تعليقات سماحة السيد المحدث حسن السقاف على مقدمة كتاب "العلو" للذهبي :
قال سماحة السيد حسن السقاف في مقدمة تحقيقه لكتاب " العلو" للذهبي : قال الذهبي:
"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي العظيم، رب العرش العظيم، على نعمـه السابغة، الظاهرة والباطنة، والحمد لله على نعمة التوحيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من فضله المزيد، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله خاتم الأنبياء وأشرف العبيد، صلى الله عليه وعلى آله صلاة أدَّخِرُها ليوم الوعيد.
أما بعد: فإني كنتُ في سنة إحدى وتسعين وستمائة جمعت أحاديث وآثاراً في مسألة العلو( 1 )، وفاتني الكلام على بعضها، ولم أستوعب ما ورد في ذلك، فذيَّلْتُ على ذلك مؤلَّفاً أوله: (سبحان الله العظيم وبحمده على حلمه بعد علمه). والآن فأرتب المجموع وأوضحه هنا( 2 )، وبالله أستعين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال الله تعالى - ومن أصدق من الله قيلاً -: { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}الأعراف:54، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}هود:7، وقال تعالى في وصف كتابه العزيز: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}طه:4:5، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}السجدة:4، إلى غير ذلك من آيات الاستواء( 3 ).
وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}فصلت:11،( 4 ) وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}البقرة:29،( 5 ) وقال تعالى: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ( 6 )فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}السجدة:5، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}( 7 ) وقال تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}آل عمران:55، وقـال تعـالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}النساء:157،( 8 ) وقال تعالى في الملائكة {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}النحل:50،( 9 ) وقـال تعـالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ( 10 ) أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ( 11 )أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا}الملك:17، وقال تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ* تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}المعارج:3_4،( 12 ) وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}غافر:36-37،( 13 ) إلى غير ذلك من نصوص القرآن العظيم جلَّ مُنَزِّلُهُ وتعالى قائله.
فإنْ أحببتَ يا عبدالله الإنصاف فقف مع نصوص القرآن والسنن، ثمَّ انظر ما قاله الصحابة والتابعون وأئمة التفسير في هذه الآيات( 14 )، وما حكوه من مذاهب السلـف، فإما أن تنطق بعلم، وإما أن تسكت بحلم، ودع المراء والجدال( 15 )، فإنَّ المراء في القرآن كفر، كما نطق بذلك الحديث الصحيح.
وسترى أقوال الأئمة في ذلك على طبقاتهم بعد سرد الأحاديث النبوية( 16 )، جمع الله قلوبنا على التقوى وجنبنا المراء والهوى، فإننا على أصل صحيح( 17 )، وعقد متين( 18 ) من أن الله تقدَّس اسمه لا مثل له( 19 )، وإنَّ إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة إذ الصفات تابعة للموصوف فنعقل وجود الباري ونميز ذاته المقدسة عن الأشباه من غير أن نتعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته، نؤمن بها ونعقل وجودها ونعلمها في الجملة من غير أن نتعقلها أو نشبهها أو نكيفها أو نمثلها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً( 20 ). فالاستواء كما قال مالك الإمام وجماعة معلوم والكيف مجهول( 21)".
الحواشي السفلية:
( 1 ) أي عندما كان عمره (18) سنة فكان إذ ذاك في مبتدأ الطلب!! وقد تراجع عما ورد في الكتاب من مستشنعات سنة (698) هـ أي لمّا صار عمره (25) سنة كما هو منقول من خطه ومُثْبَتٌ على غلاف مخطوطة العلو!! فتنبَّه!!
( 2 ) على أنه تراجع بعد ذلك عنه كما بينّاه في المقدمة!! وترتيب الكتاب الذي وعد به هنا لم يستوفه ويدل على ذلك التكرير والإعادة في أحاديث ستمر معنا إن شاء الله تعالى ونقول في تخريجها: تقدّم الكلام عليها!! والله المعين سبحانه!!
