أثار بعض الناس اليوم مسألة تجويز بعض العلماء أن ينكح الرجل ابنته من الزنى! والعياذ بالله تعالى! ونسبة ذلك إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
يعني لو زنى رجل بامرأة وأنجبت الزانية بنتاً جاز للرجل الزاني أن يتزوج بنت الزانية أي ابنته المنعقدة من مائه حينما زنى. يعني أن هذه المولودة لم تأت بنكاح شرعي صحيح.
وبلغني أن بعض الناس سأل بعض المتصدرين من طلبة العلم المقلدين ممن ينتسبون للإمام الشافعي الذين غاية علمهم قد تنتهي عند الشيخ الرملي صاحب "نهاية المحتاج" أو الشيخ ابن حجر الهيتمي صاحب "التحفة" رحمهما الله تعالى أو نحوهما، فأقروا بذلك زاعمين تجويز ذلك عن الإمام الشافعي صاحب المذهب! وأن ذلك هو الصحيح.
ونحن لا ننكر وجود هذا القول في المذهب وعند بعض الفقهاء من غير الشافعية وإنما نريد تحرير القول في المسألة عن الشافعي ومن حيث الدليل.
أما الدليل:
1- قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} النساء:23.
دخل في الأمهات الجدات لأنهن يعتبرن لغة وعرفاً من جملة الأمهات، وبنت الرجل من الزنا الكائنة من مائه لا يمكن - لغة وعرفاً - إلا أن توصف بأنها ابنته. وهذا نص صريح في كونها من المحرمات عليه.
2- قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} الفرقان:54. وهذه الآية صريحة في أن الأنساب تثبت بماء الرجل لا بالعقد فقط.
3- وعَنْ السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: ((هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ)). ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ((الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ)). ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: ((احْتَجِبِي مِنْهُ)). لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.
رواه مالك (1449) والبخاري (2053) ومسلم (1457).
4- حديث جريج العابد المروي في صحيح مسلم:
في معنى ثبوت النسب والأبوة بماء الرجل بالزنى بلا عقد شرعي، زيادة في تأكيد معنى ما تقدم من قوله تعالى {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا} أنه ورد في صحيح مسلم (2550) قصة جريج الرجل العابد الذي اتهموه بالزنا فأنطق الله الصبي المولود عندما سأله وهو في المهد جريج فقال له: (يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي)! وكان الراعي قد زنى بتلك المرأة....
راجع الحديث في صحيح مسلم.
أما ما قاله الشافعي في هذه المسألة:
فقد قال الشافعي في كتاب الأم (5/32):
[(قال الشافعي) فان ولدت امرأة حملت من الزنا اعترف الذي زنا بها أو لم يعترف فارضعت مولوداً فهو ابنها ولا يكون ابن الذي زنى بها وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولد له من زنا كما أكرهه للمولود من زنا. وإن نكح من بناته أحداً لم أفسخه لأنه ليس بابنه في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: فهل من حجة فيما وصفت؟ قيل نعم: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابن أمة زمعة لزمعة وأمر سودة أن تحتجب منه لما رأى منه من شبهه بعتبة فلم يرها وقد قضى أنه أخوها حتى لقيت الله عز وجل، لأن ترك رؤيتها مباح وإن كان أخاً لها وكذلك ترك رؤية المولود من نكاح أخته مباح، وإنما منعني من فسخه أنه ليس بابنه إذا كان من زنا].
وهذا من الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ليس في زواج الرجل من ابنته من الزنا وإنما المسألة في نكاح ابن الزنا من بنات الزاني.
وقال المزني في المختصر (1/243):
[باب لبن الرجل والمرأة:
قال الشافعي رحمه الله: واللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما والمرضع بذلك اللبن ولدهما قال: ولو ولدت ابناً من زنا فأرضعت مولوداً فهو ابنها ولا يكون ابن الذي زنى بها وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولده من زنا فإن نكح لم أفسخه لأنه ليس ابنه في حكم النبي صلى الله عليه وسلم قضى عليه الصلاة والسلام بابن وليدة زمعة لزمعة وأمر سودة أن تحتجب منه لما رأى من شبهه بعتبة فلم يرها وقد حكم أنه أخوها لأن ترك رؤيتها مباح وإن كان أخاها قال المزني رحمه الله: وقد كان أنكر على من قال يتزوج ابنته من زنا ويحتج بهذا المعنى وقد زعم أن رؤية ابن زمعة لسودة مباح وإن كرهه فكذلك في القياس لا يفسخ نكاحه وإن كرهه ولم يفسخ نكاح ابنه من زنا بناته من حلال لقطع الأخوة فكذلك في القياس لو تزوج ابنته من زنا لم يفسخ وإن كرهه لقطع الأبوة وتحريم الأخوة كتحريم الأبوة ولا حكم عنده للزنا لقول النبي صلى الله عليه و سلم: ((وللعاهر الحجر)) فهو في معنى الأجنبي وبالله التوفيق].
فالمزني يصرح هنا بثلاث نقاط مهمة:
الأولى: أن الشافعي كان قد أنكر على من قال يتزوج ابنته من زنا. هذا الذي نص عليه الشافعي كما نقل المزني.
الثانية: أن المسألة التي نص عليها الشافعي في زواج إخوة وليس في زواج الرجل من ابنته من الزنا.
الثالثة: أن القول بجواز الزواج بابنته مأخوذ بالقياس من نصه على زواج الإخوة من عقد صحيح ومن زنا.
والحاصل أن الدليل يدل على التحريم صراحة، والشافعي (أنكر على من قال يتزوج ابنته من زنا).
وأصحابنا الشافعيون بناء على القياس والاستنباط - ولا يجوز أصلا القياس والاستنباط إلا من نصوص الكتاب والسنة - وربما الوهم عند بعضهم في كلام الإمام الشافعي اختلفوا في المسألة، فبعضهم قال بالتحريم في هذه المسألة التي نحن بصددها وبعضهم قال بالجواز مع الكراهة. ونحن نقطع بالتحريم. ومما يوضح ذلك الاختلاف بينهم قول الماوردي في كتاب الحاوي (11/890):
[وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَيَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى كَرَاهِيَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلَقَةً مِنْ مَائِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ بِأَنْ حُبِسَا مَعًا مِنْ مُدَّةِ الزِّنَا إِلَى وَقْتِ الْوِلادَةِ حَرُمَتْ عَلَيْه. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يُكْرَهُ نِكَاحُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلافٍ، كَمَا كُرِهَ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَائِزًا لِمَا فِيهِ مِنَ الاخْتِلافِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِثَلاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: لانْتِفَاءِ نَسَبِهَا عَنْهُ كَالأَجَانِبِ...].
وقال الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في المهذب:
[وإن زنى بامرأة فأتت منه بابنة فقد قال الشافعي رحمه الله: أكره أن يتزوجها فإن تزوجها لم أفسخ. فمن أصحابنا من قال: إنما كره خوفاً من أن تكون منه فعلى هذا إن علم قطعاً أنها منه بأن أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه لم تحل له. ومنهم من قال: إنما كره ليخرج من الخلاف لأن أبا حنيفة يحرمها فعلى هذا لو تحقق أنها منه لم تحرم وهو الصحيح لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب فلم يتعلق بها التحريم كالولادة لما دون ستة أشهر من وقت الزنا].
قلت: وقول من قال إنه الصحيح مردود بل شاذ باطل، لمخالفته للدليل ثم لمخالفته لقول إمام المذهب، ولقول تلميذه المزني الناقل عنه. فكيف يكون الشاذ هو الصحيح؟!
وإذا كان ابن الزنى يحرم على أمه اتفاقاً والولد بالرضاع يحرم على الأبوين والإخوة بالرضاع فما بالك بالمنعقد من ماء الرجل ونطفته. نسأل الله تعالى العفو والعافية.
وهذا الزواج كما هو معلوم محرم عند الإمام أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم.
جاء في كتاب "مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه" (1/331/برقم1218):
(سألت أبي عن رجل زنى بامرأة فجاءت بابنة من فجور ثم كبرت الابنة هل يجوز أن يتزوج بها؟ قال: معاذ الله يتزوج ابنته هذا قول سوء).
أما المقلدة وأصحاب الشروح والحواشي وخاصة من المتأخرين فدعك من التعويل عليهم ولا تلتفتنَّ إلى اعتبار أن ما قرروه هو المعتمد والراجح والصحيح. ولو نقلوا لك ذلك عن ألف شرح وألفي حاشية. فهم غير معصومين ولا منزهين عن الخطأ، والمعتمد هو القول الصحيح من جهة الدليل، ألا ترى أن أهل العقل والنظر في بعض المسائل عولوا على الدليل وتركوا قول الإمام في الجديد.
والله تعالى أعلم وأحكم.