جوابنا للمجسمة في قولهم: لماذا توافقون بالاشتراك بين الخالق والمخلوق في صفة الوجود ولا تقبلون بصفة اليد؟!

مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
Post Reply
cisayman3
Posts: 300
Joined: Sat Nov 11, 2023 8:00 pm

جوابنا للمجسمة في قولهم: لماذا توافقون بالاشتراك بين الخالق والمخلوق في صفة الوجود ولا تقبلون بصفة اليد؟!

Post by cisayman3 »

أرسل لي بعضهم سؤالاً قال فيه ما معناه: بما أنكم تقرون أن الله موجود وهذه صفة يشترك فيها الخالق والمخلوف فلم لا تقرون أن له يداً كما جاء ذكر ذلك في الكتاب والسنة ؟!
فنقول في جواب هذا وباللله تعالى التوفيق:
عندما نصف الله تعالى بالوجود إنما نعني أنه:
الثابت الحقيقي (أي الحقيقة الثابتة) الذي لا يقبل النفي ولا يرتبط بالزمان والمكان، وهو المؤثر في إبراز الكون من العدم إلى الوجود وتنظيمه بهذه الدقة، ولا يمكن للمخلوقات إدراك حقيقته ولا يجوز تشبيهه بشيء من خلقه.
أما الوجود للمخلوق فهو: أخذ الجسم حيزاً في المكان ووجود حد له بطولٍ وعرضٍ وعمق، أو قيام العَرَض (الصفة) بالجسم.
إذاً الخالق والمخلوق اتفقا في لفظ (الوجود) واختلفا في معنى هذا اللفظ.
ومثل ذلك أيضاً الوصف بِـ (الأول) المعبَّر عنه بالقِدَم في حق الخالق والمخلوق،
أما الخالق سبحانه فمعنى (الأول) في حقه تعالى عدم افتتاح الوجود، لأنه غير مرتبط بالزمان وغير داخل في قوانينه،
وأما المخلوق فمعنى (الأول) في حقه هو الوجود في زمن من الأزمان متقدّم على زمن مخلوق آخر، فهو نسبي أي وجوده في زمن سبق وجود مخلوق آخر في زمن لاحق.
فقولنا (الله تعالى قديم) ليس نفس معنى قولنا عن مخلوق إنه (قديم) أو (أول).
إذا علمنا هذا، فهمنا أن معنى اليد مثلاً إذا أضيفت إلى الله تعالى ليس كمعنى اليد الحقيقية التي هي جارحة وعضو وجزءٌ مِنْ كُلٍّ إذا أضيفت للمخلوق، فالخالق سبحانه ليست له يدٌ (حقيقية أو على ظاهرها) بمعنى العضو والجارحة، ويكون معناها المجاز كالقدرة والنعمة والكرم مثل: { بل يداه مبسوطتان } والتعبير عن الذات مثل: { ما منعك أن تسجد لما خلقته بيديَّ } أي ما خلقته أنا ولم يخلقه غيري، وهذا مثل قوله تعالى { تبت يدا أبي لهب وتب } ليس المقصود يديه وإنما ذاته كلها.
وهنا لا بد من التنبه إلى حقيقة ثابتة وهي أن الله سبحانه وتعالى { لم يكن له كفوا أحد } و { ليس كمثله شيء } ولئلا يتيه العباد، خاطبنا سبحانه بهذه الألفاظ (التي سموها صفات) التي تنزل فيها بالخطاب لعقولنا القاصرة عن إدراك كنهه المتعالي عن مشابهة خلقه وإدراكهم، وإن كان سبحانه متعالي عنها (فالسمع والبصر والحياة والعلم وغيرها) هي صفات للمخلوقات تدل على كمال، فالله تعالى نبهنا وأعلمنا أنه متصف بالكمال ومنزه عن النقص. جل جلاله.
أما عقول المشبهة والمجسمة ومن نحا نحوهم من المتنطعين فهي لا تريد التسليم إلى أن الله تعالى لا يمكن إدراكه، وإنما يحوصون ويلوصون في إثبات أنه موصوف بمثل أوصافهم من السمع والبصر والحياة، فلقصورهم عن إدراك هذه الحقائق وهذه المعاني وقعوا بما وقعوا به مما نعيبهم عليه، ونحن لا ننكر أنه سميع بصير حي قيوم عالم مريد قادر، لكننا نقول إن الله أعلى وأكمل من ذلك وأن هذه ألفاظ تَنَزَّلَ في خطابه سبحانه لنا بها لنفهم أنه عظيم جليل متعال له الكمال المطلق الذي ـ أيضاً ـ لا نستطيع إدراكه.
ومن أبدع ما قاله العلماء في ذلك قول الإمام الغزالي في كتابه الإحياء:
[فالنظر إلى ذات الله تعالى يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل، فالصواب إذن أنْ لا يُتَعَرَّض لمجاري الفكر في حقيقة ذات الله سبحانه وصفاته، فإن أكثر العقول لا تحتمله، بل القدر اليسير الذي صرّح به بعض العلماء هو: أنّ الله مُقَدَّسٌ عن المكان، ومُنَزّه عن الأقطار والجهات، وأنّه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه، قد حَيَّر عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته، بل ضعفت طائفة عن احتمال أقل من هذا إذ قيل لهم إنه يتعاظم ويتعالى عن أن يكون له رأس ورِجْل ويد وعين وعضو، وأن يكون جسماً مُشخَّصَاً له مقدار وحجم. فأنكروا هذا وظنوا أنّ ذلك قدح في عظمة الله وجلاله، حتى قال بعض الحمقى من العوام: إنّ هذا وصف بطيخ هندي لا وصف الإله! لظن المسكين أنّ الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء. وهذا لأنّ الإنسان لا يعرف إلا نفسه فلا يستعظم إلا نفسه، فكل مالا يساويه في صفاته فلا يفهم العظمة فيه! نعم غايته أنْ يُقدِّر الإنسان نفسه جميل الصورة جالساً على سريره وبين يديه غلمان يمتثلون أمره، فلا جرم غايته أنْ يقدر ذلك في حق الله ـ تعالى وتقدس ـ حتى يفهم العظمة.
بل لو كان للذباب عقل وقيل له ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولا له طيران لأنكر ذلك، وقال: كيف يكون خالقي أنقص مني ؟ أفيكون مقصوص الجناح أو يكون زَمِناً ـ أي ضعيفاً ـ لا يقدر على الطيران ؟ أو يكون لي آلة وقدرة لا يكون له مثلها وهو خالقي ومصوِّري ؟ وعقول أكثر الخلق قريب من هذا العقل، وإنَّ الإنسان لجهول ظلوم كفار، ولذلك أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تخبر عبادي بصفاتي فينكروني ولكن أخبرهم عني بما يفهمون].
انتهى كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الاقتصاد في الاعتقاد ص (28) وما بعده مقتبس منه:
((فإن قيل فنفي الجهة يؤدّي إلى المحال وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه وذلك محال!!)).
قلــنا: إذا كان هذا الموجود جسماً يأخذ حيزاً في الفراغ وله حد أي طول وعرض وارتفاع بأي شكل كان ثم وصفناه بعد ذلك بأنه لا متصل ولا منفصل أي لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو في جهة كان ذلك مُقتضياً الإخبار عن عدمه ؛ وقولنا ساعتئذٍ لا هو متصل ولا منفصل محال. وهو كقول القائل يستتحيل أن يوجد موجود لا يكون عاجزاً ولا قادراً ولا عالماً ولا جاهلاً ولا أعزب ولا متزوجاً ولا ذكراً ولا أنثى أو خنثى ولا في نور ولا في ظلمة!!
فإن كان ذلك الشيء قابلاً للمتضادّين فيستحيل خلّوه من أحدهما ؛ وأما إذا كان جماداً مثلاً وهو الذي لا يقبل واحداً منهما لأنه فاقد لبعض شروط هذه الصفات وهي الحياة فلا يستحيل وجوده حينئذ ؛ فكذلك الاتصال والانفصال والاختصاص بالجهات والتحيز والقيام بالمتحيّز من صفات الأجسام والأعراض؛ فإذا كانت هذه صفات الجسم الذي نعرفه فالله تعالى ليس كذلك لأننا عاجزون عن إدراكه ولا يمكننا أن نقيس عليه غيره لأنه سبحانه ليس من جنس الأجسام ولا له شكل وهيئة ؛ وكل ما خطر في أذهاننا فالله تعالى ليس كذلك لأنه أخبر بذلك فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى: 11، و { لم يكن له كفواً أحد } فرجع الأمر والنظر هنا إلى أنه هل يستحيل وجود موجود بلا مكان ولا جهة ولا اتصال ولا انفصال أم لا ؟!!
فإن قسناه على أجزاء هذا العالَم وما نراه ونعقله كان الجواب يستحيل وجوده. وإذا تركنا القياس ونظرنا إلى أدلة العقل التي أثبتت فاعِلاً مُوجِداً لهذا الكون وأدلة الشرع المحكمة التي تنصُّ على أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
الشورى: 11، كان ذلك هو الحق وهو عقيدة الإسلام المنزّهة لرب العزة عن التشبيه والتمثيل، وكان القائل بذلك آخذاً بقول الله تعالى: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } الصافات: 180 ؛ لأن الذي يُنَزّهُ الله تعالى عن لوازم الجسمية وخصائصها هو الذي يقول اتّهمت عقلي في إدراك الخالق سبحانه وتعالى وأنا عاجز عن ذلك كل العجز ؛ فقد صدّقت بوجوده وآمنت بصفاته واتَّهمت عقلي عن فهم كُنْه خالقي سبحانه وتعالى.
وقد ضرب لنا سبحانه وتعالى أمثلة في مخلوقاته فأرانا أشخاصاً وكذا عجائب مخلوقاته في الرؤيا من جبال وأودية وبحار عظيمة وأنهار دون أن تكون أجساماً آخذة حيزاً في الفراغ مع أن لها حداً ومقداراً وجهة وشكلاً وصورة ؛ وقريب من هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((لقد عُرِضَتْ عليَّ الجنة والنار آنفاً في عُرْضِ هذا الحائط، وأنا أُصلّي، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر)) رواه البخاري (7294) وليس ذلك من الخيال البتة بل هو حقيقة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث وقع له في الصلاة حين عرضت عليه الجنة فقال: ((فعُرِضَتْ عليَّ الجنة حتى لو تناولت منها قطفاً (من عنب) أخذته)) رواه البخاري (1052) ومسلم (904) واللفظ له، وفي رواية أخرى في مسلم: ((ولقد مددت يدي وأنا أُريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه. ثمّ بدا لي أن لا أفعل)) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمد يده إلى خيال ولا يتعلّق بغير حقيقة، ويدل على ذلك قوله في بعض روايات الحديث: ((ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)) (رواه البخاري في مواضع منها 1052).
فإذا كانت هذه الأمور حاصلة في المخلوق المُحْدَث فكيف بالخالق جلّ جلاله الذي ليس كمثله شيء ؟!! فتأمّل في ذلك جيداً هداك الله تعالى!!
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: ((فإن قال الخصم: إن مثل هذا الموجود الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير مفهوم!!
فيقال له: ما الذي أردت بقولك غير مفهوم ؟!! إذا أردت به أنه غير متخيّل ولا متصوّر ولا داخل في الوهم فقد صدقت [فإن الله سبحانه وتعالى كذلك] ؛ فإنه لا يدخل في الوهم والتصوّر والخيال إلا جسم له لون وقدر فالمُنْفك عن اللون والقدر لا يتصوّره الخيال ؛ فإن الخيال قد أَنس بالمبصرات فلا يتوهم الشيء إلا على وفق مَرْآه ولا يستطيع أن يتوهم ما لا يوافقه.
وإن أراد الخصم أنه ليس بمعقولٍ أي ليس بمعلوم بدليل العقل! فهو محال؛ إذ قدّمنا الدليل على ثبوته ولا معنى للمعقول إلا ما اضطر العقل إلى الإذعان للتصديق به بموجب الدليل الذي لا يمكن مخالفته ؛ وقد تحقق هذا ؛ فإن قال الخصم: فما لا يُتَصَوّر في الخيال لا وجود له!! (قلنا): فلنحكم بأن الخيال لا وجود له في نفسه، فإن الخيال نفسه لا يدخل في الخيال والرؤيا لا تدخل في الخيال وكذلك العلم والقدرة وكذلك الصوت والرائحة ولو كلّف الوهم أن يتحقق ذاتاً للصوت لقدّر له لوناً ومقداراً وتَصَوَّرَهُ كذلك)) انتهى.
___________________
Post Reply

Return to “مسائل وقضايا التوحيد والإيمان”