قال الإمام الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة):
[فإني رأيتك أيها الأخ المشفق؛ والصديق المتعصب؛ موغر الصدر؛ منقسم القلب؛ لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة؛ على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين؛ والمشايخ المتكلمين، وأن العدول عن مذهب الأشعري ولو قيد شبر كفر؛ ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر... فهون أيها الأخ المشفق المتعصب على نفسك..... وإياك أن تشتغل بخصامهم؛ وتطمع في إفحامهم؛ فتطمع في غير مطمع، وتصوت في غير مسمع؛ أما سمعت ما قيل: كل العداوة قد ترجى سلامتها إلا عداوة من عاداك في حسد ..... فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري، أو مذهب المعتزلي؛ أو مذهب الحنبلي؛ أو غيرهم فاعلم أنه غر بليد؛ قد قيده التقليد؛ فهو أعمى العميان؛ فلا تضيع بإصلاحه الزمان؛ وناهيك حجة في إفحامه؛ مقابلة دعواه بدعوى خصومه؛ إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقاً وفصلاً. ولعل صاحبه يميل من بين سائر المذاهب إلى الأشعري؛ ويزعم أن مخالفته في وارد وصادر كفر من الكفر الجلي؛ فاسأله من أين ثبت له أن يكون الحق وقفك عليه، حتى قضى بكفر الباقلاني إذ خالفه في صفة البقاء لله تعالى؛ وزعم أنه ليس هو وصفاً لله تعالى زائداً على الذات، ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولم صار الحق وقفاً على أحدهما دون الثاني؟ أكان ذلك لأجل السبق في الزمن؟ فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق للسابق عليه! أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأي ميزان ومكيال قدَّر درجات الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الموجود من متبوعه ومقلده؟ فإن رخَّص للباقلاني بمخالفته فلم حجره على غيره؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي والقلانسي وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلاف الباقلاني يرجع إلى لفظ لا تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفه بعض المتعصبين زاعماً أنهما جميعاً متوافقان على دوام الوجود والخلاف في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائد عليه خلاف قريب لا يوجب التشديد فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات وهو معترف بأن الله سبحانه وتعالى عالم محيط بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات؛ وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائدة.فما الفرق بين الخلافين ؟.... فإن تخبط في جواب هذا أو عجز عن كشف الغطاء فيه؛ فاعلم أنه ليس من أهل النظر وإنما هو مقلد! وشرط المقلد أن يسكت؛ ويُسكت عنه! لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج! ولو كان أهلا له كان متتبعا لا تابعا! وإماماً لا مأموماً، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول؛ والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد؛ وطالب لصلاح الفاسد. وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟].
انتهى ما أردنا نقله من كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وهو حري أن يكتب في المعاهد والمدارس ويرقم في قراطيس العلم بمداد من ذهب حتى يعتبر به المتعصبون الذين تغلفت عقولهم بغلاف الحسد!