الحلقة الثانية في قضية العرش:
معنى {ويحمل عرش ربك}:
والذي يشير إلى أن العرش جسم مخصوص من ظاهر القـــرآن أربع آيات يظن مخالفونا أنها قاطعة في كون العرش جسما مخصوصا عظيما غير السموات والأرض، وهذه الآيات الكريمة هي قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} الحاقة: 17.
وقوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الزمر: 75.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} غافر: 7.
وقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} هود: 7.
وهذه الأربعة مؤولة عندنا، فالأولى منها معناها: أن الملائكة عليهم السلام يكونون قد حفُّوا وأحاطوا أرض المحشر يوم القيامة، وبعضهم قائم على تَحَمُّلِ تنفيذ الأمر الإلهي في محاسبة الناس وسَوْق بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار.
تفسير قوله تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) :
أي يتحمل إدارة الموقف وسوق الناس والأمور ثمانية صفوف من الملائكة (وكل ذلك بأمر الله تعالى وإرادته). وقوله فوقهم بمعنى (وإنا فوقهم قاهرون) أي ليس حسب أهواء الناس وما يريدون بل الأمر لله تعالى ينفذه الملائكة، وكلمة ( يحمل) مثل ما ورد في الأمانة (وحملها الإنسان) أي تحملها الإنسان ومعنى ( أرجائها) اي حولها محيطين بالخلق. وكذلك ( الذين يحملون العرش ومن حوله) يعني أن هناك في جميع جوانب الكون وأرض المحشر ملائكة موكلين وحافين بالخلق .
فيكون المعنى الكلي:
ويتحمل إدارة الموقف يوم القيامة ومحاسبة الناس وسوقهم إلى الجنة أو النار ثمانية صفوف من الملائكة. والصفوف مأخوذة من (وجاء ربك والملائكة صفاً صفاً). ومعنى جاء ربك أي جاء أمر ربك. ومنه قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} النحل:33.
وقد نص على ذلك علماء أهل البيت (آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وغيرهم من علماء السنة المنزهين، ومن ذلك:
من أهل البيت: الإمام الهادي (المتوفى298هـ) الذي يقول في "مجموع رسائله" ص (829):
[وحملها للعرش الذي هو المُلك فهو قيامها فيه ونهوضها. وقيامها به هو أمرها ونهيها، وإنفاذ أمر ربها، وإيصال الثواب إلى المثابين، والعقاب إلى المعاقبين، وما يكون من فعل الله في ذلك اليوم في المخلوقين. فأخبر سبحانه أنه يقوم بحساب الخلق في ذلك اليوم، وإيصال ثوابه وعقابه إليهم، وإنفاذ جميع أمره فيهم هذه الثمانية التي ذكرنا أولا كانت من الملائكة آلافاً أو أصنافاً... فأخبر أن الثمانية هم القائمون بأمر الله في ذلك اليوم ونهيه، وجميع ما يكون من فعله في خلقه، دون غيرهم من الملائكة المقربين، وقد شرحنا تفسير هذه الآية في كتاب على حدة شرحاً مبيناً، مفسراً مستغنياً بما مضى في الكتاب عن تكراره في هذا الموضع من شرح ذلك، وذلك كفاية لمن فهم واهتدى لمعرفة ربه فعلم].
ومن آل البيت والعترة المطهرة: الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (ت566هـ) وهو يقول في كتابه "حقائق المعرفة" ص (412):
[وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } المراد به والله أعلم: ويتولّى مُلك ربك يوم القيامة ثمانية أصنافٍ من الملائكة].
ومن آل البيت والعترة المطهرة: الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ت 614هـ) كما في المجموع المنصوري الجزء الثاني القسم الأول ص (281):
[اعلم أن أهل العلم اختلفوا في معنى العرش والكرسي، فمنهم من قال: العرش مُلكه تعالى، والكرسي علمه، وهؤلاء جروا على أصل اللغة، وما فسروهما به شائع في اللغة شياعاً يغني عن الاستشهاد، ويكون قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} معناه: يقوم بتدبير المُلك ويتولى حساب الخلائق في موقف العرض الذي لا حكم فيه لغيره، فيكون الحمل هاهنا مجازاً، كما يقال: فلان يحمل مُلك فلان إذا كان يلي تدبيره، ويتولى سياسته، ويقوم بصلاحه، ويتحمل أثقاله؛ والثمانية يراد بهم الملائكة عليهم السلام .. ويحتمل أن يكون ثمانية آلاف أو ثمانية أصناف ولا مانع من ذلك].
