بحث ما روي عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه في نفيه أنَّ سورتي المعوذتين من القرآن:
قلت: أخرج هذا الأثر البخاري في صحيحه (8/741) مُبْهَما، وهو أثر باطل عندنا وقد حكم ببطلانه الحافظ النووي وابن حزم والإمام الفخر الرازي، وهذا نص الأثر وهو من طريق سفيان بن عُيَيْنَة عن عبدة وعاصم عن زر بن حبيش قال:
(سألتُ أُبيَّ بن كعب قلت: يا أبا المنذر إنَّ أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال أُبيَّ: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: قيل لي، فقلت. قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
قلت: هذا لفظه المُبْهَم ولاحظ أسلوب التعمية هذا!! وهل هذا لفظ يناسب إنَّ يُنتقى في كتاب وضع لصحيح الحديث ؟!!
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في شرحه (8/742):
[قوله (يقول كذا وكذا) هكذا وقع هذا اللفظ مُبْهَماً، وكأنَّ بعض الرواه أبهمه استعظاماً له. وأظن ذلك من سفيان فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن سفيان، كذلك على الإبهام، وكنت أظن أولاً أنَّ الذي أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه (قلت لأُبي إنَّ أخاك يَحُكُّهَا من المصحف) وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه أبو نُعَيم في "المستخرج" وكأن سفيان كان تارة يُصرِّحُ بذلك وتارة يبهمه. وقد أخرجه أحمد أيضاً وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بلفظ (إنَّ عبد الله بن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه)، وأخرج أحمد عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بلفظ (إنَّ عبد الله يقول في المعوذتين) وهذا أيضاً فيه إبهام، وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال (كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول إنهما ليستا من كتاب الله) قال الأعمش وقد حدثنا عاصم عن زر عن أُبَي بن كَعب فذكر نحو حديث قتيبة الذي في الباب الماضي، وقد أخرجه البزار، وفي آخره يقول: (إنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يتعوذ بهما) قال البزار: ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة]. انتهى كلام الحافظ.
قلت: وهذه الأحاديث جميعها التي ذكرها ابن حجر كذب بحت نقطع بكذبها وبطلانها، لأنه من أبعد ما يمكن أن يكون سيدنا عبد الله بن مسعود لا يدرك كون المعوذتين من القرآن ولا يعلم ذلك وندركه نحن ونعلمه!! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (مَنْ أَحَبَّ أن يقرأ القرآن غضَّاً كما أُنْزِل فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد) أي: عبد الله بن مسعود ؛ رواه أحمد (1/445) وابن ماجه (1/49) وغيرهما وهو صحيح.
فهل يتصور عاقل أنَّ ابن مسعود العربي القُح لا يدرك بسليقته أنَّ المعوذتين
من القرآن ؟! لذلك قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في "شرح المهذب" (3/396):
[أجمع المسلمون على أنَّ المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن، وأن من جحد شيئاً منه كفر، وما نُقِل عن ابن مسعود في الفاتحة المعوذتين باطل ليس بصحيح عنه، قال ابن حزم في أوّل كتابه المحلى: هذا كذب على ابن مسعود موضوع وإنما صَحَّ عنه قراءة عاصم عن زرٍ عن ابن مسعود وفيها الفاتحة والمعوذتان].
وكذلك قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره (1/223) ونقله عنه الحافظ في "الفتح" (8/743). ثم إنَّ ما ذكره الحافظ هناك من كلام يدافع به عن عصمة الصحيح التي يراها ويَذُبُّ به عن بطلان أسانيد أحاديث الآحاد فيه المعارضة ليس بشيء وهو مما لا يعوّل ولا يُلْتفت إليه.
قال الإمام الرازي:
[إنَّ قلنا إنَّ كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود لزم تكفير مَنْ أنكرهما، وإن قلنا إنَّ كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أنَّ بعض القرآن لم يتواتر وهذه عُقدة صعبة].
قلت: وهل يتصوّر عاقل أنَّ القرآن لم يتواتر كله ولم يكن قطعياً حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الزمن الذي انتقل فيه عبد الله بن مسعود إلى الكوفة ؟! ثمَّ بقي كذلك حتى مات وأجمعوا بعده على أنَّ المعوذتين من القرآن ؟! والله ما هذه التصوّر إلا هراء!!