( 3 ) أقـول: ليس في هذه الآيات دلالة على العلو الحسي البتة كما أوضحته بإسهاب في تعليقي على ((دفع شبه التشبيه)) ومعنى الاستواء في هذه الآيات الكريمة هو القهر أو ما في معناه من الغلبة والاستيلاء والتدبير، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك (ت237هـ) في كتابه "غريب القرآن وتفسيره" ما نصه: [{الرحمن على العرش استوى} استوى: استولى]. وكذا قال ابن جرير الطبري أن من معاني استوى: استولى. فيكون معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: الرحمن سبحانه هو المدبر لأمر خلقه، أي: أخبركم يا عبادي بأنني ربُّ هذه المخلوقاتِ وقاهـرها ومدبِّر أمورها لا يخرج منها شيء عمَّا وضعته له، بدليل قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وبالتالي فهذا إخبار منه تعالى على أنَّ الخلق جميعاً تحت تدبيره وقهره، وقد أوَّل أي فسَّرَ الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (1/192) الاستواء بعلو المُلْك والسلطان، فالعرش هنا هو عبارة عن المُلْك أي جميع المخلوقات أي: هذا الكون المكوَّن وهو جميع السموات والأرض، فالاستواء في حق المولى سبحانه وتعالى ليس معناه الجلوس ولا القعود ومن اعتقد ذلك كفر بلا مثنوية!! ذلك لأنَّ الاستواء في اللغة يأتي على عدة معان منها:
1- الركوب، قال تعالى في الأنعام {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}الزخرف:13.
2- والنضج، قال تعالى: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}الفتح:29.
3- وتمام الشيء، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}القصص:14.
4- والاستقرار، قال تعالى عن سفينة سيدنا نوح عليه السلام {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}هود:44.
5- والتساوي، قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}الزمر:9.
6- والقصد وإرادة الخلق، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}البقرة:29.
فتفسير الاستواء عندنا هو القهر والاستيلاء، فيكون معنى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الرحمن مستولٍ وقاهرٌ لجميع هذا الملك وهذا الكون الذي يجري على نظام دقيق جداً، وبالتالي فهو إخبار منه تعالى بأنه هو المدبر لهذا العالم من عرشه إلى فرشه فكل شيء فيه لا يجري إلا بإرادته ومشيئته!!
قال الإمام الراغب (المتوفى سنة 502هـ) في كتابه ((المفردات في غريب القرآن)):
((واستوى فلان على عِمَالته، واستوى أمر فلان، ومتى عُدِّيَ بعلى اقتضى معنى الاستيلاء كقولـه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقيل معناه: استوى له ما في السموات وما في الأرض أي استقام الكل على مراده بتسوية الله تعالى إياه)) اهـ.
وليس لهذه الآية معنى إلا هذا لأنَّ فيها أربعة مذاهب:
الأول: قول من فسر آية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: الرحمن جالس ومستقر على جسم هو سريره تعالى وبالتالي يكون في العلو الحسي والجسمي لأنه أعلى شيء عندهم السرير الذي هو العرش وهو فوقه فيكون أعلى الأعلى. وهؤلاء هم المجسمة الذين يتخيلون من هذه الآية الكريمة ومن تفسير الاستواء فيها بالجلوس ما يتخيلون من جلوسه سبحانه على كرسي جميل وهذه عقيدة الوثنيين وهي عقيدة باطلة فاسدة.
والثاني: مذهب من يغمغم ويميّع المسألة ويدور بقرائن أقواله نحو تفسير الاستواء بالجلوس والاستقرار ثمَّ يقول بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل نُقِرُّ ونُمِرُّ!! وهذا مذهب فاسد باطل لأنَّ أصحابه خائفون من التصريح بشيء أو جاهلين بمعنى الآية باللغة العربية التي نزل بها القرآن!! وهؤلاء هم المرجفون المشككون!!
والثالث: مذهبنا وهو ما صرّحنا به من تفسير الاستواء وتأويله بالقهر والاستيلاء والتدبير، وإلزامنا بأنَّ ذلك يقتضي المغالبة أبطلناه فيما علقناه على "دفع شبه التشبيه" ص (124) وبقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}يوسف:21، ولم يقتض هذا المغالبة!!
والرابع: مذهب من قال العرش هنا هو الملك فقوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} معناه: استوى على عرش الملك والجلال، وهذا ليس بمذهب مستقل بل هو حقيقة داخل في مذهبنا، لأنَّ قائله لا ينفي وجود العرش وإنما يقول بأنَّ هذه الآية معناها أنَّ الله استولى على العرش ومن باب أولى على جميع المخلوقات التي هي دونه في العِظَم فهو تنبيه على الأدنى بالأعلى، وقد ظنَّ بعض المجسمة أنَّ القائل بهذا القول ينفي وجود العرش فراحوا يسردون الآيات والأحاديث على وجوده فعدوه مذهباً!
