تفسيرقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}:
قال الإمام الحافظ المفسر أبو حيان في "البحر المحيط" (1/147): [واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى نفيه، فقيل: المعنى لا يترك، فَعَبَّرَ بالحياء عن التَّرْك، قاله الزمخشري وغيره، لأن التَّرْك من ثمرات الحياء، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب. وقيل: المعنى لا يخشى، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته، ورجحه الطبري. وقد قيل في قوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ}الأحزاب:36، أن معناه تستحي من الناس. وقيل: المعنى لا يمتنع. وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى، يجوز أن يوصف الله تعالى بها، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به، وقيل: ينبغي أن تُمَرَّ على ما جاءت، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق. والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه، وما استحال أوّلناه بما يليق به تعالى، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، فلذلك أوَّله أهل العلم، وقد جاء منسوباً إلى الله مثبتاً فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صِفْرَاً حتى يضع فيهما خيراً»، وأُوِّلَ بأن هذا جارٍ على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه، وقد يجوز أيضاً في الاستحياء، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال،... ويجوز أن يكون قوله تعالى: {لا يَسْتَحْيِي}البقرة:26، على سبيل المقابلة، لأنه روي أن الكفار قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ومجيء الشيء على سبيل المقابلة، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به، شائع في لسان العرب، ومنه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}الشورى:40، وجاء ذكر الاستحياء منفياً عن الله تعالى، وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، فكل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته، يصح أن ينفي عن الله تعالى، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}البقرة:255، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}الإخلاص:3، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}المؤمنون:91، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}الأنعام:14، ونقول: الله تعالى ليس بجسم. فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض، وليس انتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه، ولا صحة نسبته إليه، كما ذهب إليه أبو بكر بن الطيب وغيره]. وقد نبَّه الحافظ أبو حيان في تفسيره هذا (4/474) على أنَّ قانون الإثبات والإمرار ليس صحيحاً بقوله أثتاء الكلام على اليدين: [وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا. وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}ص:75، و {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}يس:71، و {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}الفتح:10، و {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}طه:39، و {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}القمر:14، و {هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}القصص:88، ونحوها. فجمهور الأمة أنها تُفَسّر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام. وقال قوم منهم القاضي
أبو بكر بن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تحديد. وقال قوم منهم الشعبي، وابن المُسَيِّب، والثوري: نؤمن بها ونقر كما نصت، ولا نعين تفسيرها، ولا يسبق النظر فيها. وهذان القولان حديث مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ في لسان العرب]. وهذا كلام في غاية النفاسة.
تفسيرقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}:
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm