!
(2) سُئِلَ الإمامُ أحمد: يُخلل الرجل لحيته إِذا تَوَضَّأ؟ قَالَ: إِي وَالله.
(4) وَقيل لَهُ: هَل تُكرَه الصَّلَاة فِي الْمَقْصُورَة؟ فَقَالَ: إِي وَالله.
(5) وَسُئِلَ عَن الْمَرِيض: هَل يَجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ؟ فَقَالَ: إِي الله.
(10) وَسُئِلَ: هَل يكره النَفخ فِي الصَّلَاة؟ فَقَالَ: إِي وَالله.
هل يستدعي شيءٌ من هذه المسائلِ التوكيدَ بالقَسمِ؟
أو هو أثر عن حالة نفسية صعبة، كان يعاني منها الإمام أحمد بعد محنته وسجنه وضربه؟
ثمّ وقفتُ على هذا النص الذي أورده أبو بكر ابن قيّم الجوزيّةِ، تلميذُ ابن تيمية في كتابه «مدارج السالكين» (3: 60) وهو يتحدّث عن درجات القَلقِ الثلاث، إذ قال: «هو عَلَى ثَلاثِ دَرَجاتٍ:
- الدَّرَجَةُ الأولَى: قَلَقٌ يُضَيِّقُ الخُلُقَ، وَيُبَغِّضُ الخَلْقَ، وَيُلَذِّذُ المَوْتَ.
يَعْني: يَضيقُ خُلُقُ صاحِبِهِ عَنِ احْتِمالِ الأَغْيارِ، فَلا يَبْقى فيهِ اتِّساعٌ لِحَمْلِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَقْييدِهِمْ لَهُ، وَتَعَوُّقُهُ بِأَنْفاسِهِمْ.
وَ«يُبْغِضُ الخَلْقَ» يَعْني: لا شَيْءَ أَبْغَضَ إِلَى صاحِبِهِ مِنِ اجْتِماعِهِ بِالخَلْقِ؛ لِما في ذَلِكَ مِنَ التَّنافُرِ بَيْنَ حالِهِ وَبَيْنَ خُلْطَتِهِمْ.
وَحَدَّثَني بَعْضُ أَقارِبِ شَيْخِ الإِسْلامِ ابن تَيْميةَ، رَحِمَهُ اللهِ، قالَ: كانَ في بِدايَةِ أَمْرِهِ، يَخْرُجُ أَحْيانًا إِلَى الصَّحْراءِ، يَخْلو عَنِ النّاسِ، لِقوةِ ما يَرِدُ عَلَيْهِ!؟
فَتَبِعْتُهُ يَوْماً، فَلَمّا أَصْحَرَ؛ تَنَفَّسَ الصُّعَداءَ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشّاعِرِ، وَهو لِمَجْنونِ لَيْلَى مِنْ قَصيدَتِهِ الطَّويلَةِ:
وأخْرُجُ مِنْ بَيْنِ البُيوتِ لَعَلَّني ... أُحَدِّثُ عَنْكِ النَّفْسَ بِالسِّرِّ خاليا
قال ابن القيّم: وَصاحِبُ هَذِهِ الحالِ: إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ اللهُ سُبْحانَهُ إِلَى الخَلْقِ، بِتَثْبيتٍ وَقوةٍ، وإلّا فانَّهُ لا صَبْرَ لَهُ عَلَى مُخالَطَتِهِمْ» انتهى المراد.
اقرأ كلام ابن القيم بهدوء، ولا تتشنج !؟
ولا يخفى على مطالعِ في كتب الطبّ النفسيّ؛ أنّ القلق والأرق والعُزلة والضيق من الناس؛ كلها مظاهرُ للاكتئاب المزمن، أو الوسواسِ القهريِّ، وهذه حالاتٌ مَرضيّةٌ، لا يصلح أن يكون المصابُ بها قدوةً للناس أبداً، بل هو خطر عليهم خطورةً صارخة!
ويبدو لي أنّ كثرةَ أحكامِ التكفير لدى الإمامِ أحمدَ والشيخِ ابن تيميةَ؛ مردّها إلى حالة نفسية، أصابتهما نتيجة السجن والضرب والإهانة، رحمهما الله تعالى.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وانْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمدُ للهِ على كلّ حال.
نقلاً عن العلّامة عداب الحمش.
مِنْ عِبَرِ التاريخِ: هَلْ كان ابن تيمية يعاني من الاكتئاب !؟
سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
-
- Posts: 901
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm
Return to “سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة”
Jump to
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↳ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↳ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↳ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↳ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↳ شرح الحديث
- ↳ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↳ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↳ القواعد والأصول العقائدية
- ↳ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↳ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↳ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↳ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↳ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↳ السيرة النبوية
- ↳ قضايا تاريخية
- ↳ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↳ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↳ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↳ الردود على المخالفين
- ↳ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↳ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↳ القواعد الأصولية الفقهية
- ↳ مسائل فقهية عامة
- ↳ المذهب الحنفي
- ↳ المذهب المالكي
- ↳ المذهب الشافعي
- ↳ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↳ النحو والصرف
- ↳ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↳ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↳ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↳ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↳ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↳ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد