تفسير قوله تعالى {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وأن المراد بذلك فرعون
تفسير قوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}:
ذكر الإمام الماوردي (364-450هـ) في تفسيره (3/52) أن الوجه الأول فيها أن الذي يخيل له من سحرهم أنها تسعى هو فرعون.
ومختصر تفسيرنا الآيات [في سورة طه من الآية 57] وما بعدها هو:
{قَالَ} فرعون لسيدنا موسى عليه السلام {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ} سيدنا موسى عليه السلام: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} وهذا يثبت أن فرعون كان حاضراً شاهداً موجوداً في ذلك المشهد، يؤكِّده قولُ السحرة إذ ذاك أيضاً: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ } الأعراف:113-114، وقوله تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} الشعراء:44، {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى * قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} القائل هنا سيدنا موسى عليه السلام، لقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} يونس:80، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} أي يُخَيَّل إلى فرعون {مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وليس إلى سيدنا موسى عليه السلام لأن الله تعالى بين بأن الذين أثَّر فيهم التخييل السحري أو سحر السحرة هم الناس في قوله تعالى: {سحروا أعين الناس} أي الحاضرين للواقعة وفرعون منهم، وسيدنا موسى هو المتحدي صاحب المعجزة الذي علم ذلك فقال فوراً كما في آيات أخرى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} لأن الأنبياء معصومون من تأثير السحر عليهم وذلك لأن السحر من عمل الشياطين {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} والشياطين ليس لهم سبيل في التأثير على الأنبياء والمرسلين {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وبدليل أن الله تعالى بيَّن في الآية التي بعده أن الذي أوجس في نفسه خيفة هو سيدنا موسى عليه السلام فيكون هذا تنبيهاً على أن المذكور في الجملة التي قبلها (وهي جملة التخييل) ليس سيدنا موسى عليه السلام، وقد تأتي كلمة إلى جانب كلمة كأنها معها وهي غير متصلة بها معنى، مثاله في القرآن: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} فقال سيدنا يوسف: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} وهما في سياق واحد يتوهم بعضهم أنه قول جهة واحدة إذ لا فصل بينهما مع أنهما قولان لشخصين متغايرين. فلا يلزم عود الضمير في قوله {يخيل إليه} على أقرب مذكور. قال ابن الجوزي: وقد تجمع العرب شيئين في كلام فَيُرَدُّ كلُّ واحدٍ منهما إلى ما يليق به، مثاله في القرآن..: {وتعزّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه} فالتعزير والتوقير للرسول والتسبيح لله عز وجل. وقوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} قال أبو حيان في البحر المحيط: (والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن) هذا التنبيه بذكر أن الذي أَوجسَ في نفسه هو سيدنا موسى يدل على أن الجملة التي قبل ذلك لا يقصد بها سيدنا موسى عليه السلام كما تقدَّم، ومعنى هذه الجملة: أن سيدنا موسى صارت لديه هواجس نفسية وحَذَر من افتتان الناس بكيد فرعون وعمل السحرة وخشي من انصرافهم عن دعوة الحق التي جاء بها من عند الله تعالى وقد سبق أن سيدنا موسى ألقى العصا قبل ذلك أمام فرعون وكان ثعباناً ضخماً فهو لا يخشى ذلك لأنه اعتاد عليه برهان ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} وكذلك جاء ذلك في سورة الشعراء وكذلك وقع معه عليه السلام أول بعثته ففي سورة طه: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى *.... وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} فالمرة التي ألقى فيها العصا أمام السحرة كانت هي المرة الثالثة فهو معتاد إذ ذاك على انقلاب العصا إلى ثعبان مبين ولا يخاف من ذلك {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ} القائل هنا (فرعون) مع أنه لم يصرَّح هنا في الآية أنه قول فرعون، فلم يقل: (قال فرعون) وإنما عُلِمَ هذا من السياق ولو لم يُذْكَر (فرعون) صراحة فلم يعد الضمير هنا على أقرب مذكور، وإنما أعدنا الضمير على فرعون هنا لما فهمناه من سياق القصة، ففرعون قال {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} وهذا مع قوله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} يدل أن فرعون كان موجوداً وحاضراً في تلك الواقعة.
والأصل هنا ينبغي أن نعلم أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} القيامة:18-19، وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء:83، ويقول سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} العنكبوت:42، {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الأنعام:105.
والمقصود من هذا أن يتضح لنا أن سيدنا موسى عليه السلام لم يسحر ولم يؤثر فيه عمل السحرة أي سحرهم البتة، ومشاهد قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون والسحرة تدور على أربع جهات وهم: سيدنا موسى عليه السلام ، وفرعون لعنه الله تعالى، والسحرة، والناس.
وقد بيَّن الله تعالى أن الذين أثر فيهم عمل السحرة هم الناس، {سحروا أعين الناس} وأن سيدنا موسى عليه السلام هو صاحب المعجزة المقرونة بالتحدي القائل: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}، وأن السحرة كان حالهم كالتالي: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} الشعراء:41-44.
وأما فرعون فظن أنه سيغلب سيدنا موسى عليه السلام وخاصة لما قال السحرة {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} فأخذه الزهو والغرور وتعاظم في نفسه فأملى الله له واستدرجه بأن خيل إليه أنها تسعى وذلك كما قال الله في موضع آخر وحادثة أخرى عن فرعون {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} غافر:37. وهذه سنة الله في الظالم أنه يملي له.. فتخيل من سحرهم أن الحبال والعصي تسعى، فأخذت إذ ذاك الهواجس الكامنة في نفس سيدنا موسى عليه السلام تدور خشية أن يفتتن الناس وينخدعوا بأحقية ذلك السحر، فطمأنه الله تعالى وأمره أن يلقي عصاه لتلقف ما صنعوا من السحر والخداع وبشره بأنه لن يغلب السحر الأمر الإلهي {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}.
وإلا فما العبرة أن يخيل لسيدنا موسى أنها تسعى لكن العبرة في أن يتخيل فرعون أنها تسعى استدراجاً له {وأملي لهم إن كيدي متين} كيداً متيناً من الله!! لأن الله يريد أن يرعب فرعون {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً}.
ومما يؤيد ما قدَّمناه من تفسير قوله تعالى {يخيل إليه} أنه فرعون النقاط التالية:
1- من دقائق التعبير في كتاب الله تعالى أن الله وصف لنا من الذي سحر فقال سبحانه: {سحروا أعين الناس}، وهذا الوصف يخرج سيدنا موسى من تأثير عمل السحرة فيه. لأن في النص {يخيل إليه من سحرهم..} يعني بتأثير السحر خُيِّلَ له!
2- فرعون كان حاضراً لهذا المشهد ولم يكن غائباً عنه {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} طه:60.
3- إن قول الله تعالى بعد ذلك: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} يدل أن الجملة التي قبل هذه لم تكن تعني سيدنا موسى عليه السلام، لأن الله تعالى في هذه الجملة أكَّد أن الذي أوجس في نفسه هو سيدنا موسى ليبين أن كل جملة تعود على شخص أي أن جملة {يخيَّل إليه..} لا تعود على سيدنا موسى!
4- البلاغة القرآنية والتفنن في عرض الكلام والمعاني الدقيقة التي تميز بها القرآن الكريم تجعل من المحتمل أن يكون المعني بقوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم} هم الناس الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {سحروا أعين الناس} {وأن يحشر الناس ضحى} ويجوز عربية وقرآناً التعبير عن الجمع بضمير المفرد المذكَّر وكذلك بضمير المفرد المؤنث! فالله تعالى يقول في الأنعام: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} النحل:66، وقال سبحانه أيضاً: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} المؤمنون:21.
وقال الفخر الرازي في تفسيره:
[المسألة الخامسة: الهاء في قوله: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } كناية عن موسى عليه السلام والمراد أنهم بلغوا في سحرهم المبلغ الذي صار يخيل إلى موسى عليه السلام أنها تسعى كسعي ما يكون حياً من الحيات لا أنها كانت حية في الحقيقة، ويقال إنهم حشوها بما إذا وقعت الشمس عليه يضطَّرب ويتحرك. ولما كثرت واتصل بعضها ببعض فمن رآها كان يظن أنها تسعى، فأما ما روي عن وهب أنهم سحروا أعين الناس وعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك مستدلاً بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} وبقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} فهذا غير جائز، لأن ذلك الوقت وقت إظهار المعجزة والأدلة وإزالة الشبهة فلو صار بحيث لا يميز الموجود عن الخيال الفاسد لم يتمكن من إظهار المعجزة فحينئذ يفسد المقصود، فإذاً المراد أنه شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى، أما قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } فالإيجاس استشعار الخوف أي وجد في نفسه خوفاً، فإن قيل: إنه لا مزيد في إزالة الخوف على ما فعله الله تعالى في حق موسى عليه السلام فإنه كلمه أولاً وعرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد، ثم إنه تعالى صيرها كما كانت بعد أن كانت كأعظم ثعبان، ثم إنه أعطاه الاقتراحات الثمانية وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن الثمانية ثم قال له بعد ذلك كله: { إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى } فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه؟ والجواب عنه من وجوه : أحدها: أن ذلك الخوف إنما كان لما طبع الآدمي عليه من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى عليه السلام أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره وهذا قول الحسن. وثانيها: أنه خاف أن تدخل على الناس شبهة فيما يرونه فيظنوا أنهم قد ساووا موسى عليه السلام ويشتبه ذلك عليهم وهذا التأويل متأكد بقوله: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} وهذا قول مقاتل. وثالثها: أنه خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه فيدوموا على اعتقاد الباطل..].
وقال الماوردي في تفسيره "النكت والعيون" (3/52):
[{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يخيل ذلك لفرعون.
الثاني: لموسى كذلك.
{فَأَوْجسَ فِي نَفْسِهِ خِيِفَةً مُّوسَى} وفي خوف وجهان:
أحدهما: أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهمواْ أنهم فعلواْ مثل فعله وأنه من جنسه.
الثاني: لما هو مركوز في الطباع من الحذر. وأوجس: بمعنى أسر.
{قُلْنَا لاَ تَخَفْ...} الآية. تثبيتاً لنفسه، وإزالة للخوف].
ومن أصر على عود الضمير في {يخيل إليه..} أنه سيدنا موسى عليه السلام نقول له: إذا جاز تقدير أن الله تعالى كشف لسيدنا موسى ما يراه الناس من حركة عصي وحبال السحرة وكونها ثعابين وحيات ليرى هيئة ما يراه الناس دون أن يؤثر ذلك السحر فيه، فيجوز ولا مانع من ذلك، مع التفكير في ذلك ملياً، ونحن خاضعون لمراد الله تعالى، وللناس في فهم بعض الآيات أفهاماً مختلفة، لقوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، ومعلوم أن الاستنباط يختلف من عالم لآخر، إذ لم يتفق العلماء من عهد الصحابة لليوم على معنى واحد في جميع الآيات.
والله تعالى أعلم.
تفسير قوله تعالى {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وأن المراد بذلك فرعون
-
- مشاركات: 19
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:33 pm