وأصحاب المذهب الثاني يدخلون حقيقة في المذهب الأول على خوف ووجل أو يبقون في التيه حيارى ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
وإذا كان المجسمة يقولون بأن معنى استوى على العرش جلس واستقرَّ!! فماذا يقولون في المشاركة التي تلزمهم من ورود بعض الأحاديث الصحيحة التي صححوها والتي تفيد العلم عندهم والتي فيها أن سيدنا جبريل يجلس على العرش أيضاً؟! روى البخاري (4924) ومسلم (161) في صحيحيهما واللفظ لمسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((جاورتُ بحراء شهراً فلما قضيتُ جواري نزلتُ فاستبطنتُ بطن الوادي فنوديت فنظرتُ.... فرفعتُ رأسي فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبريل عليه السلام فأخذتني رجفة شديدة فأتيتُ خديجة فقلتُ دثروني..)) الحديث.
ولفظ البخاري في صحيحه (4): ((فإذا المَلَكُ الذي جائني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه....)). ورواه البخاري في أربعة مواضع في صحيحه (4924و4925و4954).
مع أنَّ الله تعالى يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}البقرة:255، فنسب الكرسي إليه لا إلى سيدنا جبريل عليه السلام (حسب مفهومهم السقيم)!!
فهل هناك كراسٍ عديدة أم هو واحد أم أن ملخص الأمر تنزيه الله تعالى عن الجلوس والاستقرار والقيام والقعود؟! والاعتصام بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}الشورى:11، وبقوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}؟!!
( 4 ) ليس في هذه الآية دلالة على العلو البتة لأنَّ معنى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}البقرة:29، أي أراد خلقها وإيجادها وقد قال سبحانه {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ولم يقل (على السماء) قال الحافظ أبو حيان في ((البحر المحيط)) (9/288): [{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي قصد إليها وتوجَّه دون إرادة تأثير في غيرها، والمعنى: (استوى) إلى خلق السماء..... فقالتا: أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير من غير أن يُحَقَّقَ شيء من الخطاب والجواب...... فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف؛ ائت يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفاً لهم، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع، كما يقال: أتى عمله مرضياً مقبولاً] انتهى كلام الحافظ أبي حيان.
( 5 ) ليـس فيهـا دلالـة على العلو الحسي كالآية السابقة! وقد ذكر الحافظ أبو حيان في تفسيره ((البحر المحيط)) (1/217) سبعة أقوال في تفسيرها كلها تدل على التنزيه ثم قال عقيبها: ((وهذه التأويلات كلها فرار عمَّا تقرر في العقول من أنَّ الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحُلَّ فيه حادث أو يحل هو في حادث..... ومعنى التسوية: تعديل خلقهنَّ وتقويمه وإجلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنَّ وتكميله من قولهم: درهـم سـواء..)) اهـ. وقد تقرر أن من المقطوع المعلوم بالضرورة أنَّ الله سبحانه منزه عن المكان وأنه لا ينتقل من مكان لآخر وأنه لا يَحُلُّ في بعض خلقه فيستحيل تفسير قوله سبحانه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أنه ركبها أو صار فيها أو فوقها بعد أن لم يكن!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!! والمستدلُّ بهذه الآية على العلو الحسي لا يقصد إلا هذه المعاني الباطلة!! والله تعالى المستعان!!
( 6 ) قال الإمام الراغب في "المفردات": ((العروج ذهاب في صعود، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}المعارج:4، {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ}الحجر:14، والمعارج المصاعد قال تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ}المعارج:3)). قلت: والعروج والمعراج قد تمَّ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماوات ليرى ما فيها ويرى من آيات ربه الكبرى، لا يذهب لمكان فيه الله تعالى لأنَّ الله تعالى بيَّن في كتابه الكريم أن إسراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعروجه كان {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}الإسراء:1، وذكر بعده سيدنا موسى للتنبيه على أنَّ تكليمه له في السماء كتكليمه سبحانه لسيدنا موسى في الأرض إذ ليس هناك ثمَّ مسافة ولا قرب بالذوات!! والمعراج والعروج بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللملائكة هو إلى السماء؛ والسماء تُذَكَّرُ في لغة العرب، فيكون معنى لفظة {إِلَيْهِ}المعارج:4، في آيات العروج أي إلى السماء التي هي محلُّ تنزيله وبره وإكرامه ، أو إلى الله تعالى مجازاً، قال الحافظ أبو حيان في ((البحر المحيط)) (8/431): ((والضمير في {إلَيْهِ} عائد إلى السماء؛ لأنها تُذَكَّر؛ وقيل إلى الله)) وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}السجدة:5، المقصود بالأمر هنا أمر الوحي وهو إنزال سيدنا جبريل القرآن من السماء إلى الأرض لأنَّ سياق الآيات السابقة في صدر السورة يدل عليه وهو قوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} السجدة:2-3، والأمر أيضاً سيدنا جبريل لقـوله تعالى: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}الإسراء:85، ولقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}القدر:4، فالـمراد إذن أن سيـدنا جبريـل ينزل بأمـر الله تعالى ثمَّ يعرج إلى السماء وهي المقصودة بقولـه {إِلَيْهِ}.
قال الحافظ أبو حيان في ((البحر)) (8/431): ((قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك:....... {فِي يَوْمٍ}المعارج:4، من أيام الدنيا، {مِقْدَارُهُ}: أن لو سير فيه السير المعروف من البشر {أَلْفَ سَنَةٍ}، لأنَّ ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وقال مجاهد أيضاً: الضمير في مقداره عائد على التدبير، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبَّره البشر....)). ويجب أن ندرك أوَّلاً أنَّ الله جلَّ شأنه ليس جسماً جالساً على كرسي أو عرش وأنه منزه عن أن يكون في السماء أو في الأرض أي في مكان يتصوَّره الإنسان أو يستطيع أن يدركه فيه سبحانه فهو منزه عن الحلول في المكان بالكلية إذا عرفت هذا فيجب عليك أن تستحضر مثل قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} وقوله تعالى في الظل {ثمَّ قبضناه إلينا قبضاً يسـيراً} وغيرها وكل ذلك لا يعني ظاهره الحرفي!! وهذا هو أسلوب العربية!! وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليـه!! وهو مثل قوله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه}!!
( 7 ) قال الحافظ أبو حيان في البحر المحيط (9/18): (({الكلم الطيب} التوحيد والتحميد وذكر الله ونحو ذلك، وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقال كعب: إنَّ لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها)). أقول: فكرة عروج الكلام وصعوده بالمعنى الحسي فكرة يهودية جاء بها كعب الأحبار وهو لا يملك أن يُفَسِّرَ ويُشَرِّعَ، وأما جهابذة علماء الإسلام المنزهين لله تعالى كالحافظ أبي حيان فقالوا كما في تفسيره (9/18): ((وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه، لأنه تعالى ليس في جهة، ولأنَّ الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأنَّ الصعود يكون من الأجرام، وإنما ذلك كناية عن القبول، ووصفه بالكمال. كما يقال: علا كعبه وارتفع شأنه، ومنه ترافعوا إلى الحاكم ورُفِع الأمر إليه، وليس هناك علوٌ في الجهة)). وليس في هذه الآية الكريمة دلالة لما تريده المجسمة!! وقد تكلمنا على هذا فيما علقناه على ((دفع شبه التشبيه)) ص (131) فارجع إليه!! وارجع أيضاً إلى شرح الحديث رقم (27) في هذا الكتاب فإننا قد استكملنا هنالك معنى صعود العمل الصالح.
( 8 ) قد بينتُ فيما علقته على ((دفع شبه التشبيه)) ص (132) أن هذه الآية لا تصح أن تكون دليلاً لعقائد المجسمة لأنَّ سيدنا عيسى عليه السلام رفع إلى السماء الثانية وهو فيها كما جاء في حديث الصحيحين في حادثة الإسراء!! فيكون معنى الآيتين أن الله تعالى رفع سيدنا عيسى إلى السماء الثانية وهي مكانٌ لا يستطيع أعداؤه الذين أرادوا قتله أن يصلوا إليه فيه!! ولا يعني ذلك أنَّ الله في مكان في السماء وأنه جاء بسيدنا عيسى بجنبه تعالى الله عن ذلك الخيال!! وهذا مثل قوله تعالى في الظـل: {ثمَّ قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} فتأمل والله الموفق.
( 9 ) قال الحافظ أبو حيان في ((البحر المحيط)) (6/541): ((قال الكَرْماني: والملائكة موصوفون بالخوف، لأنهم قادرون على العصيان وإن كانوا لا يعصون، والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، فإن علقته بِـ (يخافون) كان على حذف مضاف، أي: يخافون عذابه كائناً من فوقهم، لأنَّ العذاب إنما ينزل من فوق، وإن علقته بِـ (ربهم) كان حالاً منه، أي: يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً، لقوله {وهو القاهر فوق عباده} {وإنا فوقهم قاهرون})). وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في ((دفع شبه التشبيه)) ص (131): ((واحتجَّ بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وبقوله {وهو القاهر فوق عباده} وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر وأنَّ الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثمَّ إنه كما قال {فوق عباده} قـال {وهـو معكـم})).
( 10 ) ليس معنى قوله تعالى {ءأمنتم من في السماء} أنَّ الله تعالى موجود في السماء البتة!! بل معناها في لغة العرب: ءأمنتم مَنْ شأنه عظيم، لأنَّ العرب إذا أرادت تعظيم شيءٍ وصفته بالعلو فتقول: فلان اليوم في السماء، وفي المقارنة تقول العرب: أين الثرى من الثريا؟ والثريا نجم عال في السماء.
فيكون معنى الآية الكريمة: هل أمنتم من العظيم الجليل صاحب الرفعة والربوبية والبطش أن يخسف بكم الأرض....، أو يكون المراد بِـ {مَنْ في السماء} سيدنا جبريل أو أيَّ مَلَك يرسله الله ليخسف أي قرية أو أيَّ موضع من الأرض، والملائكة مسكنها السماء كما هو معلوم!! انظر التعليق على ((دفع شبه التشبيه)) ص (133) و (139).
) ) قال الحافظ أبو حيان في "البحر المحيط" (10/226) في تفسير الآية: [{مَنْ فِي السَّمَاءِ}الملك:16، هذا مجاز، وقد قام البرهان العقلي على أنَّه تعالى ليس بمتحيز في جهة، ومجازُهُ أنَّ ملكوته في السماء؛ لأنَّ {فِي السَّمَاءِ} صِلَةُ (مَنْ) ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه وهو: استقرَّ؛ أي: مَنْ في السماء هو، أي: ملكوته، فهو على حذف مضاف، وملكوته في كل شيء، لكن خصَّ السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته، وثَمَّ عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم؛ إذ كانوا مُشَبِّهَةً فيكون المعنى ءأمنتم من تزعمون أنه في السماء، وهو المتعالي عن المكان. وقيل (مَنْ) على حذف مضاف أي خالق مَنْ في السماء،وقيل مَنْ هم الملائكة، وقيل جبريل هو الملك الموكَّل بالخسف وغيره، وقيل مَنْ بمعنى على ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان، وفي التحرير: الإجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار، لأنَّ مَنْ قال مِنَ المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء] اهـ.
( 11 ) تقدّم تفسير المعراج في التعليقات السابقة والمراد بقوله إليه أي إلى السماء لأنها تذكر وتؤنَّث، فلا دلالة في هذه الآية الكريمة على معتقد المجسمة!!
( 12 ) أقـول: سيدنا موسى عليه السلام لم يدَّع بأنَّ الله تعالى في السماء وإنما تخيل فرعون الكافر المجسم أنَّ الله عزَّ وجل في السماء قياساً منه الخالق - وهو إله سيدنا موسى - على المخلوق وهو ما يراه بعينه من الخلق وما يسمعه من الشرائع المحرَّفة التي كانت قبله!! ولم يأت في نص واحد أنَّ سيدنا موسى قال لفرعون بأنَّ الله تعالى في السماء!! ولو أنهم أتموا الآية الكريمة لانقلب الأمر ضد ما يريدون، فقد ذكر الله عزَّ شأنه عن إمام المجسمة فرعون أنه ظنَّ أنَّ رب سيدنا موسى عليه السلام في السماء إذ قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ}غافر: 36-37. فبين الله تعالى في آخر هذه الآيات أنَّ من ظنَّ أنَّ الله تعالى في السماء فقد صُدَّ عن سبيل المعرفة والعلم بالله تعالى!!
قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره (14/119): ((إنَّ فرعون لـمَّا طلب حقيقة الإله من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلّاقية ثلاث مرات، فإنه لـمَّا قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}الشعراء:23، ففي المرة الأولى قال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}الشعراء:24، وفي الثانية قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ}الشعراء:26، وفي المرة الثالثة قال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}الشعراء:28، وكل ذلك إشارة للخلّاقية، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} فطلب الإله في السماء، فعلمنا أنَّ وصف الإله بالخلاقية وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى عليه السلام وسائر جميع الأنبياء، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة)).