أقوال علماء أهل السنة المنزهين الموافقين لأهل البيت في ذلك:
4و5- قال ابن عادل الحنبلي (775-880هـ) في تفسيره (3/249) والفخر الرازي (ت606هـ) كذلك (7/12):
[القول الرابع ما اختاره القفال وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً في قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} ووصف العرش بقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} ثم قال: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} ثم قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} وقال : {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ}، وكذلك إثبات الكرسيّ].
وقال النيسابوري (ت850هـ) في تفسيره (2/117): [المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثَمّ ولا قعود ولا قاعد . واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري]. القفال الشافعي (291-365هـ) والزمخشري (476-538هـ).
وقال العضد الإيجي في المواقف (1/207) :
[ الرحمن على العرش استوى : فإنه يدل على الجلوس وقد عارضه الدليل العقلي الدال على استحالة الجلوس في حقه تعالى فيؤول الاستواء بالاستيلاء أو يجعل الجلوس على العرش كناية عن الملك].
القرطبي:
قال القرطبي في تفسيره (19/297):
[ومعنى ذو العرش: أي ذو الملك والسلطان، كما يقال: فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على سرير. ويقال: ثل عرشه: أي ذهب سلطانه. وقد مضى بيان هذا في" الأعراف" وخاصة في" كتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى"].
وقال القرطبي في تفسيره (7/220) أيضاً:
[واستوى إلى السماء أي قصد. واستوى أي استولى وظهر. قال:
قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق ...
والعرش الملك والسلطان. يقال: ثل عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزه. قال زهير:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها … وذبيان إذ ذلت بأقدامها النعل
... وقد يؤول العرش في الآية بمعنى الملك، أي ما استوى الملك إلا له جل وعز. وهو قول حسن..].
وقال الشربيني أيضاً في تفسيره (376/4):
[{ذو العرش} ومالكه ، أي : ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه ، وإن لم يكن على سرير ، ويقال : ثلّ عرشه ، أي : ذهب سلطانه].
أن الشيخ محي الدين بن عربي يؤول في الفتوحات وفي غيرها فيقول مثلاً في "الفتوحات" (3/95):
[..العرش عين الملك، يقال: ثُل عرش الملك إذا اختل ملكه عليه {الرحمن على العرش استوى} أي على ملكه سجود القلوب إذا سجد لا يرجع أبداً لأن سجوده للأسماء الإلهية لا للذات].
قال الشيخ عبد القاهر البغدادي (ت429هـ) في "أصول الدين" ص (113):
[ورويَ أن مالكاً سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معقول وكيفيته مجهولة والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب..... والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك. كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره. وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب : ثل عرش فلان إذا ذهب ملكه....].
وبذلك يتضح معنى الحمل واعتماد كثير من أئمة أهل العلم تفسير العرش بالملك، والله ولي التوفيق.
والله أعلم.
الحلقة الثانية في قضية العرش:
مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm
العودة إلى ”مسائل وقضايا التوحيد والإيمان“
الانتقال إلى
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↲ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↲ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↲ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↲ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↲ شرح الحديث
- ↲ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↲ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↲ القواعد والأصول العقائدية
- ↲ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↲ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↲ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↲ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↲ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↲ السيرة النبوية
- ↲ قضايا تاريخية
- ↲ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↲ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↲ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↲ الردود على المخالفين
- ↲ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↲ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↲ القواعد الأصولية الفقهية
- ↲ مسائل فقهية عامة
- ↲ المذهب الحنفي
- ↲ المذهب المالكي
- ↲ المذهب الشافعي
- ↲ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↲ النحو والصرف
- ↲ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↲ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↲ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↲ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↲ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↲ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد