هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به؟

أسئلة وأجوبة عامة
أضف رد جديد
الباحث المفكر
مشاركات: 107
اشترك في: الأربعاء سبتمبر 03, 2025 8:02 pm

هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به؟

مشاركة بواسطة الباحث المفكر »

.
هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به؟

من كتاب (تأسيس التقديس)

اعلم أن كثيراً من الفقهاء والمحدثين والصوفية يجوزون ذلك، والمتكلمون ينكرونه، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول.

أما الآيات فكثيرة:
أحدها: قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}سورة سيدنا محمد: 24، أمر الناس بالتَّدَبُّر في القرآن، ولو كان القرآن غير مفهوم فكيف يأمرنا بالتدبر فيه؟
الثاني: قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} النساء: 82، فكيف يأمرنا بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض في الاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق؟
الثالث: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} الشعراء: 192-195، ولو لم يكن مفهوماً فكيف يمكن أن يكون الرسول منذراً به؟
وأيضاً: قوله {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان كذلك وجب القطع أن يكون معلوماً.
الرابع: قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء:83، والاستنباط منه لا يمكن إلا بعد الإحاطة بمعناه.
الخامس: قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} النحل: 89، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} الأنعام: 38.
السادس: قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} البقرة: 2، وما لا يكون معلوماً لا يكون هدى.
السابع: قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} القمر: 5، وقوله: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} يونس: 57، وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم.
الثامن: قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} المائدة: 15، ولا يكون مبيناً إلا وأن يكون معلوماً.
التاسع: قولـه تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى} العنكبوت: 51، فكيف يكون الكتاب كافياً، وكيف يكون ذكرى، مع أنه غير مفهوم؟
العاشر: قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} إبراهيم: 52، فكيف يكون بلاغاً وكيف يقع الإنذار به وهو غير معلوم؟ وقال في آخر الآية:
{وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} إبراهيم: 52، وإنما يكون كذلك إذا كان معلوماً.
الحادي عشر: قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِيناً} النساء: 174، فكيف يكون برهاناً ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم.
الثاني عشر: قوله تعالى: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} طه: 123-124، وكيف يمكن اتباعه تارة والإعراض عنه أخرى مع أنه غير معلوم؟
الثالث عشر: قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الإسراء: 9، وكيف يكون هادياً، مع أنه غير معلوم للبشر؟
الرابع عشر: قوله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} البقرة: 285، إلى قوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} البقرة: 285، والطاعة لا تمكن إلا بعد العلم فوجب كون القرآن مفهوماً.

وأما الأخبار: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي))(1). وكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((عليكم بكتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تَرَكَه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل ومن خاصم به أفلح، ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم))(2).

وأما المعقول. فمن وجوه:
الأول: أنه لو ورد في القرآن شيء لا سبيل لنا إلى العلم به لكانت تلك المخاطبة تجـري مجرى مخاطبة العرب بالزنجية وهو غير جائز.
الثاني: المقصود من الكلام: الإفهام، ولو لم يكن مفهوماً، لكان عبثاً.
الثالث: إن التحدي وقع بالقرآن وما لم يكن معلوماً لم يجز التحدي به.
فهذا مجموع كلام المتكلمين، وبالله التوفيق.

احتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول.
أما الآية: فمن وجهين:
الأول: قوله تعالى في صفة المتشابهات: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ}آل عمران: 7، والوقف ههنا لازم. وسيأتي دليله إن شاء الله.
الثاني: الحروف المقطعة المذكورة في أوائل السور.


وأما الخبر:
فقوله عليه السلام: ((إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله))(3).

وأما المعقول: فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان: منها ما نعرف وجه الحكمة فيه على الجملة بعقولنا، كالصلاة والزكاة والصوم، فإن الصلاة تواضع وتضرع للخالق، والزكاة إحسان إلى المحتاجين، والصوم قهر للنفس. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه، كأفعال الحج. فإنا لا نعرف وجه الحكمة في رمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة. ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الحكيم تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذا يحسن بالنوع الثاني لأن الطاعة من النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرفه بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنها تدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه المصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، وإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فَلِمَ لا يجوز أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو الذي أنزله الله علينا وأمرنا بتعظيمه في قرآنه، ينقسم إلى قسمين: منه ما يعرف معناه ونحيط بفحواه، ومنه ما لا نعرف معناه البتة، ويكون المقصود من إنزاله والتكليف بقراءته وتعظيمه: ظهور كمال العبودية والانقياد لأوامر الله تعالى.

بل ههنا فائدة أخرى: وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به، سقط وقعه في القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع جزمه بأن المتكلِّم بذلك أحكم الحاكمين، فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبداً، ومتفكراً فيه أبداً.
ولباب التكليف: اشتغال السر بذكر الله تعالى، والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يقال: إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له. فيتعبَّد الله تعالى بذلك، تحصيلاً لهذه المصلحة.
فهذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب، وبالله التوفيق.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي السفلية والمراجع:
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (2408) من حد يث زيد بن أرقم بلفظ: (أهل بيتي). وأما باللفظ الذي ذكره المصنف فرواه الترمذي (3786) من حديث جابر، ورواه من حديث أبو سعيد الخدري أبو يعلى (2/376) وأحمد في "فضائل الصحابة" (170) وابن أبي الجعد (2711) في مسانيدهم، والنسائي في الكبرى (5/51) والطبراني في الكبير (3/66) والحاكم في "المستدرك" (3/119) من حديث زيد بن ثابت. قال الهيثمي في "المجمع" (1/170): ((رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات)).
(2) حسن. رواه الدارمي (3331) وأحمد (1/91) والترمذي (2906) والبزار في "البحر الزخار" (3/18) وفي إسناده الحارث وهو ثقة عندنا.
(3) أعتقد أنه من جملة الموضوعات. رواه أبو عثمان النجيرمي في فوائده (2/7مخطوط) والسلمي في أربعينه (8/2مخطوط)، والطبسي في ترغيبه كما قال السيوطي في "اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (1/202) قال الحافظ المنذري في "الترغيب" (141): ((رواه أبو منصور الديلمي في المسند وأبو عبد الرحمن السلمي في الأربعين التي له في التصوف)). وقال العراقي في تخريج "الإحياء": ((رواه أبو عبد الرحمن السلمي في الأربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف)). وقريب منه حديث جابر مرفوعاً: ((الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ وَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ وَتِلْكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ)). رواه الدارمي (1/114) وابن أبي شيبة (8/133) بإسناد صحيح عن الحسن البصري مرسلاً. ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/346)، قال المنذرى (1/58) : [رواه الحافظ أبو بكر الخطيب فى تاريخه بإسناد حسن، ورواه ابن عبد البر النمرى فى كتاب العلم عن الحسن مرسلاً بإسناد صحيح]. وقال الحافظ العراقى في تخريج الإحياء: سنده جيد وإعلال ابن الجوزى له وهم.
أضف رد جديد

العودة إلى ”أسئلة وأجوبة عامة“