لقد وقع الخلاف بين البخاري وأحمد بن حنبل في قضية (لفظي بالقرآن مخلوق) أو (لفظي بالقرآن محدث) فقال البخاري ومسلم وجماعة من أكابر حفاظ السلف سيأتي ذكر بعضهم (لفظي بالقرآن مخلوق) وأما أحمد بن حنبل وشيعته فقالوا من قال هذا فهو (مبتدع جهمي) وفي بعض الروايات عن بعضهم (كافر)!!
وقال أحمد وشيعته أيضاً من توقف في ذلك فقال: لا أقول بهذا ولا ذاك فهو (مبتدع جهمي) أيضاً!!
وحجة من قال (لفظي بالقرآن مخلوق) أو (محدث) قوله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا استمعوه وهم يلعبون}!
وواجب المؤمن العاقل أن يبحث عن الحق في أي مسألة ويقول به ولا ينأى بنفسه! إذا الواجب على العاقل اتباع الحق وهنا اتباع الآية الكريمة السابقة.
ولما ذكرنا هذه المقالة عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى في بعض مؤلفاتنا سارع المتنطعون من السلفيين الوهابية وغيرهم في إنكارها تقليداً منهم لسلفهم من الحنابلة وادعوا بأن البخاري أنكرها وذكروا في ذلك مقالة مكذوبة عن البخاري وهي:
(قال أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل، قال: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخفاف ببخارى يقول: كنا يوما عند أبي إسحاق القيسي ومعنا محمد بن نصر المروزي، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله).
أقول:
هذا رواه اللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة" (2/91/461) واللالكائي من جملة أئمة الحنابلة المجسمة قال:
[وأخبرنا أحمد بن محمد بن حفص قال: ثنا محمد بن أحمد بن سلمة قال: ثنا أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل قال: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخفاف ببخارى يقول: كنا يوما عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي , فجرى ذكر محمد بن إسماعيل , فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق , فهو كذاب , فإنى لم أقله. فقلت له: يا أبا عبد الله فقد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه. فقال: ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه. قال أبو عمرو الخفاف: فأتيت محمد بن إسماعيل فناظرته في شيء من الحديث حتى طابت نفسه فقلت له: يا أبا عبد الله هاهنا رجل يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة. فقال لي: يا أبا عمرو احفظ ما أقول: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والمدينة ومكة والبصرة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق , فهو كذاب , فإنى لم أقل هذه المقالة , إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة].
وهذه قصة مكذوبة غير صحيحة وكل من نقلها واعتمد عليها لا يعول على كلامه للأسباب التالية:
1- أن في إسنادها من هو ساقط الرواية عند أهل الحديث لا يعول عليه وهو (أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل) وهو مشهور بالخيام، قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (2/404):
[خلف بن محمد الخيام البخاري أبو صالح مشهور أكثر عنه ابن مندة، قال الحاكم: سقط حديثه برواية حديث نهى عن الوقاع قبل الملاعبة. وقال أبو يعلى الخليلي: خلّط وهو ضعيف جداً روى متوناً لا تعرف،... فسمعت الحاكم عقبه يقول خذل خلف بهذا وبغيره، وسمعت الحاكم وابن أبي زرعة يقولان: كتبنا عنه الكثير ونبرأ من عهدته وإنما كتبتا عنه للاعتبار].
وكذا قال الحافظ الخليلي في كتابه "الإرشاد" (3/187).
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: [تكلّم فيه أبو سعيد الإدريسي ولينه].
وفي "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة" ص (58) لابن عراق:
[خلف بن محمد بن إسماعيل أبو صالح البخارى الخيام، اتهمه ابن الجوزى بوضع حديث].
ونزيد فائدة للسلفيين الوهابية فنقول: قال الألباني في "ضعيفته" (2/12):
[لكن في أحد الطريقين خلف بن محمد بن إسماعيل, وهو ساقط الحديث].
وبذلك نستطيع أن نقول بأن هذا النقل عن البخاري من جملة الخرافات التي حاكها و (فبركها) ووضعها الحنابلة لينصروا عقيدتهم المتهاوية!
2- أن المنقول عن البخاري بالطريق الصحيح هو أنه قال: (لفظي بالقرآن مخلوق)! وكان ذلك سبب هجر جماعة أحمد بن حنبل والذهلي له وتحريضهم السلطات عليه وترك الرواية عنه!
ففي كتاب "الجرح والتعديل" (7/191) لابن أبي حاتم الرازي وهو معاصر له:
[محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبد الله، قدم عليهم الري سنة مائتين وخمسين، روى عن عبدان المروزي وأبى همام الصلت بن محمد والفريابي وابن أبي أويس سمع منه أبي وأبو زرعة ثم تركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى النيسابوري أنه أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق].
لاحظوا كيف ترجم للبخاري بثلاثة أسطر!
قال المعلق على "سير أعلام النبلاء" (12/462) هناك معلقاً على ما أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولعله شعيب الأرنأووط:
[هذا عجيب من أبي زرعة وأبي حاتم، فإنهما قد وثقا مسلما، وأثنيا عليه، مع أنه يقول بمقالة شيخه البخاري في مسألة اللفظ، ولا يمكن أن يسوغ صنيعهما هذا إلا بحمله على العصبية والهوى والحسد].
وهذا يدلنا على أن مسلماً أيضاً يقول بمقالة البخاري (لفظي بالقرآن مخلوق) وقد نص على ذلك الذهبي صراحة فقال في "سير النبلاء" (12/572):
(كان مسلم بن الحجاج يُظهر القول باللفظ ولا يكتمه).
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الكرابيسي في "السير" (12/80): (وهو أوّل مَن فتق اللفظ) وقال في آخر الترجمة:
(ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرّره في مسألة التلفظ وأنه مخلوق هو حق).
قلت: وعلى ذلك الحق مشى البخاري ومسلم والأئمة.
قال الحافظ ابن عبد البر في كتابه "الانتقاء" ص (106) عن الإمام الحافظ الكَرَابيسي ما نصه بعدما أثنى عليه: (وكانت بينه وبين أحمد بن حنبل صداقة وكيدة، فلمّا خالفه في القرآن عادت تلك الصداقة عداوة، فكان كل منهما يطعن على صاحبه، وذلك أن أحمد بن حنبل كان يقول: من قال القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: القرآن كلام الله ولا يقول غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي، ومن قال لفظي في القرآن مخلوق فهو مبتدع. وكان الكرابيسي، وعبدالله بن كُلاَّب، وأبو ثور، وداود بن علي، والبخاري، والحارث بن أسد المحاسبي، ومحمد بن نصر المروزي، وطبقاتهم يقولون: إن القرآن الذي تكلّم الله به صفة من صفاته، لا يجوز عليه الخلق، وإن تلاوة التالي وكلامه بالقرآن كسبٌ له وفعلٌ له وذلك مخلوق..). انتهى كلام ابن عبد البر.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/81) في ترجمة الكرابيسي:
[الكرابيسي العلامة، فقيه بغداد، أبو علي، الحسين بن علي... وكان من بحور العلم ذكيا فطنا فصيحا لسنا. تصانيفه في الفروع والاصول تدل على تبحره، إلا أنه وقع بينه وبين الامام أحمد، فهجر لذلك...
قال حسين في القرآن: لفظي به مخلوق، فبلغ قوله أحمد فأنكره، وقال: هذه بدعة، فأوضح حسين المسألة، وقال: تلفظك بالقرآن يعني: غير الملفوظ. وقال في أحمد: أي شيء نعمل بهذا الصبي ؟ إن قلنا: مخلوق: قال: بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق.قال: بدعة. فغضب لاحمد أصحابه، ونالوا من حسين].
ومن كل هذا تعلم مبلغ خرط الحنابلة وكيف اخترعوا أن البخاري رجع عن مقولته وانطلى ذلك على بعض أهل العلم، فضلاً عن العامة وأمثالهم.
3- واعترف ابن تيمية الحَرَّاني بثبوت ذلك على البخاري ومسلم (لفظي بالقرآن مخلوق) فقال في "درء التعارض" (1/262):
[وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه، وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما، وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ].
وكلام ابن تيمية في عدم اختلافهم في شيء إلا في هذه المسألة هراء لا قيمة له، وهو متناقض فيه، والمهم أنه اعترف باختلافهم في هذه المسألة.
وبذلك يكون كل ما ورد عن البخاري خلاف هذا لا يصح!
4- من الراوين والمكثرين عن أبي صالح خلف بن محمد هذا محمد بن إسحاق ابن منده كما قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (2/404)، وقد قال عن ابن منده هذا الحافظ أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/306): [وتخبط أيضا في أماليه ونسب إلى جماعة أقوالا في المعتقدات لم يعرفوا بها نسئل الله جميل الستر والصيانة برحمته].
وهذا وإن لم يروه عنه ابن منده إلا أنه يثبت أن هؤلاء القوم ينسبون للعلماء أقوالاً مكذوبة لا تثبت عنهم ولا يعرفون بها! فإذا علم ذلك وربطت الأمور ببعضها اكتشفنا سر نسبة الأقوال المؤيدة لعقيدة التشبيه والتجسيم إلى بعض الأئمة زوراً وبهتاناً!
وبذلك تبطل محاولات هؤلاء الوهابية السلفيين في تضعيف ما ثبت عن البخاري ومسلم وغيرهما من أكابر حفاظ السلف في قولهم (لفظي بالقرآن مخلوق) وهذا هو الصحيح نقلاً وعقلاً!
أما النقل فقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} والذكر بلا ريب هو القرآن الكريم الذي قال الله تعالى عنه: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون}.
وأما العقل: فكل منا يعلم أنه ليس هناك قديم إلا الله تعالى الواحد الأحد وأن نطقنا حادث بحدوثنا.
وبذا تم ما أردناه والله يهدي إلى سواء السبيل.