( 13 ) إن أقوال أئمة التفسير ضد ما يريد الذهبي باستدلالاته والحمد لله رب العالمين!! على أنه قد تبين له فيما بعد أنَّ ما ذهب إليه من مغالاة في الإثبات هو باطل من القول والمذهب فرجـع عنـه!! والحمد لله رب العالمين.
( 14 ) وكأنَّ الذهبي هنا يدور فلكه في هذا الكتاب بالنطق بالعلم أو السكوت بحلم!! وعلى كل حال فلا أريد الآن أنْ أتعقبه وأرد على جملته هذه؛ وهي قوله: (فإما أن تنطق بعلم وإما أن تسكت بحلم ودع المراء والجدل)!! وسيتبين لكل منصف يتابع تحقيقنا ونقدنا وتخريجنا لما أورده الذهبي في هذا الكتاب من غلطات وتلبيسات وتدليسات واستدلالات باطلة وقعت للذهبي أن هذه الجملة كما يقال:(كلمة حق أريد بها باطل)!! والأصل في ذلك أن المجسمة ينظرون للأحاديث سواء الصحيحة والموضوعة في النهي عن الجدال مثلاً مع غفلتهم عمَّا جاء في القرآن الكريم! وهذه عقلية كثير من أصحابنا أهل السنة في كثير من القضايا! إذ كيف نترك الجدال وهو طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والله تعالى يأمر سيدهم به فيقول وهو أصدق القائلين: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}النحل:125، ويقول أيضاً في كتابه العزيز {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا}هود:32، فالذهبي هنا لم يأخذ بمثل هذه الآيات!! إنما جادل ونافح عن العلو الحسي الباطل وجلب في الاستدلال له الأحاديث الموضوعة والواهية والتالفة والألفاظ الشاذة باعترافه في كثير من المواضع فيشمله قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}غافر: 5!! وبقوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ}الأنفال: 6!! فلا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
( 15 ) أقوال الأئمة ليست من الحجج الشرعية!! لأنَّ الحجة كما هو مقرر في علم الأصول هي: قول الله تعالى وهو القرآن الكريم، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي السنة بعد التأكد من صحتها وعدم شذوذ الألفاظ التي فيها وأنها ليست من تصرّف الرواة، والإجماع ولم يُجْمَعْ على ما يريده الذهبي، والقياس الذي هو العقل، فخرج بذلك قول الصحابة والتابعين والأئمة وغيرهم. ثمَّ إنَّ الذهبي اعترف أن أقوال بعض من ذكرهم من الذين يصفهم بالأئمة هنا قد غالوا في الإثبات وتوسَّعوا في العبارات فقال (فلا أنا موافق على تلك العبارات ولا مقلد لهم والله يغفر لهم ولا ألتزم بهـا)!! فتأمل!! ثمَّ من أولئك الأئمة الذين حشر أسماءَهم في كتابه من يعتقدون ويدينون الله تعالى بضد ما زعم كما هو معلوم عند الموافق والمخالف!! وبذا يتبين سقوط دعواه واحتجاجه هنا!!
( 16 ) رجع عنه فيما بعد ولو كان صحيحاً لما تبين له فساده ووجوب الرجوع عنه!!
( 17 ) هيهات!!
( 18 ) قوله (لا مثل له) هذا صحيح ولا ريب فيه!! وإذا كان كذلك فَلِمَ ذكرتَ في هذا الكتاب كثيراً من الأحاديث المعلة والألفاظ الشاذة والمنكرة والحجج الواهية المخالفة لهذا الأصل؟!
( 19 ) عادتهم (أعني المشبهة والمجسمة) ذِكْر ألوان التشبيه وأصناف التجسيم وأشكال التخبيص والتلبيس ثمَّ إرداف ذلك بمثل هذه الجمل التي لا محلَّ لها من الإعراب والمعنى!!!
( 20) لم يقل الإمام مالك رحمه الله تعالى هذه العبارة بالألفاظ التي ذكرها المصنف هنا وإنما قال كما في "فتح الباري" (13/406-407): ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولا يقال عنه كيف وكيف عنه مرفوع)). وانظر التعليق على ((دفع شبه التشبيه)) ص (96) وكلام الحافظ ابن الجوزي ص (122). وسيأتي إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب في التعليق على النص رقم (317) ما هو المعنى الحقيقي لقول الإمام مالك هذا.
تعليقات سماحة السيد المحدث حسن السقاف على مقدمة كتاب "العلو" للذهبي :
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm