الأدلة المعتبرة في الإيمان والعقائد : الحلقة الخامسة ( دليل العقل ):
قال سماحة السيد المحدّث حسن السقاف في كتابه "متن العقيدة والتوحيد":
والعقل أصل التكليف وأساسه وبه تدرك الأدلة الشرعية ويدرك المراد منها، وهو غريزة تُمَكِّن صاحبها من الإدراك والربط فيما بين المعلومات والفهم والاستنباط والاختراع (١) ، قال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ النساء :٨٣.
وقد حض الكتاب الكريم على النظر والتفكر وبين فضل العقل والألباب في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ الرعد: ٤ ، وذم من لا يُعْمِلُ عقله فقال: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ البقرة: ١٧١، وقال سبحانه: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ الملك : ١٠، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف: ۱۷۹، والمراد من قول أهل العلم إنَّ الدليل العقلي مقدم على الدليل النقلي هو : أن حديث الآحاد إذا عارضه ما هو أصح منه كالنص القطعي أو الإجماع أو الواقع كان مردوداً، وكذلك يظهر بالعقل خطأ فهم إنسان لنص قطعي (٢) ؛ يعني أن الله تعالى يوجه النص إلى العقل والعقل يستوعبه ويفهمه، فالعقل هو الحاكم على معناه بالضوابط اللغوية والشرعية .
والواجب العقلي هو ما يستحيل في العقل عدمه، كعدم وجود الخالق الصانع سبحانه وكالتحيز للجسم، والجائز ما يجوز في العقل وجوده وعدمه كوجود أي مخلوق أو عدم وجوده، والمستحيل ما لا يجوز في العقل وجوده كالنقص أو المثيل والشبيه الله سبحانه أو كخلو الجسم عن الحركة والسكون معاً بأن يكون الجسم لا ساكنا ولا متحركاً.
ويجب التنبه هنا إلى الفرق ما بين الجائز العقلي الحقيقي والجائز الخيالي الفاسد، فليس كل ما يجوزه الخيال هو جائز عقلي في الحقيقة فمن تخيل مثلاً حلول الله في غرفة أو بيت أو في شيء من الأشياء فإن هذا التخيل مبني على فاسد الأفكار وعلى جُرُفٍ هار ، فلا يعول عليه، وهذا التجويز قد يقع لبعض الطلبة أو المشايخ الذين لا يدركون الفرق. كقول بعضهم : كل موجود يصح أن يُرَى) وأشباه هذا .
الحواشي السفلية:
١) قال الإمام الغزالي في "المستصفى" (۲۳/۱): [ إذا قيل : ما حَدُّ العقل ؟ فلا تطمع في أن تحده بحد واحد فإنه هوس، لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معان، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى إن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلاً، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدو، فيقال فلان عاقل أي فيه هدو ، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم، حتى أن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلاً فلا يقال للحجاج عاقل بل داء ولا يقال للكافر عاقل وإن كان محيطاً بجملة العلوم الطبية والهندسية، بل إما فاضل وإما داه وإما كيس. فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود، فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية كجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني .. وبالاعتبار الثاني إنه: غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات وهكذا بقية الاعتبارات. قال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه" ص (۱۰۰): وينبغي أن لا يُهْمَلَ ما يثبت به الأصل وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقدم .....
2) قال الحافظ أبو حيان (٦٥٤-٧٤٥هـ) في "البحر المحيط" (٣١٦/١) : [ وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له: كن، تبينه الآية الأخرى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، وقوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ». لكن دليل العقل صَدَّ عن اعتقاد مخاطبة المعدوم، وَصَدَّ عن أن يكون الله تعالى محلاً للحوادث، لأن لفظة كن محدثة، ومن يعقل مدلول اللفظ وكونه يسبق بعض حروفه بعضاً لم يدخله شك في حدوثه، وإذا كان كذلك فلا خطاب ولا قول لفظيا، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه، فهو من مجاز التمثيل. وقال الحافظ الخطيب البغدادي (٣۹۲ - ٤٦٣هـ ) في كتابه "الفقيه والمتفقه" (۱۳۲/۱) باب القول فيما يُرَدُّ به خبر الواحد: وإذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رُدَّ بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ والثالث: يخالف الإجماع فَيُسْتَدَلُّ على أنه منسوخ أو لا أصل له...... وقال الإمام الغزالي (٤٥٠-٥٠٥هـ) في "المستصفى" (۱۳۲/۲): [ اعْلَمْ أَنَّ الْمُهِمَّ الأَوَّلَ مَعْرِفَةُ مَحَلَّ التَّعَارُضِ، فَتَقُولُ كُلُّ مَا دَلَّ الْعَقْلُ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَ لِلتَّعَارُضِ فِيهِ مَجَالٌ إِذْ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ يَسْتَحِيلُ نَسْخُهَا، وَتَكَاذُبُهَا، فَإِنْ وَرَدَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى خِلافِ الْعَقْلِ فَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ مُتَوَاتِراً فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا، فَيَكُونُ مُؤَوَّلاً ، وَلا يَكُونُ مُتَعَارِضًا. وَأَمَّا نَضٌ مُتَوَاتِرٌ لا يَحْتَمِلُ الْخَطَأ، وَالتَّأْوِيلَ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ دَلِيلِ الْعَقْلِ فَذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لأنَّ دَلِيلَ الْعَقْل لا يَقْبَلُ النَّسْحَ، وَالْبُطْلانَ، مِثَالُ ذَلِكَ الْمُؤَوَّلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ قَوْله تَعَالَى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إِذْ خَرَجَ بِدَلِيل الْعَقْلِ ذَاتُ الْقَدِيمِ وَصِفَاتُهُ]. وكذا قال الفخر الرازي (٥٤٤-٦٠٦هـ) في "المحصول" (٤٠٦/١). وقال العضد الإيجي (٦٨٠-٧٥٦هـ) في كتابه "المواقف" (۲۰۷/۱) [.. لا بدَّ من العلم بعدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي إذ لو وجد ذلك المعارض لقدم على الدليل النقلي قطعاً بأن يؤول الدليل النقلي عن معناه إلى معنى آخر مثاله قوله تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى فإنه يدل على الجلوس وقد عارضه الدليل العقلي الدال على استحالة الجلوس في حقه تعالى فيؤول الاستواء بالاستيلاء أو يجعل الجلوس على العرش كناية عن الملك وإنما قدم المعارض العقلي على الدليل النقلي إذ لا يمكن العمل بهما بأن يحكم بثبوت مقتضى كل منهما لاستلزامه اجتماع النقيضين .... وقال الآمدي (٥٥١-٦٣١هـ) في "الإحكام في أصول الأحكام" (۳/ ۱۷۲): [ وكذلك أيضاً لو تعارضت آية ودليل عقلي فإن الدليل العقلي يكون حاكماً عليها ]. وهذا المعنى قرره كثير من العلماء والأئمة].
الأدلة المعتبرة في الإيمان والعقائد : الحلقة الخامسة ( دليل العقل ):
-
- Posts: 921
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm